(فالنص) لغة: الظهور. واصطلاحاً: جلي، وهو: اللفظ الدال على معنى لا يحتمل غيره بضرورة الوضع، اسماً أو فعلاً أو حرفاً، كمحمد، وعشرة، وطلقت، وكي. وخفي، وهو: الدال على معنى لا يحتمل غيره بالنظر، لا بضرورة الوضع. ومنه الدليل على إمامة الوصي عليه السلام، عند (جمهور أئمتنا) /120/ لا من الأول، خلافاً (للجارودية(1)، والإمامية). وقصره (التهامي(2)، والغزالي والطبري)(3) على الأول. ويطلقه الفقهاء على ما دل على معنى كيف كان(4).
(والظاهر) لغة: الواضح. واصطلاحاً: اللفظ السابق إلى الفهم منه معنى راجح مع احتماله لمعنى مرجوح(5)، ودلالته ظنية في العمليات بخلاف النص. وهو(6) إما بالوضع لغة، كأسد، أو شرعاً، كالصلاة، أو بالعرف كالدابة، وقد يصير نصاً لعارض.
__________
(1) الجارودية، فرقة من الزيدية تنسب إلى أبي الجارود زياد ابن المنذر الكوفي لموافقتها له في بعض المقالات المتشددة في الإمامة والصحابة.
(2) التهامي، هو: الحسن بن مسلم التهامي، من علماء الزيدية في القرن السادس، وهو من تلاميذ الشيخ الحسن الرصاص، قال في مطلع البدور: كان عالماً، فاضلاً كبيراً، له مصنفات، ومراجعات، وإفادات. قال في الدراري: وله كتاب (الإكليل على التحصيل) للشيخ الحسن. نقل القول بقصر النص على الجلي عنه الفقيه قاسم في (شرح الجوهرة).
(3) الطبري، المراد به: أحمد بن موسى أبو الحسين الطبري، من أصحاب الإمام الهادي، وكبار علماء الزيدية في عصره، ولد في طبرستان وهاجر إلى اليمن لمناصرة الإمام الهادي، مات بعد عام أربعين وثلاثمائة.
(4) أي: أن الفقهاء يستعملون النص بما يرادف (اللفظ المستعمل).
(5) الفرق بين الظاهر والنص الخفي أن الظاهر يحتمل مع الراجح أن يكون المراد به المرجوح، بخلاف النص الخفي فإنه دال على معنى لا يحتمل غيره لكن لا بضرورة الوضع، بالنظر والاستدلال، ولهذا اختلف في مدلوله.
(6) أي: الظهور.(1/166)
ويسمى النص والظاهر: محكماً ومبيناً(1).
(والمؤول) الظاهر المحمول على المعنى المرجوح؛ لدليل قطعي أو ظني يصيره راجحاً(2)، ولذلك(3) وجب رَدُّ كثير من التأويلات.
ويسمى المؤول والمجمل متشابهان(4).
والتأويل لغة: الرجوع. واصطلاحاً: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى المرجوح المحتمَل؛ لدليل.
وتعرف /121/ ظواهر الكتاب والسنة وتأويلهما بالسمع اتفاقاً، وبالعقل واللغة والعربية(5) خلافاً (للحشوية). وقالت (الإمامية، والباطنية): من الإمام أو من علَّمه فقط.
[أنواع التأويل]
(132) فصل وقد يكون ممكناً: قريباً، فيرجح بأدنى مرجح، وبعيداً فيحتاج إلى الأقوى، ومتوسطاً، وهي(6) مقبولة، ومتعذراً: فيرد.
فمن القريب تأويل قوله تعالى: ?وَاسْألِ القَرْيَةَ?[يوسف: 82] بأهل القرية، واليد بالنعمة، في قوله تعالى: ?بَلْ يَدَاه مَبْسُوطَتَانِ?[المائدة: 64].
