الخامسة: إذا قال: من السُّنة كذا، أو السنة جارية بكذا، فعند (أئمتنا، والجمهور): أنه حجة كذلك(1). وعند (الكرخي، والصيرفي): أنه ليس بحجة. ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياته صلى الله عليه وآله وسلم أو بعد وفاته. (الحفيد): يُعتبر فيه ما تقدم(2)، وكذا التابعي إذا أطلق. وقيل: موقوف، وهو أخير قولي (الشافعي).
السادسة: إذا قال: كنا نفعل، أو كانوا يفعلون، والختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ: أنه حجة ـ خلافاً (لبعض الحنفية، والمحدثين) ـ لظهور(3) قوله كنا، في أنهم فعلوه في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم، واطلع /215/ عليه ولم ينكره، فهو من نوع المرفوع، ولاحتمال قوله: كانوا، لذلك، وللإجماع بعده صلى الله عليه وآله وسلم. (المنصور، والحفيد): لا فرق بين كنا وكانوا في احتمالهما لذلك وللإجماع. (بعض الأصوليين): بل حجة؛ لظهوره في عمل الجماعة، فهو من الإجماع المنقول بالآحاد.
وقول التابعي: كانوا يفعلون، يدل على فعل بعض الأمة، لا كلهم، إلا أن يصرح بذلك.
السابعة: إذا قال عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو من الإسناد المتصل عند (الجمهور)؛ لأن الظاهر سماعه منه بلا واسطة. (أئمتنا): ويحتملها فيكون من المرسل(4). (الإمام، وغيره): بل مرسل، إذ العنعنة تقتضي الواسطة.
(المحدثون): فأما غير الصحابي فعنعنته من المتصل بشرط: سلامتِهِ من التدليس، وملاقاتِهِ لمن روى عنه(5).
__________
(1) أي: من نوع المرفوع المسند لظهوره في أنها سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
(2) من كونه من الأكابر لا من غيرهم فمحتمل.
(3) احتجاج لكونه حجة؛ لإقرار النبي في: "كنا" ، وللإجماع في: "كانوا" أو الإقرار.
(4) بناءاً على تعريفهم للمرسل بأنه: ما سقط منه راو صحابي أو غيره، كما تقدم أو أكثر.
(5) وهو شرط البخاري، وقيل: معاصرته تكفي لاحتمال اللقاء، وهو شرط مسلم وهو الأقرب.(1/246)
(221) فصل وإذا ذَكَر /216/ الصحابي حكماً طريقه التوقيف كالمقَدَّرات والأبْدَال(1) والحدود. فعند (بعض الحنفية): أنه يحمل على التوقيف(2). (ابن حزم)(3): لا يحمل عليه. (أئمتنا، والقاضي، وأبو الحسين): إن كان للإجتهاد فيه مسرح حمل عليه، وإلا فالتوقيف.
ومطلق تفسيره(4) موقوف عند بعض المحدثين، وقال بعضهم: إن كان متعلقاً بسبب النزول فهو في حكم المرفوع، وإلا فموقوف.
(222) فصل وإذا روى خبراً فإما أن يكون نصاً أو ظاهراً أو مجملاً.
إن كان نصاً وخالفه تعين نسخه عنده(5). والمختار: العمل بالنص غالباً.
وإن كان ظاهراً وحمله على غيره، فالمختار: - وفاقاً (للجمهور) -: حمله على الظاهر غالباً، وفيه قال (الشافعي): (( كيف أترك الحديث لقول من لو عاصرته لحججته )) . (بعض الحنفية): بل يحمل على تأويله مطلقاً. (القاضي، وأبو الحسين، وابن الحاجب)(6): إن صار إليه لعلمه بقصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم /217/ وجب المصير إليه، وإن صار إليه لدليل، نظر فيه، فإن اقتضاه فكذلك، وإلا فلا. (الإمام): محل اجتهاد.
وإن كان مجملاً، وحمَلَه على أحد محتمليه فالظاهر حمله عليه بقرينة، وتوقف (الشيرازي).
