(والثاني): ما قصد فيه اللازم، ولم يتوقف صدق اللفظ ولا صحته عقلاً أو شرعاً عليه، ولكن اقترن اللفظ بحكم لو لم يكن ذلك اللفظ علة لذلك الحكم، لكان ذكر ذلك الحكم بعيداً نحو: (( لا تُقرِّبوه طِيْباً، فإنه يحشر يوم القيامية ملبياً )) (1)، وسيأتي إن شاء الله تعالى. ويسمى: دلالة التنبيه والإيماء.
(والثالث): ما لم يقصد فيه اللازم، نحو: ?أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إلَى نِسَائِكُمْ?[البقرة: 187]، فإنه يلزم من إباحة الرفث في كل الليل جواز الإصباح جنباً، وإن لم يكن مقصوداً من اللفظ، ويسمى: دلالة الإشارة. وجعل (بعض أئمتنا، وبعض الأصوليين) غير الصريح على أقسامه من باب المفهوم. (التفتازاني): والفرق بينهما محل نظر.
(134) فصل والمفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق. وينقسم إلى: مفهوم موافقة ومفهوم مخالفة.
(فالأول): ما وافق حكمه حكم المنطوق في /126/ الثبوت أو النفي، فإن كان أولى كتأدية ما دون القنطار، مِنْ: ?إنْ تِأمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤدِّهِ إليْكَ?[آل عمران: 75]، وعدم تأدية ما فوق الدينار، من ?إنْ تَأمِنْهُ بِدِيْنِارٍ لا يُؤدِّهِ إليْكَ?[آل عمران: 75]، وتحريم الضرب مِنْ: ?وَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ?[الإسراء: 23]. فهو: فحوى الخطاب، ولحنه، ودلالة النص، ويعرف بكونه أشد مناسبة في المسكوت، وهو تنبيه بالأعلى على الأدنى وعكسه.
واختلف فيه، فقيل: دلالته قطعية لفظية كما ذكر، ثم اختلفوا فقيل: حقيقة لغوية. (أبو طالب، والمنصور، والقاضيان، والحاكم): بل حقيقة عرفية. وقيل معنوية. ثم اختلفوا. فالمختار - وفاقاً (للجمهور) -: أنها قياس جلي، ولذلك يذكرونه فيه. (الغزالي، والآمدي): بل مجاز من باب إطلاق الأخص على الأعم.
__________
(1) أخرجه مسلم 2/867 والبخاري 2/653 عن ابن عباس بلفظ قريب.(1/171)


وإن كان مساوياً، كإلحاق الأمة بالعبد، فهو ما في معنى /127/ الأصل، وقد يسمى كذلك، وقيل: لا يكون مساوياً إذ ذلك قياس.
ويعمل بهما عند (أئمتنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض الظاهرية) فيهما، ويسمى منكرهما سوفسطائي الشرع، وهما قطعيان إذا كان أصلهما قطعياً(1).
فأما الأدنى كإلحاق النبيذ بالخمر فقياس اتفاقاً.
(135) فصل (والثاني)(2) ما خالف حكمه حكم المنطوق، ويسمى: (دليل الخطاب)، و: (المفهوم) من غير تقييد(3). وهو أقسام:
مفهوم صفة، وشرط، وغاية، وعدد، وحصر باستثناء أو بإنَّما، أو بفصل بضمير الفصل، أو بتقديم معمول، أو مبتدأ في خبر، ومفهوم لقب.
وشرطه عند معتبره: ألاَّ يكون المسكوت عنه تُرِكَ لخوف، و: ألاَّ يكون المذكور خَرَجَ للغالب، أو لسؤال، أو حادثة، أو لجهل بحكمه(4) أو لغير ذلك مما يقتضي تخصيصه بالذكر.
__________
(1) كقوله تعالى: ?ولا تقل لهما أفٍ? فإنه قطعي المتن قطعي الدلالة.
(2) أي: مهفوم المخالفة.
(3) أي: لموافقة ومخالفة.
(4) السكوت عنه لخوف مثل: أن يقول: في سائمة الغنم زكاة، ولا يذكر المعلوفة خوفاً من صاحبها. ومثال الخارج للغالب قوله تعالى: ?وربائبكم اللاتي في حجوركم?، فإن التقييد بكونها في الحجور، لا يعني حل من ليست في الحجور؛ لأنه إنما ذكر ذلك لكون الغالب أن الربائب تكون في الحجور. ومثال السؤال، نحو أن يسأل أحد النبي (ص): هل في سائمة الغنم زكاة؟ فيقول: في سائمة الغنم زكاة، فلا يؤخذ منه إلاَّ أنه أتى بالجواب مطابقاً للسؤال. ومثال الحادثة: أن يقال في حضرته لفلان غنم سائمة، فيقول: فيها زكاة. ومثال الجهل بحكمه أن يعلم المكلف أن في المعلوفة زكاة، ولم يعلم ذلك في السائمة فيقول النبي (ص): في السائمة زكاة.(1/172)