ومنه: ?وَجَاءَ رَبُّكَ?[الفجر: 22] أي أمره، وليس من البعيد في الأظهر.
وتأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( إنما الربا في النسيئة )) (7)، بمختلفي الجنس.
وتأويل آية الجلد على التنصيف في العبد بالقياس على الأمة.
__________
(1) لوضوح المعنى المراد بهما.
(2) لعل الأوضح أن يقال: هو المصروف إلى المرجوح لدليل.. الخ
(3) أي: لكون التأويل لا بد له من دليل قطعي أو ظني، فالدليل ضابط لما يصح من التأويلات وما لا يصح.
(4) لخفاء المقصود إلا بعد البحث والنظر.
(5) فمن تمكن في العربية والأصول، أمكنه فهم القرآن والسنة وتأويلهما، من دون حاجة إلى تقليد، لا كما يذهب إليه بعض الناس من قصر فهمها على أشخاص بأعيانهم.
(6) أي: التأويلات الثلاثة.
(7) أخرجه النسائي 7/281، وأحمد 5/202، ومسلم 3/1218، والشافعي في المسند 180، والطبراني في الكبير 1/173 عن أسامة بن زيد.(1/167)
وتأويل قوله تعالى: ?إنَّمَا الصَّدَقَاتُ للفُقَرَاء..? الآية [التوبة: 60]، ببيان أن كل صنف مصرف على انفراده، فيجوز صرفها فيه، ولا يجب صرفها في كل الأصناف، إذ لم يقصد وجوب التشريك /122/.
فأما قصر المشترك على بعض ما وضع له لقرينة، كالقرء على الحيض أو الطهر، فمن البيان لا من التأويل على الأصح(1).
ومن البعيد تأويل الحنفية لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل ))(2) بالصغيرة والأمة والمكاتبة والمجنونة، دون غيرهن ـ لأنه(3) مالك لبضعه، فكان كبيع سلعته ـ مع ظهور قصد التعميم بالتأكيد.
وتأويل (بعض الشافعية) لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( من ملك ذا رحم محرم عتق عليه ))(4). بالأب فقط، مع ظهور عمومه في كل ذي رحم محرم والإيماء إلى وجه العلة(5).
وتأويل (بعض أئمتنا، والحنفية) لقوله تعالى: ?فَإطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْناً?[المجادلة: 4] بإطعام طعام ستين مسكيناً ـ فيصح لواحد في ستين يوماً ـ مع ظهور قصد الجماعة؛ لبركتهم، /123/ وتظافر قلوبهم على الدعاء للمكفر.
__________
(1) لاستواء دلالة القرء على كل من الحيض والطهر، بلا ظهور في أحدهما لولا القرينة، ولذا جعل القرء من المجمل كما تقدم.
(2) أخرجه أحمد 6/66، والدارمي 2/185، وأبو داود 2/229، وأبو يعلى 8/139 وغيرهم عن عائشة، بلفظ قريب.
(3) أي: غيرهن.
(4) أخرج نحوه النسائي في الكبرى 3/173، وأحمد 5/18، وآخرون بألفاظ مقاربة.
(5) وهو كونه ذا رحم محرم، فمن المناسب حفظ حق القرابة بصيانته عن الامتهان بالرق.(1/168)
وتأويلهم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( في كل أربعين شاة شاة )) (1) بقيمة شاة، وهو مبطل لإيجابها(2).
ومن المتوسط تأويل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل )) (3) بالقضاء والنذر المطلق والكفارة دون غيرها.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لغيلان الثقفي حين أسلم عن عشر نسوة: (( أمسك أربعاً وفارق سائرهن )) (4) بابتداء النكاح(5).
وقوله لفيروز الديلمي وقد أسلم عن أختين: (( أمسك أيهما شئت )) (6) بابتداء النكاح، وعدها(7) قوم من البعيد، وهو الأظهر في الأخيرين.
