(115) فصل (أئمتنا، والجمهور): ولا يخصص العام بوروده على سبب خاص مطلقاً، خلافاً (لبعض السلف، ومالك، والشافعي، وأبي بكر الفارسي)، وهو نص في السبب ظاهر في غيره، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - لما سئل عن بئر بضاعة -: (( خُلق الماء طهوراً لا ينجسه إلا ما غير ريحه أو لونه أو طعمه ))(1)، فأما جواب السائل غير المستقل دونه(2) فتابع للسؤال في عمومه/100/ اتفاقاً(3).
ولا بعطفِ خاصٍّ عليه مما قد تناوله كقوله: ?وجِبْرِيْلَ ومِيْكَائِيلَ?[لبقرة:98]، خلافاً لقوم(4). وكذا بعطف عام على خاص نحو: ?آتيناكَ سَبعاً مِنْ المثَانِي وَالقُرآن العَظِيْم?[الحجر: 87].
ولا بالضمير الراجع إلى بعض ما يتناوله نحو: ?وَبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ?[البقرة: 228] (5)، خلافاً (للحفيد، وابن زيد، والجويني)، وتوقف (أبو الحسين، وابن الملاحمي، والرازي)، وقال (الداعي): يوجب صرف العموم إلى العهد.
__________
(1) ذكر المؤلف في (الفلك الدوار 252) أنه رواه الأمير الحسين في الشفاء، وقواه وقال: احتج به علماء الإسلام. ورواه ابن ماجة 1/174 والطبراني 8/123 عن أبي أمامة.
(2) أي الجواب غير المستقل عن السؤال.
(3) فلو قال: ما على من أفطر في نهار رمضان بالجماع؟ فقيل: عليه الكفارة، فالجواب تابع لعموم السؤال، أما لو قال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: عليك الكفارة، فالجواب خاص تبعاً للسؤال، فلا يدخل غيره إلا بدليل.
(4) فلا يقال: إن عموم (ملائكته) قد تخصص بعطف جبريل وميكائيل عليه، بل يبقى على عمومه ويخصص المذكورون بالذكر لفضلهم على سائر الملائكة.
(5) فإن لفظ (المطلقات) يجعله في أول الآية عاماً للرجعية وغيرها، بينما الضمير في (وبعلوتهن) عائد إلى الرجعيات فقط، فلا يقال: إن عود الضمير يصيِّر لفظ (المطلقات) خاصاً بالرجعيات، بل يبقى على عمومه، ويكون التخصيص بدليل خارجي.(1/151)
ولا بذكر بعض أفراده الموافقة له في الحكم، وليس لها مفهوم معتبر خلافاً (لأبي ثور)، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( أيما إهاب دبغ فقد طهر ))(1)، ثم قوله في شاة ميمونة: (( دباغها طهورها ))(2) بخلاف(3): في الغنم زكاة، ثم: في الغنم السائمة زكاة.
ولا بمقدر مخصوص(4) في الجملة الثانية، خلافاً (للحفيد)، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( ألا لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده ))(5)، فخصصوا بكافر /101/ في الجملة الأولى بتقديره في الثانية مخصصاً(6)، وتوقف (أبو الحسين).
ولا بمذهب الصحابي حيث يخالفه غالباً(7)، ولو كان راويه، خلافاً (للحنفية، والحنابلة، ولبعض علمائنا)، حيث لا يكون للاجتهاد فيه مسرح(8). (الشافعي): إن حَمَل العموم على الخصوص لم يخص بمذهبه وإن حَمَل ما يحتمل معنيين على البدل على أحدهما خص به(9). (القاضي): إن حَمَله على الخصوص لفهمه من قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلم ذلك منه بقصد أو قرينة، وجب اتباعه في التخصيص، وفي الحمل على أحدهما، وإلا فلا، وهو اتفاق.
__________
(1) رواه ابن الجارود في المنتقى 27 وابن حبان 4/204 وغيرهما عن ابن عباس.
(2) أخرجه الدارمي 2/117 عن ابن عباس والنسائي 7/174 عن عائشة.