(136) فصل /128/ فمفهوم الصفة، نحو: في الغنم السائمة زكاة(1)، ويعمل به وفاقاً (لمالك، والشافعي، وأحمد، والأشعري، والجويني، وأبي عبيد)، خلافاً (لبعض علمائنا، والحنفية، وجمهور المعتزلة، والأشعرية، والأخفش). وقيل: يعمل منه بالاسم المشتق، نحو: (( الثيب أحق بنفسها ))(2). وقيل: بالمتجدد الذي يطرأ ويزول، نحو: أكرم داخل الدار. وقيل: بالمتدارك، نحو: اقتل الكلب المرسل العقور. وتوقف (الشيخ) فيهما. (الكرخي، وأبو عبد الله): يعمل منه بالوارد بياناً لمجمل، نحو: في سائمة الغنم زكاة، بعد: خذ من غنمهم زكاة، ولا وجه لعدها أقساماً مستقلة، إذ هي من أنواعه، ولا تكون قسيمة له. وكذا مفهوم الحال(3)، نحو: ?وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً?[النساء: 93] ، ?وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المسَاجِدِ?[البقرة: 187].
ومفهوم الشرط، نحو: ?وَإنْ كُنَّ أولاَتُ /129/ حَمْلٍ فَأنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ?[الطلاق:6]، ويعمل به وفاقاً (للكرخي، وأبي الحسين، وابن سريج، والرازي)، وكثير ممن لا يعتبر مفهوم الصفة. خلافاً (لبعض أئمتنا، والشيخين، والقاضي، والجويني، والغزالي، والباقلاني). وعن (أبي عبد الله) روايتان.
ومفهوم الغاية، نحو: ?ثُمَّ َأتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ?[البقرة: 187] و?فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ?[المائدة:6 ]، ويعمل به وفاقاً (للجمهور). خلافاً (لأبي رشيد، وبعض الفقهاء)، وقيل: إن كانت الغاية من جنس ما قبلها عمل به، وإلا فلا.
__________
(1) فإنه يفهم من وصف الغنم بالسائمة ـ التي ترعى بنفسها ـ أن المعلوفة ـ التي يجلب لها العلف ـ لا زكاة فيها.
(2) أخرجه مسلم عن ابن عباس.
(3) لأن الحال النحوي وصف في اللغة.(1/173)


ومفهوم العدد نحو: ?فِاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً?[النور: 4]، وإذا قيد حكم بعدد فإن دل على ثبوته فيما زاد عليه بالأولى، نحو: (( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً )) (1) . فمفهومه في طرف النقصان، وإلا فهو من طرف الزيادة، نحو: ?فِاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِيْنَ جَلْدَةً?[النور: 4]، ويعمل به خلافاً (لأبي حنيفة، وغيره)، فإما حيث يراد /130/ بالعدد المبالغة كسبعين مرة، فلا يعمل بمفهومه.
ومفهوم الحصر وأنواعه خمسة: مفهوم الاستثناء، نحو: لا إله إلا الله، و ?إلاَّ الذِيْنَ عَاهَدْتُم مِنْ المشْرِكِيْنَ?[التوبة: 4]، ويعمل به عند (أئمتنا، والجمهور). خلافاً (للحنفية)، وهو منطوق عند (أئمة المعاني، وابن الحاجب).
__________
(1) أخرجه ابن ماجة 1/172، والنسائي 1/175، والترمذي 1/97، وأبو داود 1/17 عن ابن عمر، فإن حكمه وهو عدم حمل الخبث مقيد بعدد، هو القلتان، ومعروف أن ما زاد عليهما أولى بألاَّ يحمله، فيكون المفهوم إذا نقص عن القلتين حمل خبثاً لا إذا زاد، بخلاف ?فاجلدوهم ثمانين?، فإن مفهومه لا تزيدوا عليها؛ لأن الأصل العقلي المنع من الجلد، فلا يزاد على ما قرره الشرع، أما النقص فيجوز لموافقته حكم العقل، مالم يدل دليل الشرع على عدم جواز ذلك.(1/174)


ومفهوم إنما المكسورة المقتضية للحصر نحو: ?إنَّمَا إلهُكُمْ اللهُ?[طه: 98]، و?إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاءِ?[التوبة: 60]، ويعمل به عند (أئمتنا، والجمهور)، وجعله (أئمة المعاني، والغزالي، والباقلاني) منطوقاً، ونفاه (الحنفية، والآمدي، وأبو حيان)(1). وادعى (الزمخشري)(2) في (أنما) المفتوحة إفادة الحصر؛ لأنها فرع المكسورة.
ومفهوم الفصل بين المبتدأ والخبر، إذا كان معرفة، أو أفعل من كذا، أو فعلاً مضارعاً قبل دخول العوامل اللفظية وبعدها نحو: فالله هو الولي، ?وَإنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الهُدَى?[البقرة: 120] /131/، وزيد هو أفضل من عمرو، و?إنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ?[السجدة: 25].
ومفهوم تقديم المعمول، نحو: ?إيَّاكَ نَعْبُدُ?[الفاتحة: 3]، و?فبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ?[الأنعام:90]، ونفاه (ابن الحاجب، وأبو حيان).
ومفهوم حصر المبتدأ المعرَّف لغير معهود الظاهر في العموم في خبر أخص منه، نحو: العالم أو صديقي زيد، وقيل: هو منطوق، وأنكر قوم إفادته الحصر، فأما عكسه فلا يفيده على الأصح.
ومفهوم اللقب، وقد يعبر عنه بمفهوم الاسم وبمفهوم الاسم المطلق يكون: إما مفهوم عَلَم، نحو: محمد المصطفى، وعلي المرتضى، والحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا. أو جنس، كالنص على الأجناس الستة بتحريم الربا.
__________
(1) أبو حيان، هو: محمد بن يوسف بن علي بن حيان العلامة الحافظ المفسر النحوي اللغوي، ولد بغرناطة، وذهب إلى القاهرة وتوفي بها في صفر سنة خمس وأربعين وسبعمائة. طبقات الشافعية3/67.
(2) الزمخشري، هو: العلامة الكبير والمفسر الشهير محمود بن عمر الزمخشري، إمام المفسرين ومن كبار الأدباء، له مصنفات في فنون شتى، توفي رحمه الله سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.(1/175)

35 / 66
ع
En
A+
A-