(162) فصل (أئمتنا، والجمهور): والمعتبر إجماع كل أهل العصر، فإن خالف واحد أو اثنان فليس بإجماع(1)، خلافاً (لابن جرير، وبعض البغدادية، والفقهاء)، ولا بحجة، خلافاً (للأشعرية). وقيل: إجماع ما لم يبلغوا عدد التواتر. (الإمام، وأبو عبد الله الجرجاني)(2) : إجماع ما لم يسوغوا له الخلاف(3).
ولا يعتبر وفاق من سيوجد خلافاً لمن يشترط انقراض العصر، ولمن زعم أنه إنما يكون حجة إذا كان قول جميع الأمة من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم إلى انقطاع التكليف. ولا العوام، خلافاً (لأبي عبد الله، /155/ والباقلاني).
واختلف فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد، كالمحدِّث، فقيل: يعتبر مطلقاً. وقيل: لا يعتبر مطلقاً. وقيل: يعتبر الأصولي. وقيل: الفروعي.
__________
(1) وهذا مما يزيد وقوع الإجماع بعداً، أو يجعل المستدل بالإجماع يجازف ويحكم بعدم اعتبار مخالفه في الإجماع، كما تقدم في الفصل الأول من باب الإجماع، حيث استدل المؤلف على حجية الإجماع بالإجماع، ولما كان هنالك من يقول بعدم حجية الإجماع كالإمامية والخوارج والنظام حسب حكاية المؤلف، قرر أن يجعلهم شذوذاً لا يعتبرون في الإجماع.
(2) في (ب): الإمام أبو عبد الله الجرجاني. الجرجاني، وهو: الإمام الموفق بالله الحسين بن إسماعيل بن زيد بن الحسن الشجري المعروف بالشريف الجرجاني، أحد أئمة الزيدية في الجيل والديلم، كان من العلماء المبرزين في شتى العلوم، وأخباره كثيرة، توفي سنة عشرين وأربع مائة.
(3) وذلك بألاَّ ينكروا عليهم، كما حدث لابن عباس رضي الله عنهما في مسألة العول، فلا إجماع، أمَّا إذا لم يسوغوا الخلاف، كما حدث لابن عباس أيضاً في مسألة المتعة، فلا يعتبر خلافه.(1/196)
والمختار: أن الحكم المجمع عليه إن كان من فَنِّه أو يتمكن من النظر فيه اعتبر وإلا فلا(1).
(163) فصل ولا يعتبر كافر التصريح وفاسقه إجماعاً.
واختلف في كافر التأويل وفاسقه(2)، فعند (بعض أئمتنا، وأبي هاشم، وجمهور الأشعرية): يعتبران. وعند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، والقاضي): لا يعتبران. (الغزالي): يعتبر الفاسق دون الكافر. وقيل: يعتبر الفاسق في حق نفسه(3).
وإذا اختلفت الأمة على قولين ثم كَفَرَت إحدى الطائفتين سقط خلافها، وكان إجماعاً، وكذا إن فسقت، خلافاً (للإمام، وأبي هاشم)، أو ماتت، خلافاً (للإمام، وغيره)(4)، فأما المبتدع بغيرهما(5) فمعتبر (6)/156/. (البصرية): ويوصف المتأول بكونه من الأمة(7).
__________
(1) هذا اختيار قوي جداً فيه توسيع دائرة الإجماع في شتى العلوم والصناعات، مما يعني بناء كيان اجتماعي قوي ومتكامل تستوعب فيه كل الطاقات والكفاءات وتتفاعل فيه كل الخبرات.
(2) تعتبر هذه المسألة من أهم الأبواب التي يمكن التلاعب بالإجماع من خلالها؛ لأن كافر التأويل وفاسقه غير منضبطين عند الجميع، لذلك تجد كثيراً من المختلفين يحكم على مخالفه بأنه فاسق تأويل أو كافره، وبذلك يُسقط اعتباره من الإجماع، وبالتالي يتحول الإجماع إلى مجرد اتفاق المتفقين، وهذا لا يصنع قناعة، بل لا يؤدي إلى مجرد ظن راجح.
