وإن اختلَف سببهما وحكمهما نحو: اهد بدنة عن القران، وزك بدنة /106/ سائمة عن النصاب. لم يحمل المطلق على المقيد اتفاقاً.
وإن اتحد سببهما واختلف حكمهما، نحو: اكس ثوباً عن الكفارة، وأطعم طعام الملوك عن الكفارة. فكذلك.
وإن اتحد حكمهما واختلف سببهما كقوله تعالى في الظهار: ? فَتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ?[المجادلة: 3]، وفي القتل: ?وِتَحْرِيْرُ رَقَبَةٍ مُؤمِنَة?[النساء: 92]؛ فعند (أقل الشافعية)، أنه يحمل المطلق على المقيد، سواء كان بجامع أو بغيره. وعند (الحنفية): لا يحمل سواء كان بجامع أو بغيره. (أئمتنا، والمعتزلة، والأشعرية، وصُحح للشافعي)، إن قام دليل على الحمل من قياس أو غيره حمل عليه، وإلا فلا.
(121) فصل ويحمل المطلق المشْبِه لمقيدين قيد كل منهما مخالف لقيد الآخر، على أكثرهما شبهاً، كإطلاق قضاء رمضان، وتقييد صوم الظهار بالتتابع، وصوم التمتع بالتفريق. فإن تساويا فالوقف، وقيل /107/: مخير بينهما.
والمطلق الواقع بعد المقيد مقيد إن كان بينهما تعلق بضمير أو نحوه(1) إلا لمانع(2). وكذا المطلق المتأخر في الأمر بعد المقيد في النهي المتقدم، نحو: اعتق رقبة بعد لا تملك رقبة كافرة.
والمطلق المتقدم في الأمر المقيد في النهي المتأخر المقارِن له(3)، نحو: قوله للقاتل: اعتق رقبة ولا تملك رقبة كافرة. فأما النهي غير المقارن له فكما اتحد سببهما وحكمهما. ولا يحمل مطلق النهيين على مقيدهما نحو: لا تعتق المكاتب، لا تعتق المكاتب الكافر.
المجمل
[6] باب المجمل
(122) فصل المجمل لغة: الشي المجموع. واصطلاحاً: ما لم تتضح دلالته.
__________
(1) التعلق بالضمير، نحو: أعتق مملوكاً أعتق أختاً له. ونحوه العطف في: ?وَالْذَّاكِرِيْنَ اللَّهَ كَثِيْراً وَالْذَّاكِرَاتِ?.
(2) نحو أكرم الرجال، أكرم النساء من لم تحض.
(3) المراد بالمتأخر المقارن له: المتأخر في الصدور المقارن له بحيث لا يبقي وقت يمكن فيه العمل.(1/156)
ويقع في القول مفرداً، ومركباً، وفي الفعل والترك والقياس والتقرير.
ويكون بالإشتراك: وضعاً.. اسماً، كقرء، وفعلاً، كعسعس /108/، وحرفاً كمن. أو عُرُوضاً(1)، كمختار(2).
وبالنقل، كالصلاة.
وبالقصر، كالعام المخصوص باستثناء ،أو صفة، أو دليل منفصل، مجهولات(3).
وبالوصف أو الإشارة أو الضمير المترددة بين أمرين فصاعداً(4).
وبالواو المتردد بين العطف والاستئناف(5).
وبورود جملة عقيب جملتين متنافيتين(6).
وبتعدد المجازات المتساوية بعد منع الحقيقة، كبقرة لمعينة(7).
وهو واقع في الكتاب خلافاً( لبعض الحشوية)، وفي السنة خلافاً لشذوذ.
[من صور المجمل]
(123) فصل ومما أخرج من المجمل وهو منه صور:
__________
(1) عطف على وضعاً، يعني أن الإجمال عارض وليس بالوضع.
(2) فإنه متردد بين الفاعل والمفعول.
(3) كلمة: (مجهولات) عائدة على الثلاث السابقة. ومثال المخصوص بالاستثناء: ?إلا ما يتلى عليكم? والمخصوص بالصفة: ?محصنين غير مسافحين? وبالدليل: ?اقتلوا المشركين?.
(4) كلمة المترددة بين أمرين فصاعداً عائدة على الثلاثة. مثال الوصف: جاءني غلام زيد الكاتب. ومثال الإشارة: ?ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام? ومثال الضمير: قول بعضهم وقد سئل عن أبي بكر والإمام علي أيهما أفضل فقال: من كانت بنته في بيته.
(5) كقوله تعالى: ?وما يعلم تأويله إلاَّ الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به?.
(6) نحو قوله تعالى: ?قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلاَّ من سبق عليه القول ومن آمن?، فالجملة المتأخرة وهي قوله: ?ومن آمن? يحتمل أن تكون راجعة إلى كل من الجملتين المتقدمتين.
(7) لأن حقيقة المتواطئ عدم التعين، فإذا عين صار مجازاً، ومنه: لأعطين الراية غداً رجلاً. فإنه دال على مشاع وقد صار لعلي عيله السلام. ذكر ذلك في الحواشي.(1/157)
منها: قوله تعالى: ?وَلا تَيَمَّمُوا الخَبِيْثَ مِنْهُ تُنْفِقُوْنَ?[البقرة: 267]، فاستدل به بعض الشافعية على أن الرقبة الكافرة لا تجزي في كفارة الظهار، مع أن لفظ الخبيث مجمل؛ لاستعماله في النجس والشرير والمنفور عنه، ولا قرينة تعين أحدها/109/.
