واختلف في أخبار/208/ وردت، من أي القسمين هي فذهب (الكرخي، وأبو عبد الله) إلى أن خبر (القرعة) (1) (والمصراة) (2) مما خالف الأصول نفسها، فيردان لنقل الأول الحرية(3)، والإجماع منعقد أنه لا يطرأ عليها الرق، ولمخالفة الثاني ما أجمع عليه من ضمان التالف بمثله، إن كان مثلِياً، وقيمته إن كان قيميّاً.
__________
(1) وهو ما روي من طرق عن عمران بن الحصين أن رجلاً أعتق ستة مماليك له وهو مريض، ولم يكن له مال غيرهم، فجزأهم صلى الله عليه ثلاثة أجزاء، ثُمَّ قرع بينهم فأعتق صلى الله عليه وآله وسلم اثنين، وأَرَقَّ أربعة.. أخرجه مسلم. والتصرية ترك البقرة يومين أو ثلاثاً ليجتمع لبنها فيظن أنها حلوب.
(2) وهو ما روي عنه صلى الله عليه وآله أنه قال: "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعهما فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاعاً من تمر"، أخرجه البخاري ومسلم.
(3) وهي أصل مقرر.(1/241)
وأن خبر (نبيذ التمر) (1) وخبر (القهقهة) (2) مما خالف مقتضى الأصول، فيقبلان لمخالفتهما حكم نظيرهما المجمع عليه، وهو نبيذ الزبيب، وأن ما لا ينقض خارج الصلاة لا ينقض داخلها، وعن الشافعي أنهما(3) معاً مما خالف مقتضى الأصول، فتقبل. والتحقيق أنها من قسم التخصيص إن ثبتت وهو اتفاق(4).
(215) فصل وإذا خالف(5) القياس فهو الأولى عند (جمهور /209/ أئمتنا، والشافعي، والكرخي، والرازي)(6). وقالت (المالكية): بل القياس. (بعض علمائنا، والأصوليين): محل اجتهاد. (أبو الحسين): إن كان أصل القياس وعلته ووجودها في الفرع معلومة، فهو الأولى، وإن كانت الثلاثة مظنونة فالخبر أولى، وإن كان بعضها معلوماً وبعضها مظنوناً فمحل اجتهاد. (ابن الحاجب): إن عُرِفَت العلة بنص راجح على الخبر ووجدت قطعاً في الفرع فالقياس أولى، لا ظناً فالوقف وإلا فالخبر، وتوقف (الباقلاني).
__________
(1) وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليلة الجنّ سأل ابن مسعود وقال له: "ما في إداوتك أو ركوتك"؟ قال: نبيذ ماء. فقال صلى الله عليه: "تمرة طيبة وماء طهور" وتوضأ منه. قال في (الدراري): أخرجه الأمير الحسين مرسلاً، وضعفه، والإمام أحمد بن سليمان كذلك وضعفه، وأخرجه الترمذي وأنكره، وقال: فيه خلاف بين العلماء، وأخرجه أبو داود ولم يذكر فتوضأ منه.
(2) وهو: ما روي أنه صلى الله عليه وآله كان يصلي بطائفة من أصحابه، وكان هناك بئر مغطاة بحصير، فأتى رجل أعمى فوقع في البئر؛ فقهقه بعض من كان يصلي، فلمَّا تمت الصلاة أمرهم صلى الله عليه بإعادَة الوضوء.. قال في (الدراري): أخرجه البيهقي في الخلافيات واستوفى الكلام عليه، وجمع أبو يعلى الخليلي طرقه في جزء، ومدار حديثه على أبي العالية، وقد اضطرب عليه فيه.
(3) أي: خبر القُرْعَة ونبيذ التمر.
(4) يعني: فتستثنى وحدها فقط من أصولها، ولا يقاس عليها.
(5) أي الخبر الآحادي.
(6) سقط من (أ): الرازي.(1/242)
(216) فصل (أئمتنا، والجمهور): وتقبل في الحدود كغيرها، خلافاً (للكرخي، وقديم قولي أبي عبد الله). وفي المقادير كابتداء النُّصُب، والكفارات، وتقدير الديات خلافاً لهما.
(217) فصل وإذا عُمِلَ بخلافه، فإن كان العامل هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الأمَّة فكما تقَدَّم(1) /210/. وإن كان صحابياً فكما يأتي. وإن كان أكثر الأمة، فالعمل به لا بقولهم، ولو صحابة، خلافاً (لمالك).
فأما المخالف إجماع العترة الظني عند (أئمتنا)، أو إجماع أهل المدينة عند (المالكية)؛ فالترجيح.
(218) فصل في أقواله المتعلقة بغيره.
قضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم في الحقوق والأموال يدل على لزومها للمقضي عليه ظاهراً فقط، لا ظاهراً وباطناً. قيل: خلافاً (لأبي الحسين).
وتمليكه لغيره مؤمناً أو كافراً يفيد الملك ظاهراً وباطناً، عند (الحفيد، وغيره). (الدَّواري)(2): بل ظاهراً فقط، فيما مَلِكه صلى الله عليه وآله وسلم من غيره، ثم مَلَّكه الغير؛ لجواز كونه غصباً في نفس الأمر، لا فيما ملَّكه الغير من الغنائم ونحوها، فظاهراً وباطناً.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: فلان أفضل من /211/ فلان، يحتمل الأمرين. (الحفيد): وأظهرهما أنه ظاهراً وباطناً.