(3) فلا يعتبر التنصيص على شاة ميمونة تخصيصاً لعموم (أيما إهاب) بحيث تقول: إن دباغ الأديم لا يطهر إلا فيها؛ لأنه ليس له مفهوم معتبر؛ إذ هو مفهوم لقب.
(4) في النظام مخصَّص.
(5) أخرجه ابن الجارود في المنتقى 269 عن ابن عمر وأخرجه الحاكم 2/153 عن علي.
(6) بحيث إذا قتل المعاهد كافراً لم يقتل به على مقتضى هذا القول.
(7) الاحتراز هنا من الإمام علي؛ لأنه مع الحق.
(8) فقالوا: يكون مخصصاً حينئذٍ.
(9) في نسخة: حمل عليه. أشار إليها في هامش (أ).(1/152)
ولا بالعادة الجارية بترك بعض مدلوله مثل: حرمة الربا في الطعام، وعادتهم تناول البر، خلافاً (للحنفية) مطلقاً(1). و(للرازي) إن جرت في زمنه صلى الله عليه وآله وسلم وعلمها وقررها أو أُجْمِع عليها لا غير، وليس من ذلك ما نقله عرف اللغة إلى غير معناه الأصلي كالدابة فإنه مخَصَّصٌ بما نقل إليه اتفاقاً.
[كون التخصيص دفع عن العمل بالعام لا رفع له]
(116) فصل /102/ وكل أنواع التخصيص المتصلة والمنفصلة مخصِّصًة بالدفع لا بالرفع(2)، وكذا النسخ في الأصح(3).
وَيَقْبَلُه كل عام معنى كالعلة، أو لفظاً(4)، إلا المؤكَّد بما يفيد الشمول إلا بمتصل(5)، وقول بعضهم كل عمومات القرآن مخصوصة إلا: ?وَاللهُ بِكُلِّ شَيء عَلِيْمٌ?[البقرة: 282]، ?وَمَا مِنْ دَابَّةٍ في الأرْضِ إلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا?[هود: 6]، فيه نظر.
(117) فصل ويمتنع تخصيص العام حتى لا يبقى شيء مما يتناوله اتفاقاً.
__________
(1) فيحمل التحريم عندهم على المعتاد، وهو: البر، ولا يدخل غيره من الطعام.
(2) معنى ذلك أن مخصص العموم ـ سواء كان متصلاً أو منفصلاً ـ دافع لوهم العمل بمقتضى العموم، ومبين أن الشارع ما أراد بالعموم إلاَّ ما عدا المخصص، لا أنه أريد ثم رفع وقطع عما يقضي به ظاهراً؛ لأن ذلك قد يكون من البدا، بل لم يرد العموم بدليل التخصيص.
(3) فهو دافع لوهم عموم الأزمان والأحوال ببيان انتهاء الحكم.
(4) يعني ويقبل التخصيص كل عام، سواء كان عمومه للمعنى، أي: العلَّة في نحو: اعطه الزكاة لفقره، فيخصص بالكافر والفاسق. أم في اللفظ كالمشركين.
(5) كقوله تعالى: ?فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِيْنَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ?.(1/153)
واختلف في الغاية التي ينتهي إليها التخصيص، فعند (الشيخ، والجويني، وبعض اللغويين، وغيرهم): يجوز إلى واحد في كل ألفاظ العموم. (الإمام، وأبو الحسين، والغزالي، والرازي): يمتنع في كلها إلى دون أقل الجمع. (المنصور، والحفيد): إن كان جمعاً معرفاً جاز إلى واحد، وإن كان غيره فإلى ثلاثة. وعكَّس (القفال). (الداعي، وابن زيد): إن كان بالاستثناء جاز إلى واحد، وإن كان بغيره كان الباقي أكثر أو مساوياً /103/، فأما إطلاق لفظ الجمع على الواحد المعظم فجائز.
واختلف في أقل الجمع، فعند (أئمتنا، والجمهور، وبعض السلف): أنه ثلاثة. وعند (أبي العباس، وثعلب، والباقلاني، وبعض السلف، والفقهاء): أنه اثنان، وهو أحد قولي (المؤيد بالله).
