(الجاحظ): لا ينحصر فيهما، بل بينهما واسطة، فالمطابق للواقع مع /184/ اعتقاد المطابقة صدق، وغير المطابق مع اعتقاد عدمها كذب، وما ليس كذلك - وهو أربعة أقسام(1) - فليس بصدق ولا كذب. وظاهر قول (الهادي عليه السلام) في الكذب كقوله. وهما(2) بتفسير الجاحظ أخص من التفسيرين الأولين(3). والخلاف معنوي، وقيل: لفظي، وتُؤوِّل(4) بأن المراد أنه مبحث لغوي. وقولهم: محمد صلى الله عليه وآله وسلم ومسيلمة صَدَقا أو كَذَبا كذبٌ على الأصح(5).
(192) فصل وينقسم: إلى ما يعلم صدقه، وإلى ما يعلم كذبه، وإلى ما يحتملهما.
(فالأول): ضروري: بنفس الخبر؛ كالمتواتر لفظاً أو معنى، وبغيره كالموافق للضروري(6)، واستدلالي: عقلي، كخبره تعالى(7) وخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم(8)، وشرعي كخبر الأمة والعترة(9)، وكذا موافقهما(10).
(والثاني): نقيض ما علم صدقه(11).
__________
(1) وهي: مطابقة الواقع مع اعتقاد عدم مطابقته، ومطابقة الواقع بدون اعتقاد رأساً، وعدم المطابقة مع اعتقاد المطابقة، وعدم المطابقة بدون اعتقاد المطابقة.
(2) أي: الصدق والكذب.
(3) فكل صدق وكذب عند الجاحظ كذلك عند الأولين وكل ما هو صدق وكذب عند الأولين ليس كذلك عند الجاحظ الموجود الواسطة.
(4) أي: القول بأن الخلاف لفظي.
(5) لتضمنه إضافة الصدق والكذب إليهما جميعاً، وهو خلاف الواقع.
(6) وهو الموافق للبديهيات، كمن أخبر أن النار حارة، وأن الواحد نصف الإثنين.
(7) فإنه معلوم الصدق؛ لكونه تعالى حكيماً بالدليل القاطع العقلي.
(8) لكونه معصوماً لقيام دليل صدقه عقلاً، وهو المعجزة.
(9) فإنه لا يعلم عقلاً صدقه، بل بالدليل الشرعي القاطع.
(10) أي: موافق الاستدلال العقلي والشرعي، كذا في النظام. وفي الدراري: أي موافق الإجماعين المذكورين من الأخبار.
(11) أي: ما جاء مخالفاً للقاطع، من خبره تعالى أو خبر رسوله صلى الله عليه وآله سلم.(1/221)
(والثالث): خبر الواحد وهو مما لم يُعلم(1) صدقه ولا كذبه /185/، وقد يظن صدقه كخبر العدل، أو كذبه كخبر الكذاب، أو يُشك كالمجهول، وقطع بعض الظاهرية بكذب كل خبر لا يعلم صدقه.
وقد كُذِبَ على نبينا صلى الله عليه وآله وسلم قطعاً. وسببه: الإلحاد في الدين، أو الرواية بما يتوهم أنه المعنى، أو رواية ما هو خاص على العموم، أو رواية ما حكي عن قوم على خلاف ذلك لعدم سماع أوله، أو الترغيب، أو الترهيب، أو تقرب إلى سلطان، أو انتصار لمذهب، أو نحوها(2).
__________
(1) في (ب): بما لا يُعلم.
(2) الإلحاد في الدين، كوضع الزنادقة أحاديث ليضلوا الناس، فقد ادعى بعضهم عند قتله أنه وضع أربعة آلاف حديث.
والرواية بما يتوهم أنه المعنى، مثل ما روي ابن عمر روى عن النبي (ص) أنه وقف على قليب بدر، فقال: "هل وجتم ماء وعدتكم حقاً". ثم قال: "أنهم الآن يسمعون ما أقول لهم". فذكر ذلك لعائشة فقالت: لا، بل قال: "إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق".
ورواية ما هو خاص على العموم، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة". فبينت عائشة أنما قاله في ولد زنا وكان مع ذلك فاجراً.
ورواية خلاف المطلوب لعدم سماع أوله، نحو ما روي عن عائشة أن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس، كأن حكاية عن قول اليهود؛ لا أنه قال ذلك إنشاءاً.
والترغيب والترهيب، مثل ما يروى عن بعض الوعاض من المبالغة في الثواب والعقاب ونسبة ذلك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والتقرب إلى السلطان، كما يروى عن غياث بن إبراهيم، أنه وضع للمهدي في حديث لا: "سبق إلاَّ في نصل أو خف أو حافر". فزاد فيه: أو جناح.
والانتصار للمذهب، كما يرويه بعض المتعصبين: عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "سيحيى أقوام من أمتي يقولون القرآن مخلوق، فمن قال ذلك فقد كفر بالله العظيم، وطلقت امرأته من ساعته".(1/222)
ويحرم التساهل في أحاديث الفضائل ونحوها من غير بيان ضعفها أو بطلانها(1)، وكذا نسبة موافق القياس الجلي إليه صلى الله عليه وآله وسلم، خلافاً (لبعض أهل الرأي)، وفتيا الإمام ونحوها خلافاً (لبعض الإمامية).
وتعمُّد الكذب عليه صلى الله عليه وآله وسلم فسق لا كفر، خلافاً (للأمير الحسين، والجويني) وغيرهما.