(3) ذكر في (النظام) أن المراد بالفاسق هنا فاسق التصريح، وإن ذكره المؤلف في سياق فاسق التأويل، وذكر أن معنى: "في حق نفسه": أي فيما يكون عليه لا له، كما لو أجمعوا على إباحة شيء فخالفهم إلى حرمته فلا تكون الإباحة إجماعاً، لتبقى عِلِّيَة التحريم.
(4) بناء على أن القول لا يموت بموت قائله.
(5) أي: بغير كفر التأويل وفسقه.
(6) أي: بغير كفر التأويل وفسقه.
(7) وهكذا لم يكف بعضهم سلب الإيمان عن المخالف فحسب، بل سلبوا عنه الوصف بكونه من الأمَّة.(1/197)
(164) فصل (أئمتنا، والجمهور)(1): وهو حجة في الأمور الدنيوية، كالآراء والحروب، خلافاً (للقاضي) في أحد قوليه. (الشيخ، وأبو رشيد): إن استقر فحجة وإلا فلا. (الحفيد): كله ديني، فلا يصح قسمته إلى ديني ودنيوي. وهو فاسد إذ المراد بالدنيوي غير العبادات وإن كان دينياً، فأما الدنيوية التي لا يتعلق بها تكليف كالزراعة ونحوها، ففي كونه حجة فيها خلاف.
(165) فصل وإذا ظهر الإجماع ثم روي الخلاف عن واحد من جهة الآحاد لم يقدح عند (بعض علمائنا، والجمهور)، خلافاً (للمنصور، وغيره)، كإجماعهم على أن ما وصل الجوف مفطر، ثم نقل خلاف أبي طلحة في البَرَدَة. وقيل: حجة. والمختار: أن الإجماع إن ظهر بالآحاد قَدَح فيه ذلك، وإن ظهر بالتواتر لم يقدح فيه. وأما إذا كان له قولان يوافق أحدهما الإجماع /157/ ويخالفه الآخر، فإن تقدم الموافق فإجماع ـ وإنما يجوز الثاني عند مشترط انقراض العصر ـ وإن تأخر فقال (المهدي): إجماع. وقال (الإمام): ليس بإجماع.
(166) فصل وإذا اختلف أهل العصر ولم يستقر خلافهم، ثم اتفقوا فإجماع.
__________
(1) يعتبر مضمون هذا الفصل هو نقطة الخلاف التي اشتهرت بين المعاصرين بـ (أسلمه كل شيء، أو عقلنته وأنسنته) وانقسم فيها مفكرو العصر إلى: يمين ويسار، ووسط، أو إلى إسلاميين، وعلمانيين، كما يسميهم البعض، وقد احتدم فيها الصراع.. ويلاحظ في هذا الفصل أن (القاضي) يمثل اليسار و(الحفيد) يمثل اليمين (وأئمتنا والجمهور) يملثون الوسط إن جاز التعبير، والحق أن هناك ما يسميه السيد محمد باقر الصدر رحمه الله: (منطقة الفراغ) في محل الاجتهاد مالم يصادم إصلاً قاطعاً، وأن لتشريعات الإنسان فيها دوراً في إطار المصلحة وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وليس بصحيح احتكار البعض لصفة (الإسلامية) وتجريد من لم يوافقه منها، فإنها شنشنة عرفت عن المتعصبين أهل سطحية التفكير ونزعة التفكير.(1/198)
واختلف إذا استقر هل يتفقون بعده.؟ (فالإمام، والطوسي(1)، والغزالي): يمتنع. (الجمهور): بل يجوز. ثم اختلفوا ، فعند (بعض الفقهاء): ليس بإجماع. (أئمتنا، والموسوي، وأبو علي، وأبو الحسين، وبعض الشافعية، ومن يشترط انقراض العصر): بل إجماع.