(118) فصل وإذا تعارض العام والخاص في غير الأخبار(1): فإما أن يعلم تقارنهما، أو تأخر الخاص، أو تأخر العام، أو يجهل ذلك.
إن علم تقارنهما خصص العام به عند (أئمتنا، والجمهور). (ابن القاص)(2): يتعارضان فيما تناوله الخاص كالنصين، فيجب الترجيح أو الرجوع إلى دليل آخر إن أمكنَا، وإلا فالوقف.
وإن علم تأخر الخاص، فإن تأخر بمدة لا يمكن فيها العمل بالعام، فتخصيص على المختار(3)/104/، وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل فقيل: ناسخ، ويأتي ـ على أصل ـ مانع تأخير البيان إلى وقت الحاجة. وقيل: مخصص، ويأتي على أصل مجوزه.
__________
(1) أما في الأخبار فلا تعارض؛ لأن العمل بالقاطع فيها ولا تعارض في القطعيات.
(2) ابن القاص، هو: شيخ الشافعية أبو العباس أحمد بن أبي أحمد الطبري ثم البغدادي، تلميذ أبي العباس بن سريج، له كتب، توفي مرابطا بطرسوس سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة. سير أعلام النبلاء 15/371.
(3) كما لو قال: أكرم من دخل إلا فلان.(1/154)
وإن علم تأخر العام فإن تأخر بمدة لا يمكن فيها العمل بالخاص، فتخصيص على المختار. وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل فهو ناسخ للخاص عند (جمهور أئمتنا، والحنفية، والقاضي، والباقلاني، والجويني)، ومخصَّص بالخاص عند (بعض علمائنا، والشافعي، وأبي الحسين، والرازي، وبعض الظاهرية). ابن (القاص): يتعارضان فيما تناوله الخاص كالنصين، فيجب ما تقدم.
وإن جهل التاريخ بينهما فهو مخصص للعام عند (بعض علمائنا، والشافعي). وحكى (ابن زيد، وأبو الحسين)، الإجماع على ذلك. وعند (جمهور أئمتنا، والحنفية، والقاضي، والباقلاني): يتعارضان فيما تناوله الخاص، فيجب ما تقدم.
وأما تعارض العامين والخاصين فسيأتي.
المطلق والمقيد
[5] باب المطلق والمقيد
(119) فصل المطلق: اللفظ الدال على شائع في جنسه، كرجل. فتخرج المعارف الشخصية، كزيد، ونحو: كل رجل؛ لاستغراقه.
والمقيد: اللفظ الدال على مدلول معين، كزيد، وأنا، وأنت، وهذا الرجل، وقد /105/ يطلق المقيد على ما أخرج من شائع في جنسه: كـ?رَقَبَةٍ مُؤمِنَة?[النساء: 92]، فهي وإن كانت مطلقة في جنسها من حيث هي رقبة مؤمنة، فهي مقيدة بالنسبة إلى مطلق الرقبة.
والمبحوث عنه عند الأصوليين هو الثاني، وتقييد المطلق شبيه بتخصيص العام، فما ذكر في التخصيص من متصل ومنفصل ومتفق عليه ومختلف فيه ومختار ومزيف يجري في تقييد المطلق.
(120) فصل وإذا ورد مطلق ومقيد مثبتان، فإن اتحد سببهما وحكمهما، نحو: اعتق رقبة في الظهار، أعتق رقبة مؤمنة(1). فإن تأخر المقيد بمدة لا يمكن فيها العمل بالمطلق؛ فهو مقيد به على المختار. وإن تأخر بمدة يمكن فيها العمل؛ فناسخ عند مانع تأخير البيان إلى وقت الحاجة، ومقيد عند مجوزه. وإن تقدم المقيد على المطلق أو جهل ذلك فقياس الخلاف فيه كما تقدم.
__________
(1) فإن السبب وهو الظهار واحد، وكذلك الحكم وهو وجوب الإعتاق.(1/155)