وأنكرت اليهود النسخ(1) لاعتقادهم توقفه على البدا، وهو عند أكثرهم ممتنع عقلاً وشرعاً، وعند بعضهم شرعاً فقط. وجوزه بعضهم عقلاً وشرعاً.
(141) فصل وأركانه أربعة: الناسخ، وهو: الشارع، وقد يطلق على الطريق(2)، وعلى حكمها وعلى مُعْتَقِد النسخ.
والمنسوخ، وهو: الحكم الشرعي المبين انتهاؤه، كما تقدم.
والمنسوخ به، وهو: الطريق الذي يثبت بها النسخ.
والمنسوخ عنه، وهو: المكلف.
وشروطه المعتبرة: ألاَّ يكون المبيَّن انتهاؤه ولا المبيِّن للإنتهاء عقليين، كبيان انتهاء البراءة الأصلية(3)، وبيان انتهاء التكاليف بالموت(4) /136/، ونحوه(5)، فأما بيان انتهاء موافق العقل فنسخ(6).
ومُضِيّ وقت يمكن فيه فعل المنسوخ أو تركه، في الموسع والمطلق، وسيأتي.
وكون المبيَّن انتهاؤه هو الحكم الشرعي لا الصورة المجردة مع بقائه(7).
وتغيير المصلحة من المنسوخ إلى ناسخه.
ولا يشترط عند (أئمتنا، والجمهور) الإشعار عند ورود المنسوخ بأنه سينسخ مطلقاً، خلافاً (لأبي الحسين، وابن الملاحمي، والشيخ).
__________
(1) أي: النسخ للشرائع.
(2) الذي هو لفظ الدليل.
(3) وهو أن الأصل عقلاً براءة المكلف عن قيد التكليف، مالم يثبت بدليل قطعي أو ظني تكليفي.
(4) لأن الأمور العقلية التي مستندها البراءة الأصلية لم تنسخ، وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
(5) كالجنون والإغماء.
(6) كذبح الحيوان، ثم نسخه بعدم ذبحه، فإذا بين الشرع انتهاء الحكم الموافق للعقل والمؤكد له فهو نسخ ـ يعني حكم شرعي نسخ حكماً شرعياً وافق العقل ـ فلا يقال: إن حكم العقل قد دخله النسخ، بل هو النسخ للتأكيد الشرعي وغاية ما هناك أنه ناقل عن حكم العقل، وقد عرفت جوازه في العقليات المشروطة كما ذكروا.
(7) لأن الحكم هو الذي تتعلق به المصلحة والمفسدة، ومثال ذلك: لو كان استقبال بيت المقدس باقياً، وإنما نسخ منه المسامتة المعتادة، فإن ذلك لا يكون نسخاً. كذا في الحادي.(1/181)


ولا البدل، فيجوز النسخ لا إلى بدل عقلاً وسمعاً، كوجوب صدقة النجوى خلافاً للأقل مطلقاً، ولقوم في الوقوع.
ولا التخفيف، فيجوز إلى أثقل كعكسه ومساويه، خلافاً (لداود، وبعض أصحابه، وللشافعي) في رواية، كنسخ عاشوراء برمضان.
ولا عدم التأبيد، فيجوز نسخ الأمر المقيد بالتأبيد خلافاً (لبعض الفقهاء)، كما يجوز نسخ المطلق.
ولا التقابل، فيجوز نسخ الأمر بالخبر كالنهي.
ولا الجنسية، فيجوز نسخ /137/ القرآن بالسنة المتواترة، والسنة به، وسيأتي إن شاء الله.
ولا القطع، فيجوز نسخ الآحاد بالآحاد.
ولا كونهما منطوقين، فيجوز نسخ المنطوق بالمفهوم، وسيأتي.
(142) فصل ولا يثبت الحكم مبتدأ أو ناسخاً على المكلفين قبل أن يبلغه جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذا بعد تبليغه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقبل تبليغ النبي المكلفين، عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض الشافعية) في الناسخ، وأما بعده(1) فإما أن يكون المنسوخ متكرراً أو لا(2)، فالأول: إما أن ينسخ بعد إمكان فعله أو قبله، إن كان بعد إمكانه جاز سواء كان قبل فعله أو بعده اتفاقاً، وإن كان قبل إمكانه امتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة، وأكثر الفقهاء)، وجاز عند (جمهور الأشعرية، وبعض الفقهاء، وروي عن المنصور بالله).
والثاني: يمتنع نسخه قبل إمكان فعله على الخلاف المذكور، وأما بعده فالمجوزون وبعض /138/ المانعين على صحته كالمتكرر، وبعضهم على منعه، وادعى (الإمام، وغيره) الاتفاق على جواز نسخه.
(143) فصل فيما يجوز نسخه وما لا يجوز نسخه من الأحكام
__________
(1) أي بعد تبليغ جبريل للنبي (ص) وتبليغ النبي (ص) المكلفين.
(2) المتكرر، كالصلاة والصوم، وغير المتكرر، كذبح إبراهيم ولده.(1/182)


