ويستثنى من كفار التأويل وفساقه ـ عند قابلهم ـ من يجوز الكذب، إن لم نقل بكفره أو فسقه تصريحاً كالسالمية(1) والكرامية(2) والخطابية(3) ونحوهم.
ولا يقبل من أظهر التأويل وأقواله وأفعاله تدل على تعمد مخالفته الحق كمعاوية.
(الباقلاني): وهما(4) سلب أهلية. (أبو حنيفة): بل مظنة تهمة. (الشافعي): الكفر سلب أهلية، والفسق مظنة تهمة.
وأما من لم يكفر ولم يفسق ببدعته كالمختلفين في بعض مسائل الأصولين(5)، وإن ادعى كل منهم القطع بمذهبه /194/، فمقبولون إجماعاً، وكذا من أتى مظنوناً من الفروع المختلف فيها مجتهداً أو مقلداً كشرب ما لا يسكر من النبيذ، وتقبل شهادته أيضاً إجماعاً، ولا وجه لتفسيقه، ولا لتسميه ذلك فسقاً مظنوناً للقطع بأنه ليس بفاسق؛ إذ لا قاطع. وقول (الشافعي): أقْبَلُ شهادة الحنفي وأحُدُّه إذا شرب النبيذ. فيه نظر، إذ لا يُحَدّ بمباح عنده.
(والرابع): رجحان ضبطه الظاهر على سهوه، فإن استويا قُبِلَ عند (القاضي، وابن زيد، والشافعية)؛ إلا أن يعلم سهوه فيه، ورُدّ عند (أكثر أئمتنا، والجمهور). وقال (المنصور، والإمام، وابن أبان): محل اجتهاد.
__________
(1) السالمية: جماعة من متكلمي البصرية، ينسبون إلى أبي الحسن بن سالم، صاحب سهل بن عبد الله التستري، أثنى عليهم ابن تيمية. وقال غيره :إنهم من جملة الحشوية.
(2) الكرامية: نسبة إلى محمد بن كرام السجستاني، المتوفى (255 هـ)، لهم مقالات في التجسيم شنيعة. وذكر السمعاني أنهم يقولون بجواز وضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
(3) الخطابية: أتباع أبي خطاب الأسدي، قالوا الأئمة أنبياء، وأبو الخطاب نبي، وهؤلاء يستحلون شهادة الزور لموافقيهم على مخالفيهم، وقالوا الجنة نعيم الدنيا. كذا في (التعريفات 316).
(4) أي: الكفر والفسق.
(5) يعني أصول الدين وأصول الفقه، ومثل لذلك بالقول بأن العوض لا يقطع الثواب، وكالإختلاف في مسألة الإمامة.(1/231)


وتشارك الشهادة الرواية في اعتبار هذه الشروط الأربعة. وتختص الشهادة باعتبار عدم العداوة للمشهود عليه، واعتبار العدد والتحليف عند معتبره. وتختص الرواية /195/ بقبول الفرع مع إنكار أصله(1)، والترجيح بالكثرة.
(202) فصل والعدالة الإتيان بالواجبات وترك كبائر المقبحات، وما فيه خِسَّة.
واختلف في الكبيرة، فعند (أئمتنا، والطوسي، وبعض البغدادية) أنها ما توعد عليه بعينه(2). (البصرية): ما وجب فيه حد أو نُصَّ على كِبَرِه. (الإسفرائيني، ومن وافقه على نفي الصغائر كالخوارج): بل هي كل ذنب. (الناصر، وبعض البغدادية): كل عمد.
__________
(1) يعني: قبول رواية التلميذ عن الشيخ، حتى وإن أنكرها الشيخ، هذا إذا كان التلميذ معروف العدالة على تفصيل في ذلك سيأتي.
(2) كالزنا ونحوه، لا ما ورد في وعيد عام، كقوله تعالى: ?ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده ندخله ناراً..?، فلا تصلح دليلاً لمن قال إن كل معصية متعمدة كبيرة عند هؤلاء.(1/232)


وعَدَّ منها (الهادي، وولده أحمد(1)، وغيرهما): الشرك وقتل النفس عمداً، وقذف المحصنة، والزنا، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، وأخذ الربا، واللواط، وشرب الخمر، والسرقة، وزاد (الهادي) تشبيه الله بخلقه، وتجويره(2)، والكذب على الله ورسوله والإمام العادل عمداً، والبغي عليه، ثم قال: ونحوها مما توعد فاعله بالنار. وزاد (ابنه أحمد): التَّعرُّب بعد الهجرة، وعقوق الوالدين /196/ المسلمين، وكتم الشهادة لغير عذر، والفساد في الأرض، وأذى المسلم، وأكل الميتة، والرياء، واليمين الغموس، والرشوة على واجب أو محظور، وغل الزكاة، وأخذ مال الغير إذا كان قدر نصاب السرقة. وقال (الهادي، والناصر): مطلقاً. (المؤيد): وتكفير المؤمن أو تفسيقه. (أئمتنا): وترك الصلاة، والفطر في رمضان لغير عذر. (القاضي زيد(3)، وأبو مضر): وفطر النذر المعيَّن. (أبو مضر): وغير المعين. (بعض أئمتنا): ونقض العهد. (الإمام): وقتل المحرِم الصيد عامداً. (الشافعية): والنميمة، وقطع الرحم، والخيانة في الكيل والوزن، وتقديم الصلاة وتأخيرها، وسب الصحابة، والدياثة، والقيادة، والسعاية، ويأس الرحمة، وأمن المكر، والظهار، وأكل لحم الخنزير، والغلول.
(الناصر، والمنصور، والبستي، وغيرهم): والأصل في المعصية الكبِرَ. (الشافعية): بل الصغر، والمختار /197/ تجويزهما حتى يقوم دليل.
__________
(1) أحمد بن الامام الهادي، هو: الإمام الناصر لدين الله أحمد بن يحيى بن الحسين، أحد أئمة الزيدية في اليمن، تسلم الأمر بعد أن تخلى عنه أخوه المرتضى، وله مؤلفات في الفقه والعقيدة، توفي سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
(2) أي: نسبة الجور إليه.
(3) القاضي زيد، هو: القاضي العلامة الكبير زيد بن محمد بن الحسن الكلاري، نسبة إلى كلار من بلاد الجيل، أحد علماء الزيدية المبرزين في القرن الخامس، أخذ عن المؤيد بالله وأبي طالب، وله كتب في مختلف الفنون، لم أقف له على تاريخ وفاة.(1/233)


