مذهب الناصرية، وهم: أتباع الإمام الناصر الأطروش ومقلدوه، وكان معظم أتباعه في العراق وفارس، وكان الجيل يعتقدون أن مخالفة مذهبه ضلال، وقد قام بخدمته جملة من علماء الزيدية.
وظهر بعد ذلك أئمة مجتهدون كانت لهم اجتهادات صائبة وأنظار ثاقبة، واختيارات حسنة، دونها المؤلفون وحفظت في بطون الكتب وصدور العلماء.
فهذه لمحة مقتضبة عن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية، أسأل الله تعالى أن تكون مؤدية للغرض المقصود والحمد لله رب العالمين.

ترجمة المؤلف
مولده ونشأته
العلامة البارع المجتهد صارم الدين إبراهيم بن محمَّد بن عبد الله بن الهادي بن إبراهيم بن علي بن المرتضى بن المُفَضَّل بن منصور بن محمد (الملقب بالوزير) بن المفضَّل بن الحجَّاج بن علي بن يحيى بن القاسم بن يوسف الدَّاعي بن يحيى المنصور بن أحمد الناصر بن يحيى الهادي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم. اشتهر رحمه الله في الأوساط العلمية والثقافية بالسيد صارم الدين الوزير.
وقد ذكرت المصادر التي رجعت إليها أن مولده كان في شهر رمضان سنة (834هـ/1431م)، ولكنها لم تحدد المكان الذي وُلد فيه.
وبالرجوع إلى أخبار أسرته نجد أن والده وُلِد في (صعدة) ونشأ بها، ثم رحل إلى (عَيَان) وهي قرية صغيرة من بلاد سفيان جنوبي صعدة على بعد حوالي سبعين كيلو متراً، وأقام بها فترة، ثم انتقل إلى (صنعاء)، وأقام بها حتى تُوُفِّي، فلعل مولد المؤلف كان في إحدى هذه البلدان.(1/21)


وقد تهيأت له ظروف النشأة الصالحة والتربية القويمة، ففي أسرة فاضلة عريقة عرفت بمكارم الأخلاق، وتميزت بالمعارف والعلوم الواسعة؛ تربى ونشأ صارم الدين.. نشأ في حجر والده - الذي كان على جانب كبير من العلم والصلاح، وكان من أعيان أهل زمانه وكبرائهم وأهل الرئاسة فيهم - فعلمه الحَسَن من الآداب، ورسم فيه مكارم الأخلاق، ودفع به نحو المعالي وطلب العلم منذ نعومة أظفاره، فأقبل عليه بجد واجتهاد، وأخذ يترقى في سلالم المعارف حتى صار نجماً لامعا في سمائها.
عصر المؤلف
عاش المؤلف معظم عمره في القرن التاسع الهجري، ذلك القرن الذي شهدت فيه اليمن كثيراً من التحولات والاضطرابات على مختلف الأصعدة، ولكي يتمكن القارئ من تصور الظروف المحيطة بحياة المؤلف، نلمح فيما يلي إلى جانب من واقع الحياة السياسية والفكرية في عصره:
الجانب السياسي
في العقد الثالث من عمر المؤلف، وبينما كان غارقاً في تحصيل العلوم والمعارف، كانت اليمن تعيش حالة مؤسفة من التمزق والانقسام، فَمُلك بني رسول أصبح يتلاشى، وعروشهم صارت تتهاوى، بعد أن حكموا معظم البلاد اليمنية أكثر من قرنين من الزمان، وعندما استحكم فيهم الضعف، انقض على ما بقي من دولتهم وزراؤهم من بني طاهر، وأقاموا على أنقاض دولتهم دولةً بدأت ببسط نفوذها على الجهات الغربية والجنوبية من اليمن.
وبينما كانت تلك المناطق تحترق تحت وطأة توسع بني طاهر، كانت المناطق الشمالية والشرقية تئن من التمزق والشتات، حيث كان بعضها تحت سيطرة رؤساء العشائر، والبعض الآخر موزعاً بين أئمة الزيدية، وأمراء الأشراف، فكوكبان ونواحيها في يد الإمام المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي، الذي أعلن نفسه إماماً بعد وفاة الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى، وصنعاء في يد معارضه الإمام الناصر بن محمد (من أحفاد المطهر بن يحيي)، ومناطق صعدة في يد آل المؤيد، وأشراف الجوف من الحمزات.(1/22)