[مراتب رواية غير الصحابي وطرقها]
(223) فصل وأما كيفية نقل غير الصحابي فثماني مراتب:
__________
(1) أي: ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله.
(2) أي: التعريف من الشرع، بحيث لا يعرف بالنظر والاجتهاد.
(3) ابن حزم، هو: العلامة الشهير: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الفارسي الأصل ثم الأندلسي القرطبي، إمام مجدد في مذهب الظاهرية، توفي عشية يوم الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 18/184.
(4) أي تفسير الصحابي الغير مسند إلى النبي صلى الله عليه وآله.
(5) حملاً له على السلامة، لا في حقنا فالعبرة بالنظر.
(6) سقط من (ب): ابن الحاجب.(1/247)
(الأولى): قراءة الشيخ، وهي أقواها على المختار، فإن قصد إسماعه وحده أو مع غيره، فله أن يقول: حدثني، وأخبرني، وحدثنا، وأخبرنا، وقال لي، وسمعته، وإن لم يقصد لم يجز، بل يقول: حدث، وأخبر، وسمعته.
(الثانية): قراءة الراوي عليه من غير نكير ولا ما يوجب سكوتاً من إكراه أو نحوه من المقدرات المانعة من الإنكار، وتسمى عرْضاً، ورجحها (أبو حنيفة(1)، ومالك بن أنس) على الأُولى، وقيل: سواء، وتصح الرواية بها(2) /218/ خلافاً (لبعض الظاهرية)؛ لاقتضاء العرف أن سكوته عند ذلك تقرير، فيقول: حدثنا أو أخبرنا، مقيِّداً بقراءتي عليه، ومطلقاً أيضاً وفاقاً (للفقهاء الأربعة). وقيل: يمتنع، واختاره (الإمام) إلا لقرينة تدل على إرادة التقييد.
(الثالثة): قراءة غيره(3) عليه، وهي كقراءته مع اعتبار ما تقدم.
(الرابعة): قوله بعد فراغ القراءة عليه: الأمر كما قرأت، وله أن يقول: حدثني، وأخبرني مقيداً ومطلقاً، وفاقاً (للجمهور).
(الخامسة): إذا قال القارئ بعد فراغه: سَمِعْتَ هذا؟ فأشار برأسه، فهي قائمة مقام التصريح في جواز العمل، وللراوي أن يقول: حدثني، وأخبرني مقيداً بقراءتي عليه، وفي الإطلاق قولان. (الإمام): وأظهرهما المنع.
(السادسة): إذا قال بعد فراغه: هل أروي هذا عنك؟ فقال: نعم، فعند (المتكلمين) لا تجوز /219/ له الرواية إذ لم يُسَلَّط عليها ولا سمع منه شيئاً، فيكون كاذباً. (الإمام): يجوز مع التقييد، لا الإطلاق، ويلزمه العمل بها اتفاقاً.
__________
(1) الإمام أبو حنيفة النعمان من أبرز أئمة النظر والاجتهاد، إليه ينسب المذهب الحنفي، توفي رحمه الله سنة خمسين ومائة.
(2) أي: من دون أن يقول الشيخ: ارو عني.
(3) أي: غير الراوي مع حضوره.(1/248)
(السابعة): الرواية عن الخط، وتسمى: (الوجادة والكتابة)، نحو: أن يرى مكتوباً ـ بخطه أو بخط من يثق به ـ : سمعت كذا عن فلان، ويجوز العمل به عند (أئمتنا، والشافعي، وأكثر الأصوليين) إن غلب على ظنه صحته، لا الرواية عند بعضهم، والمختار جوازها بغير ما يوهم السماع. ونحو: أن يقول: هذا خطي، فيجوز العمل به لا الرواية، إلا إذا سلطه عليها صريحاً أو بقرينة. ونحو: أن يكتب إلى غيره: إني سمعت الكتاب الفلاني من فلان؛ فللمكتوب إليه العمل به، إذا علم أو غلب على ظنه أنه خطه، لا الرواية؛ فلا يقول: سمعته، أو: حدثني، أو نحوهما مما يوهم السماع. (الرازي)/220/: بل يقول: أخبرني، والأحوط أن يقول: رأيت مكتوباً بخط ظننت أنه خط فلان؛ ليخرج عن العهدة.