(203) فصل واختلف في رواية المجهول، ويطلق على: مجهول العدالة، أو الضبط، أو النسب، أو الاسم. فعند (محمد بن منصور(1)، وابن زيد، والقاضي في العُمَد، والحنفية، وابن فورك): يقبل مجهول العدالة، وهو أحد احتمالي (أبي طالب، وأحد قولي المنصور). وعند (أئمتنا، والجمهور): لا يقبل إلا مجهول الصحابة. (المنصور): أو مجهول التابعين. فأما مجهول النسب، أو الاسم فمقبول على الأصح. ومجهول الضبط لا يقبل.
(204) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يشترط الذكورة، ولا البَصَر، ولا عدم القرابة، والعداوة، ولا عرضه على الكتاب، ولا الإكثار من الحديث، ولا معرفة النسب، ولا العلم بفقه أو عربية أو معنى الحديث، ولا موافقة القياس إذا لم يكن الراوي فقيهاً، ولا كونه الإمام المنصوص عليه، ولا كونه من أهل البيت /198/، ولا العدد.
(أبو علي): لا يقبل إلا عدلان فصاعداً، ثم كذلك حتى ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا عدل واحد، إلا أن يعضده ظاهر الكتاب أو السنة أو عمل بعض الصحابة أو قياس أو اجتهاد منتشر. وقيل: أشترط في الزنا أربعة، وفي الأموال ونحوها عدلين، كالشهادة فيهما، وللوصي عليه السلام في أحوال الرواة تفصيل يتوجه معرفته(2)
__________
(1) محمد بن منصور، هو: الإمام الحافظ محدث الزيدية وحافظ علوم الآل، محمد بن منصور بن يزيد المقري المرادي الكوفي، شيخ الأئمة وتلميذ الأئمة، له كتب كثيرة، ذكرها ابن النديم وغيره، توفي رحمه الله قرب سنة تسعين وثلاثمائة، وما يروى عنه من قبول المجاهيل ليس دقيقاً، أنظر تفصيل ذلك في مقدمة كتاب الذكر بتحقيقنا.
(2) وذلك ما روي عنه في نهج البلاغة أنه قال: إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، ولقد كُذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عهده، حتى قام خطيباً فقال: "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل منافق: مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنَّه منافق كاذب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وعلى آله وسلم رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثُمَّ بقوا بعده عليه السلام فتقربوا إلى أئمة الضلال، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاماً على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا، إلاَّ من عصم اللّه، فهذا أحد الأربعة.
ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذباً، فهو في يديه يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً يأمر به، ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً من الله، وتعظيماً لرسول الله، ولم يَهِم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه، لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ، فجنب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه والمحكم.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة، وما قصد به وما خرج من أجله".أهـ.(1/234)


.
[طرق للجرح والتعديل]
(205) فصل وللتعديل طرق، أعلاها: حكم الحاكم - المشترط للعدالة - بشهادة الراوي. ثم قول المزكي: هو عدل لكذا(1). ثم عمل العالم الذي لا يقبل المجهول بروايته على الأصح. ثم رواية العدل عنه، واختلف فيها، فقيل: تعديل مطلقاً، وقيل: ليست بتعديل مطلقاً. والمختار أنه إن كان لا يروي إلا عن عدل فتعديل /199/، وإلا فلا.
(206) فصل والجرح ارتفاع أحد أركان العدالة، وله طرق، أعلاها: التصريح به مع ذكر السبب، ثم التصريح من دونه، وليس منه ترك الحاكم العمل بشهادته. ولا العالم العمل بروايته؛ لجواز معارض. ولا العمل بقول في مسائل الاجتهاد ونحوها(2). ولا التدليس على الأصح(3)، فأما الحد في شهادة الزنا لانخرام النصاب فجارج على المختار.
(207) فصل واختلف في اشتراط العدد في التعديل والجرح في الرواية والشهادة، فعند (المؤيد، والباقلاني): يثبتان بواحد فيهما(4)، وعند (بعض المحدثين) لا يثبتان به فيهما. والمختار ـ وفاقاً (للجمهور) ـ ثُبوتهما بواحد في الرواية لا في الشهادة، فيعتبر فيها اثنان فيهما(5).
__________
(1) أي: مع بيان سبب العدالة.
(2) أي لا يجرح بسبب عمله بقول ما في مسائل الاجتهاد، كشرب الحنفي للنبيذ، وصلاة الشافعي متلبساً بالمني، وخروج الزيدي على أئمة الجور، ونحو ذلك.
(3) أي: ليس التديس جرحاً.
(4) أي: الرواية والشهادة.
(5) أي: من الجرح والتعديل.(1/235)

47 / 66
ع
En
A+
A-