(167) فصل واختلف في اتفاق أهل العصر الثاني، كالتابعين على أحد قولي أهل العصر الأول بعد استقرار خلافهم. فعند (أحمد، والأشعري، والجويني، والغزالي، والصيرفي): يمتنع. (أئمتنا، والجمهور): بل يجوز. ثم اختلفوا في وقوعه، فأكثرهم على أنه واقع، سواء شذ المخالف أو كثر. ثم اختلفوا، فعند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، /158/ وأبي الحسين، وبعض الفقهاء): أنه إجماع، فيحرم العمل بخلافه لانقراض قائله. وعند (بعض أئمتنا، وبعض الفقهاء، والمتكلمين): ليس بإجماع، فيجوز العمل بخلافه، إذ لا يموت بموت قائله. وقيل: إن كان المتفقون هم المختلفون فإجماع، ويحرم مخالفته، وإلا فلا. واستبعد (ابن الحاجب) وقوعه، إلا عند شذوذ المخالف من أهل العصر الأول.
فأما قبل استقرار خلافهم فجائز.
(168) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويمتنع إجماع أهل العصر الثاني على خلاف إجماع أهل العصر الأول، خلافاً (لأبي الحسين الطبري، وأبي عبد الله)، فالثاني ناسخ عندهما(2)، بناءاً على أصلهما في جواز نسخ الإجماع، والنسخ به، واختاره (الرازي).
__________
(1) لعله الطوسي صاحب البلغة ينقل عنه صاحب (المصابيح الساطعة الأنوار) كثيراً، ولعله صاحب البيان في التفسير. ويحتمل أن يكون المراد به الطوسي: أبا جعفر الإمامي. والله أعلم.
(2) ولعل الصواب القول بجوازه بناء على ظنية الإجماع، ولا يكون ناسخاً، بل يرجح بينهما كالدليلين الظنيين، ويجمع إن أمكن من حيث النقل ونحوه، وإلا رجع إلى غيرهما، وقد تقدم الكلام في هذا الموضوع في باب النسخ.(1/199)
(169) فصل (أئمتنا، والجمهور): والتمسك بأقل ما قيل ليس بإجماع، خلافاً (للشافعية)، فمثل قول (الشافعي)/159/: إن دية اليهودي ثلث دية المسلم إجماع عندهم لاشتمال الدية الكاملة والنصف عليه، وليس كذلك؛ لأنه مركب من إثبات القليل ونفي ما سواه.
وأما استدلال (أئمتنا) على قصر الإمامة في ولد السبطين فليس منه؛ لتركبه من الاتفاق على صحتها فيهم وعدم الدليل على صحتها في غيرهم(1).
(170) فصل ولا إجماع إلا عن مستند: إما دلالة - وهو اتفاق - أو أمارة(2).
(أئمتنا، والجمهور): ولو اجتهاداً أو قياساً كتحريم شحم الخنزير، خلافاً (لابن جرير، والظاهرية)، وقيل: لم يقع عنهما، وإن كان ممكناً في نفسه. (بعض الشافعية)، يجوز إن كان جلياً لا خفياً، فأما تمثيل ذلك بإمامة أبي بكر فمخالف للمعلوم ضرورة؛ للقطع بوقوع الخلاف فيها واستمراره سلفاً وخلفاً، وببطلان القياس.
ويحرم مخالفته حيث يكون عنهما(3) خلافاً /160/ (للحاكم) - صاحب (المختصر)- (4) .
__________
(1) في حواشي الفصول ما لفظه: قلت فيه ما فيه، إذ دعوى عدم الدليل في غيرهم، تخالف دعوى الخصوم فلا إجماع. تمت من خط السيد علي بن الإمام شرف الدين.
(2) لا يقال: إن المستند حينئذ هو الدليل للحكم لا الإجماع؛ لأنه لا يشترط وجود المستند، بل يكفي اعتقاد وجوده، وأيضاً فإن فائدة الإجماع أمران: الحكم، وصحة المستند وتلقيه بالقبول، فيفيد العلم، فإذا لم يحصل الأمران معاً حصل الثاني.
(3) أي: عن القياس والاجتهاد.
(4) سقط من (ب): صاحب المختصر. وهو: العلامة حسام الدين محمد بن محمد بن عمر الأخسيكتي، من علماء الحنفية، مات فى ذي القعدة سنة أربع وأربعين وستمائة، ودفن بمقبرة القضاة السبعة. طبقات الحنفية 1/120.(1/200)