ومنها: قوله تعالى: ?وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوْا أيْدِيَهُمَا?[المائدة: 38]، لتردد القطع بين الإبانة والشق، واليد بين كونها من أصول الأصابع، أو من الكوع، أو من المرفق أو المنكب. وقيل ليس بمجمل؛ لأن القطع الإبانة، واليد إلى المنكب، واختاره (ابن الحاجب).
(124) فصل ومما أدخل فيه وليس منه صور:
منها: قوله تعالى: ?وَامْسَحُوا بِرُؤوسِكُم?[المائدة: 6]، وليس بمجمل عند (أكثر أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقال (أكثر أئمتنا، والمالكية): لأن الباء للإلصاق. (الحفيد) وغيره: بل لأنها زائدة، فالظاهرالتعميم. (بعض الشافعية): بل لأنها للتبعيض. وبعضهم، لاستفادته من العرف. (بعض أئمتنا، والحنفية): بل مجمل؛ لاحتمال الكل والبعض. ثم ورد البيان من السنة.(1/158)
ومنها: الفعل المنفي، والمراد نفي الصفة، نحو: (( لا صلاة إلا بطهور ))(1)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل: لحمله على ما هو أقرب /110/ إلى الحقيقة المتعذرة، وهو: نفي الإجزاء في عرف الشرع، إن ثبت في مثله عرف شرعي. أو نفي الفائدة في عرف اللغة إن لم يثبت فيه ذلك(2). وقيل - وهو المختار - :لحمله على نفي جميع الأوصاف، لوجوب حمل اللفظ على كل ما يحتمله إلاَّ لتناف. (الكرخي، وأبو عبد الله، وأبو الحسين، والباقلاني): بل مجمل؛ لأنه لا بد من إضمار شيء يتعلق به النفي، وهو متردد بين الإجزاء والكمال، وما أضمر للضرورة قيد بقدرها، فلا يضمر الجميع ولا أحدهما معيناً، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فكان مجملاً.
ومنها: العموم المخصص بمبيَّن، وليس بمجمل عند أئمتنا والجمهور، وقد تقدم تفصيل ذلك .
ومنها: تعليق التحريم والتحليل بالأعيان، نحو: ?وأحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيْمَةُ الأنْعَامِ?[الحج: 30]، و?حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أمَّهَاتُكُمْ?[النساء: 23]، وليس بمجمل عند /111/ (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل وهو المختار ـ: لدلالة العقل على الحذف، والعرف على تعيين المحذوف المراد إثباته كالأكل، أو نفيه كالوطئ. وقيل: بل لحمله على جميع ما يحتمله، كالأكل وغيره، والوطء وغيره، إلا لدليل. (الكرخي، وأبو عبد الله): بل مجمل لتعذر حمله على ظاهره كما سبق تفصيله.
__________
(1) أخرجه الطيالسي 33، والدار قطني 1/73، والطبراني في الكبير 22/296.
(2) أي إن لم يثبت فيه عرف الشرع، فيكون معنى الخبر: لا صلاة مجزئة أو لا صلاة مفيدة، كقولك فلان لا شيء. واعترض الجلال على اشتراط المؤلف عدم ثبوت عرف الشرع، بأن الواقع في خطاب أهل اللَّغة يحمل على عرفهم، سواء تعقَّبه شرع أو لا. وخطاب الشارع يحمل على عرفه، سواء تقدَّمه عرف لغوي، أو لا، فلا وجه للشرط.(1/159)
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( الأعمال بالنيات ))(1)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور) لحمله على الصحيحة شرعاً. (بعض المتكلمين، والفقهاء): بل مجمل لتعذر حمل اللفظ على ظاهر عمومه كما تقدم.
ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ))(2)، وليس بمجمل عند (أئمتنا، والجمهور). ثم اختلفوا، فقيل - وهو المختار - : لحمله على رفع كل الأحكام الدينية والدنيوية إلا ما خصه دليل، كإيجاب الكفارة على القاتل خطأ، والحانث الناسي، وكغرامات الأموال المتلفة. (الغزالي، والرازي): بل لحمله على /112/ رفع الأحكام الأخروية، كالعقاب وما يتعلق به، لا الدنيوية كالغرامات وغيرها. (أبو عبد الله، وأبو الحسين): بل مجمل لما تقدم(3).
ومنها: المشترك، وليس بمجمل عند (جمهور أئمتنا، وأبي علي، والقاضي)؛ لحمله على جميع معانيه إلا عند قيام قرينة على إرادة بعض ما وضع له من غير تعيينه، أو احتماله للمعاني المتنافية من غير قرينة تدل على أحدها(4). (أبو هاشم، والكرخي، وأبو عبد الله، والإمام، والشيخ، وأبو الحسين): بل مجمل، إلا لقرينة معينة لبعض ما وضع له.
__________
(1) هذا حديث مشهور، رواه أكثر المحدثين من طرق، عن يحيى بن سعيد القطان، بإسناده عن عمر بن الخطاب.
(2) الحديث معروف بلفظ: إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان، أخرجه : ابن ماجة 1/659، والدار قطني 4/170، وابن حبان 16/202، والحاكم 2/216، والطبراني في الصغير 2/52.
(3) لأنه لا إضمار إلا لضرورة وللضرورة ببقدرها، فلا يضمر الجميع ولا البعض للتحكم.
(4) فهو حينئذٍ مجمل.(1/160)