ودعاؤه صلى الله عليه وآله وسلم يقتضي إيمان المدعو له ظاهراً وباطناً، عند (الحفيد، وغيره). وقال (ابن أبي الخير): إن انضم إلى دعائه قرينة تدل على الباطن قطعاً، فإرادته معلومة، أو ظناً فإرادته مظنونة، وإلا فالوقف.
[الصحابي ومراتب الرواية عنه]
__________
(1) في باب التعارض إذا كان هو العامل بخلافه، وفي باب الإجماع إذا كانت الأمة هي العاملة بخلافه.
(2) الدواري، هو: العلامة الكبير عبدالله بن الحسن بن عطية الدواري الصعدي، من كبار علماء الزيدية في وقته، كان يعرف بسلطان العلماء، وكان له تأثير على الأحداث في عصره، له مؤلفات شهيرة، توفي في شهر صفر سنة ثمانمائة.(1/243)
(219) فصل في كيفية الرواية وإظهار مستندها
أما كيفية نقل الصحابي فسبع مراتب تأتي.
وهو(1) عند (أئمتنا، والمعتزلة): من طالت مجالسته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متبعاً له. (ابن زيد): مع الرواية. وقيل: ولم يخالفه بعد موته. (المحدثون، وبعض الفقهاء): من اجتمع به مؤمناً وإن لم تطل مجالسته ولم يروِ. (ابن المسيب): من أقام معه سنة أو سنتين، وغزا معه غزوة أو غزوتين.
والخلاف معنوي في الأصح، وثمرته /212/: معرفة فضل الصحابي، وغلبة الظن بصدقه، وانقراض العصر، ومعرفة التاريخ، وقبول مرسله، وما يأتي من الاختلاف في أقواله وأفعاله وعدالته وجواز تقليده وغير ذلك.
(أئمتنا، والمعتزلة): وهم عدول إلا من ظهر فسقه، كمن قاتل الوصي عليه السلام ولم يتب(2). (جمهور الفقهاء، والمحدثين): عدول مطلقاً، وما شجر بينهم فمبناه على الاجتهاد، وقيل: إلى وقت الفتنة ـ وهو آخر أيام عثمان، وقيل: ما بين علي ومعاوية ـ فلا يُقبل الداخلون فيها؛ لأن الفاسق غير معين. (الباقلاني): كغيرهم.
وقد تاب الناكثون(3) على الأصح لا القاسطون(4)، وبعض المارقين(5). فأما المتوقفون فلا يفسقون على الأصح، وإن قُطع بخطئهم.
وفي فسق قتلة عثمان وخذلته خلاف.
[طرق معرفة الصحابي]
والطريق إلى كون الصحابي صحابياً: علمي، وهو: التواتر، كما في كثير من أكابر الصحابة وأصاغرهم. وظني، وهو: الآحاد؛ إما من غيره أو منه على الأصح(6).
__________
(1) أي: الصحابي.
(2) وذلك لاعتبارهم خارجين على الإمام بدون حق.
(3) الناكثون: الذين نكثوا بيعة الإمام علي رضي الله عنه.
(4) القاسطون: الذين خرجوا على الإمام علي وحاربوه، وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص.
(5) المارقون: اسم يطلق على الخوارج الذين تمردوا على الإمام علي وكفروه ثم قاتلوه.
(6) أي: بأن يقول غيره أو هو: هو صحابي.(1/244)
(220) فصل المرتبة الأولى: إذا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أخبرني، أو حدثني، أو نحو ذلك، مما لا يتطرق إليه احتمال واسطة، وهو واجب القبول اتفاقاً.
الثانية: إذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو نحوه، والظاهر عند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الأشعرية) سماعه منه بلا واسطة ويحتملها، خلافاً (للأشعرية، والفقهاء).
الثالثة: إذا قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكذا، أو نهى عنه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه حجة لظهوره في أنه الآمر والناهي، والظاهر سماعه منه بلا واسطة، ويحتملها خلافاً (للقاضي)، وعند (داود، وغيره): أنه ليس بحجة إلا أن يروي لفظه صلى الله عليه وآله وسلم لاحتمال /213/ الواسطة والعموم والخصوص، وأن يعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي نهياً، وأجيب بأنه خلاف الظاهر. (الشيخ): يحمل على ثبوته عنده بدليل قاطع من سماع أو تواتر.
فأما قول التابعي: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمرسل.
الرابعة: إذا قال: أُمِرْنَا بكذا أو نُهِينا عنه، فعند (أئمتنا، والجمهور) أنه حجة من نوع المرفوع المسند لظهوره في أنه صلى الله عليه وآله وسلم هو الآمر والناهي. وعند (بعض الحنفية، والمحدثين): أنه ليس بحجة لاحتماله ما تقدم، وأن يكون غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أكابر الصحابة. (الحفيد، وغيره): إن كان الصحابي من الأكابر كالعشرة، فهو الآمر صلى الله عليه وآله وسلم، وإن كان من غيرهم، فمحتمل. (الإمام): إن كان بعد وفاته صلى الله عليه وآله وسلم /214/ فكذلك، وإن كان في حياته صلى الله عليه وآله وسلم فهو الآمر.
وفي التابعي وجهان(1).
وكذا أُوجِبَ أو حُرّم، أو نحوهما من صيغ ما لم يسمَّ فاعله. (المنصور): بشرط ألاَّ يكون للاجتهاد في ذلك مسرح.
__________
(1) أي: إذا قال التابعي: أمرنا أو نهينا.(1/245)