وهي قسمان: (شرعي)، ليس للعقل فيه قضية سابقة، ويجوز نسخه باتفاق. و(عقلي)، وهو نوعان: ما قضى العقل فيه بقضية مبتوتة ضرورية، كشكر المنعم، وقبح الظلم. أو استدلالية كمعرفة الله تعالى، وهو(1) عقلي، وإن طابقه السمع، ولا يجوز نسخه، فإن خالفه قُطِعَ بوضعه(2) إلا أن يمكن تأويله.
وما قَضَى فيه بقضية مشروطة كالذبح(3).
ويطابقه(4) الشرع، وهو حينئذ شرعي تغليباً للطارئ، لا عقلي تغليباً للسابق، خلافاً لقوم، ولا يشترط في المطابقة أن يكون إلى وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قيل: خلافاً (لأبي الحسين)، ولا سَنَة خلافاً (للشيخ)، وتظهر فائدة الخلاف في النسخ(5).
ويخالفه /139/ واجباً، كدم الفدية، ومندوباً، كالأضحية، ومباحاً، نحو كثير مما يؤكل لحمه، ومكروهاً، كالأرنب، وليس بنسخ(6) في الأصح.
فأما ما أمسك الشرع عن مطابقته ومخالفته فعقلي. ويمتنع على هذه القاعدة القول بتعارض العقل والسمع إلا ظاهراً(7).
(144) فصل ويجوز نسخ الإنشاء ولو مقيداً بتأبيد، كما تقدم.
__________
(1) أي: هذا النوع.
(2) أي: إن خالف السمعي العقلي، فإنه يقطع بوضعه. كتعذيب الأطفال ، وتكليف مالا يطاق.
(3) فإنه ليس بقبيح على القطع والبت، بل بشرط عدم العوض عند أصحابنا.
(4) يعني أن ما قضى فيه العقل بقضية مشروطة، منه ما يطابقه الشرع، ومنه ما يخالفه.
(5) فعلى قول من يقول إنه شرعي يجوز نسخه، ولا يجوز نسخه على قول من يقول إنه عقلي.
(6) أي: وليس رفع الحكم العقلي بالشرعي نسخاً.
(7) لأن الشرع إما مؤكد في المبتوتة، أو مؤكد وناقل في القضية المشروطة، فإذا ورد ظاهر سمعي بخلاف حكم العقل لم يعارضه، لوجوب تأويل السمعي إن أمكن أو رده والحكم بوضعه، لكن لا بد من تحقق المعارضة بحيث لايمكن الجمع فكثيراً ما تدعى المعارضة مع إمكان الجمع، وقد تكون معارضة للمذهب فقط.(1/183)