[أقسام خبره صلى الله عليه وآله وسلم]
(193) فصل وينقسم خبره صلى الله عليه وآله وسلم إلى: قطعي، وهو: ما كان نصاً في دلالته متواتراً في نقله /186/، أو متلقى بالقبول على الأصح. وظني، وهو خلافه، كالآحادي.
والتواتر لغة: تتابع الأشياء مع تراخ بينها. واصطلاحاً: خبر جماعة يحصل العلم بخبرهم. ومنعت (السُّمَنيَّة)(2) من حصول العلم به لا الظن، ثم اختلفوا، فمنعه أكثرهم في الماضيات والحاضرات، وأقلهم في الماضيات فقط.
__________
(1) وهذا ما يفعله كثير من مصنفي المتأخرين، فيهتمون بجمع أحاديث الفضائل، سواء العامة أو الخاصة، دون بيان أحكامها، ولا حتى أسانيدها، وهذا تقصير لا ينبغي.
(2) قال في التعريفات/ 415: السمنية: فرقة تعبد الأصنام، وتقول بالتناسخ، وتنكر حصول العلم بالأخبار، نسبة إلى سومنات قرية بالهند على غير قياس.(1/223)
واتفق العقلاء على حصول العلم به، ثم اختلفوا فعند (ائمتنا، وجمهور المعتزلة، والأشعرية، والفقهاء، والمحدثين): أنه ضروري(1)، وعند (البغدادية، والمطرفية، والملاحمية، وبعض الأشعرية، والفقهاء): أنه استدلالي(2)، وتوقف (الموسوي، والآمدي).
(194) فصل وشروطه المعتبرة:
ـ تعدد المخبرين تعدداً يمنع اتفاقهم على الكذب وتواطئهم عليه.
ـ واستنادهم إلى ضروري محسوس.
ـ وعدم سبق العلم بالْمُخْبَر عنه للمخبر ضرورة(3).
ـ واستواء عددهم في الطرفين والوسط في عدم النقص /187/ عن أقل عدد يحصل العلم بخبرهم.
__________
(1) أشار في الحواشي إلى أن هنالك روايتين عن الأئمة خصوصاً عن الهادي، إحداهما تفيد أنه ضروري، وأخرى تفيد أنه استدلالي، وذكر أن سبب الخلاف في ذلك ما في كلامه في البالغ المدرك، ولفظه كما في (شرح البالغ المدرك ص75): "ومن تراخت به الأيام عن لقائهم، وكان في غير أعصارهم، فالحجة عليه بتوالي الأخبار التي في مثلها يمتنع الكذب ولايتهيأ، وما نقل من الأخبار تستنكره العقول وتحيل أن يجيء به رسول، فسبيله الشذوذ والغلط في التأويل، ومعرفة مخرج الخاص من العام والمحكم من المتشابه" أهـ.
(2) قالوا: لأن ضرورته إن كانت بديهية وجب أن لا يُختلف فيها، وإن كانت استدلالية فإن كانت مقدماتها بديهية فكذلك، وإن كانت استدلالية فلا تتيح الضرورة، وإنما تتيح الجزم، والجزم لا يستلزم المطابقة.
(3) كأن تشاهد زيداً قائماً ثم تخبر تؤثراً بذلك.(1/224)
ومعنى كونها شروطاً عند من جعله ضرورياً(1)؛ أنه تعالى لا يخلقه إلا عندها بمجرى العادة(2)، وضابط العلم بحصولها حصول العلم(3). وعند من جعله استدلالياً أنها شروط في نفس حصوله، فيجب تقدم معرفتها، وهو ضابط حصول العلم.
ثم العدد قد يكون ناقصاً لا يحصل العلم عنده، وزائداً يحصل بدونه، وكاملاً بحيث لو نقص لم يحصل العلم، ولو زاد لكان فَضْلَة. والمختار وفاقاً للمحققين: أنه غير معلوم لنا(4). وضابطه ما حصل العلم عنده. ويختلف باختلاف أحوال المخبرين والمستمعين والوقائع(5). وقيل: بل هو معلوم لنا.
__________
(1) أي: من الجبرية، ومن البصرية الذين يجعلون الله تعالى فاعلاً للمسبب بفعله السبب، فإذا حصلت شروط العلم خلقه الله إذ لا يقع شيء إلا بخلقه، وعند البغدادية - ومنهم المطرفية - أن العلم حاصل بطبع المحل ضرورة، فهناك تلازم طبيعي بين السبب والمسبب دون تدخل إلهي مباشر.
(2) إنما ذكر هذه الجملة لأن من يقول إنه استدلالي، احتج بأن حصوله يتوقف على علم المخبرين بالمشاهدة، وعلى أنهم عدد لايمكن لمثلهم التواطؤ على الكذب إلى آخر ما هنالك من الشروط، وما كان كذلك فهو كسبي لا ضروري؛ لأن الضروري لا يتوقف على شيء. وبهذا اضطر من قال بأنه ضروري إلى القول بأنه يحصل العلم من غير هذه الشروط، إذ أن الله لا يخلقه إلاَّ عندها كما ذكر المؤلف.
(3) يعني: فحصول العلم بالخبر المتواتر متوقف على حصول الشرائط، فإذا حصل العلم كشف عن وجودها، لا أن حصوله متوقف على العلم بها.
(4) أي: أنه غير معلوم لنا حصول العلم بعدد معين.
(5) وهذا ما أكده غير واحد من علماء الزيدية كالإمام عبد الله بن حمزة والحفيد.(1/225)