(الثامنة): الإجازة، وهي قوله للموجود المعين: أجزت لك رواية الكتاب الفلاني، أو: ما صح عندك أنه من مسموعاتي ومستجازاتي.
ومختار (أئمتنا، والجمهور): جوازها، خلافاً (لأبي حنيفة، وغيره)، وجواز حدثني، وأخبرني إجازة مقيداً لا مطلقاً، ومنعهما(1) قوم، فأما أنبأني فجائز باتفاق للعرف.
وتجوز لجميع الأمة الموجودين، وفي: أجزت لنسل فلان، أو لمن يوجد من بني فلان خلاف، والإجماع على منع من يوجد مطلقاً. فأما إذا قال: هذا مسموعي(2)، فلا تجوز له الرواية إذ لم يُسَلَّط عليها، ويجوز العمل.
ومنها(3): المناولة في الأصح، وقد تسمى عرضاً، وهي: أن يقول الشيخ ـ مشيراً إلى كتاب معين قد سمعه ـ: خذه /221/ وحدث به عني فإني قد سمعته على فلان، وله أن يقول: حدثني وأخبرني مناولة مقيداً لا مطلقاً.
فأما المناولة باليد فلا اعتبار بها مع التعيين والتسليط(4).
(224) فصل وطرق الرواية المقبولة والمردودة والمختلف فيها أربع:
__________
(1) أي: حدثني وأخبرني.
(2) دون أن يسلطه على الرواية صريحاً أو بقرينة.
(3) أي: من الإجازة.
(4) أي: مع التعيين بالإشارة والتسليط للراوي على الرواية.(1/249)
فالمقبولة اثنتان: (الأولى): أن يعلم قراءة شيخه له أو قراءته عليه، ويذكر ألفاظها ووقتها، فيجوز له العمل والرواية، وهي أقواهما.
(والثانية): أن يعلمها جملة من غير تذكر ألفاظها وتحقق وقتها، فيجوزان(1) له.
والمردودة أن يعلم أنه ما سمع، أو يظن ذلك أو يشك فيه، فلا يجوزان له.
والمختلف فيها: أن يظن السماع ولا يعلمه، فلا يجوزان له عند (أبي طالب، وأبي حنيفة). وعن (الشافعي، وأبي يوسف، ومحمد): يجوزان. (الإمام، والحفيد): يجوز العمل دونها /222/.
القياس
[13] باب القياس
هو في اللغة: التقدير والمساواة. وأما في الاصطلاح:
فقياس الطرد: إلحاق فرع بأصل في حكمه؛ لاشتراكهما في العلة في نظر المجتهد، ولا يلزم المخطّئة(2) زيادة القيد الأخير، بخلاف المصوبة(3)؛ لأن قياسه صحيح عندهم وإن تبين الغلط والرجوع.
__________
(1) أي: العمل والرواية.
(2) المخطئة، هم: القائلون إن في الواقعة حكماً لله تعالى معيناً، فمن وافقه أصاب ومن خالفه أخطأ، ثم اختلفوا بعد ذلك، فمنهم من قال: إنه لا دلالة عليه قطعاً ولا ظناً، وإنما هو كدفين يعثر عليه. ومنهم من قال: عليه دلالة ظنية. ومنهم من غلا، وقال: إن عليه دلالة قاطعة. أنظر: مقدمة الانتصار.
(3) المصوبة، هم القائلون بأن الواقعة ليس فيها حكم معين؛ بل المطلوب من كل مجتهد ما أداه إليه نظره، وأن الآراء كلها حق وصواب، وهم: أئمة الزيدية والجماهير من المعتزلة والمحققون من الأشعرية، وعليه جمهور الفقهاء أبوحنيفة والشافعي ومالك وأتباعهم. كذا في مقدمة (الانتصار). وسيأتي كلام للمؤلف في هذه المسألة في باب الاجتهاد والتقليد.(1/250)