ومن المتعذر، وهو المدافع للقواطع، تأويل المرجئة آيات الثواب بالترغيب والعقاب بالترهيب، وتأويلات (النواصب(8)، والخوارج(9)، والإمامية، والباطنية)(10).
__________
(1) أخرجه ابن خزيمة 4/20 عن علي، ونحوه أخرج ابن ماجة 1/578 عن ابن عمر.
(2) يعني أن هذا التأويل مبطل لإيجاب الشاة؛ لأنه إذا أو جب قيمة الشاة لم تجب الشاة، وكل معنى إذا استنبط من حكم أبطله فهو باطل؛ لأنه يوجب بطلان أصله.
(3) أخرجه النسائي 4/197، والبيهقي 4/202 عن حفصة.
(4) أخرج نحوه الشافعي في المسند 274.
(5) أي: أنكحهن من جديد.
(6) أخرجه الشافعي في المسند 275، والدار قطني 3/273.
(7) أي: هذه التأويلات الثلاث.
(8) النواصب: لقب يطلق على كل من يتخذ موقفاً عدائياً من الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة.
(9) الخوارج: جماعة معروفة في التاريخ، تمردت على الإمام علي وخرجت عن طاعته ثم قاتلته، فواجههم وقضى عليهم في معركة النهروان.
(10) الباطنية: هم الذين يزعمون أن لخطاب الشرع باطناً غير الظاهر وأن إمامهم يعلم الباطن ويعلمه لأتباعه. ويقرب منها تأويل بعض المعاصرين لأعيان الثواب والعقاب على أنها رموز للمعنويات وتأويل بعضهم (شجرة آدم) بأنها الجنس (الجماع).(1/169)
وليس من ذلك بعض أحاديث الصفات ونحوها؛ لإمكان تأويله وثبوته عن الثقات، خلافاً /124/ (لبعض المتكلمين) (1).
ويتميز صحيحه من فاسده بموافقة العقل أو الكتاب أو السنة أو الإجماع أو اللغة وبمخالفتها(2).
باب مفهومات الخطاب
(133) فصل مدلول اللفظ: منطوق ومفهوم.
فالمنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق، ويسمى أصل المعنى. وينقسم إلى:
[1] صريح، وهو: ما وضع اللفظ له بالمطابقة أو التضمن.
[2] وغير صريح: وهو ما لم يوضع اللفظ له بأحدهما، وإنما يدل عليه باللزوم. وهو ثلاثة أقسام:
(الأول): ما قصد فيه اللازم، وتوقف صدق اللفظ أو صحته عقلاً أو شرعاً عليه، وهو محذوف، نحو: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) (3) أي: العقاب والمؤاخذة، إلا ما خصه دليل(4) و?اسْألِ القَرْيَةَ?[يوسف: 82]، أي: أهلها(5). وأعتق عبدك عني على ألف، أي: مُمَلِّكاً لي على ألف لاستدعاء العتق تقرير الملك، لتوقف صحة العتق عليه شرعاً. وتسمى /125/: دلالة الاقتضاء ولحن القول(6).
__________
(1) فإن صحة الحديث عن الثقات وإمكان تأويله ـ ولو لم يظهر للمطلع ـ رادع للعالم المتحرج عن التسرع في الرد للحديث والهجوم على الرواة، سيما فيما ليس فيه تكليف عملي، ويسعنا فيه السكوت، ولكن ليس معنى ذلك قبول كل غث وسمين سيما في مسائل الأصول بدون نظر إلى مقاييس ومعايير غير مجرد صحة السند أو حسنه.
(2) هذا معيار شامل لصحيح التأويل من فاسده في إطار الظنيات التي تخلتف الأنظار فيها.
(3) تقدم تخريجه.
(4) فإن صدق اللفظ يتوقف على تقدير المؤاخذة إلا ما خصه الدليل.
(5) فإنه يتوقف صحة اللفظ من جهة العقل على تقدير أهلها.
(6) سقط من (أ): ولحن القول.(1/170)