وكانت إقامة المؤلف في تلك الفترة في صنعاء، ثم وقعت بينه وبين الإمام النَّاصر بن محمد وحشة، فانتقل إلى صعدة مع بعض أهله، واستقر هنالك زمناً للتدريس والتأليف.
وساعدت الأيام الإمام الناصر فتوسع نفوذه، وتمكن من أسر الإمام المطهر، وأودعه السجن بذمار، ولكنه فر منه وعاد للزعامة، وسرعان ما تطورت الأحداث، فوقع الإمام الناصر في قبضة الإمام المطهر بعد أن احتال عليه أهل (عرقب) من الحدا، وقبضوا عليه، ثم سلموه للمطهر، فأودعه السجن حتى توفي سنة (868 هـ/1464م)، ولكن ولده الأمير محمد بن الناصر خَلَفه على صنعاء، وأعلن نفسه إماماً وتلقب بالمؤيد بالله، وفي تلك الأثناء كان الطاهريون يزحفون نحو صنعاء، وعندما بلغوا مشارفها فرضوا عليها طوقاً من الحصار، فصالحهم الإمام المؤيد، وسلمهم المدينة خوفاً من أن يستولي عليها الإمام المطهر، ثم انقلب عليهم وأخرجهم منها، فحاولوا الاستيلاء عليها مرة أخرى، ولكنهم فشلوا.
أما الإمام المطهر فانتقل من كوكبان إلى ذمار باتفاق مع الطاهريين، وأقام بها حتى توفي سنة (879 هـ/1474م)، فقام ولده عبد الله بها محتسباً حتى أخرجه آل طاهر منها.
ومع مرور الأيام ضعفت شوكة بني طاهر، وشهدت البلاد مزيداً من الانقسامات. قال العلامة الكبسي في (اللطائف السنية): "ولما دخلت سنة إحدى وتسعمائة كانت اليمن شعوباً وقبائل، وقاتل ومقتول، وسيف وعَوَاسل، وكانت التهائم واليمن الأسفل مثل تعز وعدن وَلَحْج وأبْيَن إلى رداع تحت بسطة السلطان عامر بن عبد الوهَّاب (الطاهري)، وصنعاء ومخاليفها تحت يد محمَّد بن الناصر المؤيد، وكوكبان وما إليها تحت يد أولاد المطهَّر بن محمد بن سليمان، والشَّري والظواهر وصعدة متفرقة بين آل المؤيد، والأشراف الحمزات آل المنصور، والإمام محمد بن علي السِّراجي الوشلي".(1/23)