وأما الخبر، فإن كان بمعناه(1) جاز عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض التابعين، والدقاق)(2). وإن لم يكن بمعناه فإن نُسِخ التكليف بالإخبار به فقط جاز، سواء كان مما يتغير مدلوله أو لا، ماضياً أو مستقبلاً، وإن نسخ ذلك بالإخبار بنقيضه جاز عند (أئمتنا، والمعتزلة)، فيما يتغير مدلوله دون ما لا يتغير(3)، وجوزه (الأشعرية) مطلقاً، وإن نسخ مدلوله؛ فإن كان مما لا يتغير، كصفاته تعالى؛ امتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة، والأشعرية) وإن كان مما يتغير، كإيمان زيد وكفره، جاز نسخه عند (أئمتنا، وأبي عبد الله، والقاضي، وأبي الحسين /140/، وبعض الأشعرية)، وامتنع عند (الشافعي، والشيخين، والباقلاني، وغيره من الأشعرية). وعن (بعض التابعين، والخشبية)(4) جواز نسخه مطلقاً.
ويمتنع عند (أئمتنا، والمعتزلة): نسخ التكاليف العقلية كما تقدم، خلافاً (للأشعرية)؛ إذ التكاليف عندهم(5) كلها شرعية فتقبله(6)، وهي(7) فرع التحسين والتقبيح.
__________
(1) أي بمعنى الإنشاء، كالإخبار عن وجوب شئ ما.
(2) الدقاق، هو: أبو بكر محمد بن محمد بن جعفر البغدادي الدقاق، من علماء الشافعية، صنف كتاباً في أصول الفقه ومن اختياراته أن مفهوم اللقب حجة، توفي في رمضان سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. طبقات الشافعية 2/167.
(3) ما يتغير مدلوله، كالإخبار بإيمان زيد، ثم نسخه بالإخبار بكفره، ومالا يتغير، كالإخبار بأن الله أهلك عاداً ثم الإخبار بأن الله لم يهلكهم، لأن ذلك كذب، وهو لا يجوز على الله.
(4) في (ب) : من الخشبية. قال في (الدراري): وهم: المختار بن أبي عبيد وأصحابه، سموا بذلك لتضاربهم في بعض الوقعات بالخشب. حكاه نشوان.
(5) سقط من (ب): عندهم.
(6) أي: النسخ.
(7) أي: مسألة نسخ التكاليف العقلية.(1/184)


وكذا نسخ جميع التكاليف الشرعية لا إلى بدل؛ إذ هي شكر أو ألطاف، خلافاً (للأشعرية) إلا (الغزالي) فمنعه، والإجماع على أنه(1) غير واقع.
فأما انفراد التكليف العقلي عن الشرعي(2) فجائز عند مثبته خلافاً (للإمامية).
(145) فصل يجوز عند (أئمتنا، والجمهور) نسخ القرآن بالقرآن، خلافاً (للأصفهاني)، كما تقدم، حكماً وتلاوة، نحو: (( عشر رضعات محرمات )) (3). وحكماً دون تلاوة، خلافاً لقوم. كآية الاعتداد بالحول(4). وفائدته: كونه معجزاً، وقرآناً يتلى.
وتلاوة دون حكم، خلافاً (لبعض المعتزلة)، نحو: (( الشيخ والشيخة إذا زنيا /141/ فارجموهما ))(5). وفي جواز مس المحدث والجنب له خلاف.
والمختار: أن نسخ بعض أحكام الآية ليس بنسخ لجميعها، خلافاً (لبعض الأصوليين)، وأن نسخ الوجوب لا ينسخ الجواز، كالوصية للوارث، خلافاً (للمؤيد بالله، والشافعي).
__________
(1) أي: نسخ جميع التكاليف الشرعية.
(2) كما لو عقل الصبي قبل البلوغ، فإنه يكلف بالعقليات عند مجوزي ذلك، وهم المعتزلة ومن وافقهم.
(3) روي عن عائشة أنها قالت: كان فيما أنزل الله عز وجل من القرآن: "عشر رضعات يحرِّمن" ثم نسخن بـ"خمس معلومات يحرمن". أخرجه مالك 2/608، ومسلم 2/1075، وأبو داود 2/223، وغيره. وينظر في صحة كونه قرآناً مع شرط التواتر والإجماع على أن القرآن ما بين الدفتين، ومالم فليس بقرآن، ولعل الحديث مما يمكن تأويله، والعجب من جعل المصنف له قرآنا.!
(4) وهي قوله تعالى: ?والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم? الخ، فإن هذه الآية منسوخة بآية الاعتداد بأربعة أشهر وعشراً.
(5) أورد المصنف هذا النص على أنه قرآن، وهو من السنة، حيث روي عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة". أخرجه أحمد 5/183، والحاكم 4/401، والدارمي 2/234، عن زيد بن ثابت.(1/185)

37 / 66
ع
En
A+
A-