وبعد سنوات من مطلع القرن العاشر توفي المؤيد محمد بن الناصر (سنة 908 هـ/1502م)، واستعاد بنو طاهر قوتهم على يد السلطان عامر بن عبد الوهاب، الذي أخذ في التوسع، وبسط سيطرته على مناطق كثيرة، وزحف نحو صنعاء، وحاصرها وضربها بالمنجنيق، وأسر أقطاب قادتها: الإمام محمد بن علي الوشلي، والأمير أحمد بن الناصر الذي خلف أخاه على صنعاء، وضم إليهما ولدي السيد صارم الدين: الهادي، وأحمد، وكان دخول السلطان صنعاء سنة (910 هـ/1505).
وبعد استيلاء السلطان عامر على صنعاء وبسط نفوذه فيها، توفي المؤلف سنة (914هـ/1508م)، والسلطان في أوج قوته، وظل كذلك حتى أخرجه الشراكسة من صنعاء سنة (923 هـ/1517م) وقتلوه ?وتلك الأيام نداولها بين الناس?.
الجانب الفكري والثقافي
وأما في الجانب الفكري والثقافي، فإن اليمن ـ رغم الاضطرابات السياسية والتمزق المأساوي ـ كانت تعيش زخما فكريا وأدبياً يلمسه من دقق النظر في تلك الحقبة الزمنية، فالعلماء والأئمة الذين كانوا غارقين في النزاعات والحروب لم ينشغلوا نهائيا عن الدرس والتأليف والمناظرات الفكرية والمساجلات والمراسلات الأدبية، حتى أن بعضهم ألف في سجنه محاسن الكتب، ونظم جواهر القصائد.
ومن أقرب الأمثلة على ذلك: الإمام المطهر بن محمد، الذي نظم أثناء سجنه بذمار قصيدته المشهورة في السيرة النبوية والتي سماها: (انقضاء الوطر بمدح سيد البشر)، ومطلعها:
ماذا أقول وما آتي وما أذر ... في مدح من ضُمِّنت في مدحه السور
وعند الإطلاع على كتب الإجازات، نجد أن كثيراً من السماعات والقراءات تمت أيام ذلك الصراع المرير، إما في سجن أو في حصن أو في أي مكان مستقر أو غير مستقر.(1/24)


ومما يؤكد ما ذكرنا أنه برز في تلك الفترة كثير من العلماء الأفذاذ في ميدان المعرفة، مستمدين من آثار المدارس التي زخر بها الجيل الذي سبقهم، جيل أئمة العلم: يحيى بن حمزة، ومحمد بن الحسن النحوي، وأحمد بن يحيى المرتضى، ويوسف بن أحمد بن عثمان، ومحمد بن إبراهيم الوزير، ومن عاصرهم من أئمة العلم وأساطين المعرفة.
فممن اشتهر من العلماء في عصر المؤلف إلى جانب مشايخه وتلاميذه جملة من العلماء المبرزين خلدتهم المعارف والعلوم التي دونوها للأجيال، ومنهم:
الإمام عز الدين بن الحسن، الإمام العالم صاحب الأنظار الثاقبة، والآراء السديدة الصائبة، له مؤلفات منها: (شرح البحر، وشرح منهاج القرشي، والفتاوى، والعناية التامة)، وغيرها في شتى الفنون. توفي سنة (900 هـ/1494م).
والعلامة محمد بن علي البكري، العلامة الأصولي البارع، له (شرح على منهاج القرشي، وشرح لبيان بن المظفر)، وغيرها. توفي سنة (882هـ1477م).
والعلامة عبد الله بن محمد النجري، صاحب الكتب الشهيرة في الفقه وأصول الدين منها: (شرح القلائد، ومختصر الثمرات شرح آيات الأحكام)، وغيرها في الفقه والنحو والمنطق. توفي سنة (877 هـ/1472م) بقرية القابل شمال صنعاء، وبها دفن.
و يحيى بن أحمد بن علي مرغم? العلامة الفقيه أحد تلامذة الإمام المهدي أحمد بن يحيى، له (شرح البحر)، لم يكمله، وأكمله الإمام المطهر بن محمد، توفي سنة (836 هـ/1433م)، ودفن في مشهد له بالأبناء بهجرة السر ببني حشيش.
ويحيى بن أحمد مظفر، العلامة الفقيه، صاحب كتاب (البيان) الذي صار معتمد العلماء في معرفة المذهب، توفي سنة (875 هـ/1370م)، ودفن بهجرة حمدة من عيال سريح.
وعبد الله بن مفتاح، الفقيه الفروعي، صاحب (شرح الأزهار)، الذي لم ينتفع الزيدية بكتاب من كتب الفقه مثلما انتفعوا به. توفي سنة (877 هـ/1472م) ودفن جنوبي صنعاء القديمة، وهو اليوم على جانب ما يسمى بشارع تعز، بالقرب من باب اليمن.(1/25)

5 / 66
ع
En
A+
A-