1 ـ أن معظم تلامذة الإمام زيد وقرنائه من أهل بيته قتلوا معه أو شردوا من بعده وأودعوا السجون، وبذلك قلَّت المنابع الفقهية، وتعثرت مسيرة تطويره وتوسيعه، وكاد فقه الزيدية يقتصر على المصادر التي سبق ذكرها من كتب الإمام زيد وفتاواه.
2 ـ أن السلطة الأموية ومن بعدها العباسية عملتا على إقامة حظر شامل على كل ما له علاقة بالإمام زيد في المجال الفكري، بسبب ما يتميز به من دعوة للصلاح والتغيير بروح ثورية وثَّابة، حتى عاش أنصاره وأبناؤه معظم أعمارهم متنكرين، لا يقدرون على إظهار أسمائهم وأنسابهم فضلاً عن نشر أفكارهم، حتى قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني فقيه الحنفية المشهور المتوفى سنة (189 هـ/805م): إذا أمنت من أعداء زيد بن علي على نفسي فأنا على مذهبه? وإلا فأنا على مذهب أبي حنيفة(1).
وروي أنه قيل للإمام يحيى بن زيد: إنَّا نرى الناس إلى بني عمك أميل منهم إليكم.. فأجاب: إنهم يدعون الناس إلى الحياة وندعوهم إلى الموت(2)!
ولذلك صعب على أئمة الزيدية آنذاك تكوين مجتمع يغلب عليه طابع الفقه الزيدي.
__________
(1) الشافي 1/236، الفلك الدوار 55.
(2) ?مقدمة الصحيفة السجادية. وفي صحة جميع تلك المقدمة نظر.(1/11)


3 ـ أن الزيدية عاشت بعد مقتل الإمام زيد ـ ما لا يقل عن قرن من الزمان ـ حالة استنفار دائمة نتيجة للصراع بين أتباع الإمام زيد وخصومهم، فبعد مقتله مباشرة، قاد ولده يحيى بن زيد مَن بقي من الزيدية ضد الحكم الأموي، حتى قتل في خراسان سنة (126 هـ/743م)، وانقرض عصر الأمويين وظهر العباسيون فسلكوا مسلك الأمويين في قمع الزيدية، فنهض الإمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية وأخوه إبراهيم بن عبد اللّه لتصحيح وضع الأمة، فما لبث أن استشهد محمد في المدينة سنة (145 هـ/762م)، واستشهد إبراهيم في البصرة بعده بأشهر. وبعدهما ببضع سنوات اضطر الإمام الحسين بن علي الفخي لمواجهة جنود العباسيين حتى استشهد سنة (149 هـ/766م) بالحجاز وهو محرم للحج، ثم تشتت الزيدية بعد ذلك، فذهب الإمام يحيى بن عبد اللّه إلى بلاد الجيل والديلم، وما إن بدأ في الدعوة إلى الله هناك حتى طلبه هارون الرشيد وأعاده إلى بغداد حيث استشهد في السجن مسموماً سنة (175هـ/791م). وذهب الإمام إدريس بن عبد اللّه إلى بلاد المغرب وأقام بها دولة منفصلة عن الدولة العباسية، كان لها طابع فكري مميز، ثم دس له من سافر إله وقتله بالسم سنة (177هـ/793م). واستمر ذلك الصراع دون انقطاع إلى أواخر القرن الثاني الهجري.(1/12)


وفي ظل تلك الظروف لم يكن ثم أي مجال للتأصيل والجمع والتأليف على نطاق واسع، إلا أن أئمة العلم من الزيدية - رغم كل ذلك - حافظوا على التوجه العام لخط أهل البيت، وكانوا يوافون أتباعهم في كل عصر بما تتطلبه الساحة من المعارف الدينية، إما على شكل فتاوى وحوارات، أو على شكل كتب ورسائل كما فعل الإمام محمد بن عبد اللّه النفس الزكية حين كتب كتاباً في الفقه السياسي سماه: (كتاب السير)(1).
وفي أوائل القرن الثالث الهجري استطاع أئمة الزيدية أن يكونوا مجتمعات محدودة ذات هوية ثقافية مميزة، وتمكنوا من تدوين شطر من فتاواهم واجتهاداتهم، وشرحوا بعض الأصول التي قامت عليها، واشتهر في تلك الفترة جماعة من فقهائهم، منهم:
الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي? المتوفى سنة (246 هـ/861م) (2)? وهو أحد أعلام الأئمة المجتهدين، له مذهب فقهي مشهور في أوساط الزيدية، وألف كتبا كثيرة في الفقه وغيره، منها: كتاب (الناسخ والمنسوخ)، وكتاب (الطهارة والصلاة) و(مسائل النيروسي)، وغيرها.
الإمام الحسن بن يحيى بن الحسين بن زيد المتوفى (260 هـ/873م) (3)، وكان في الشهرة بالكوفة في الزيدية كأبي حنيفة عند فقهائها، قال السيد صارم الدين: "كان عامة الزيدية عند الكوفة على مذهبه" (4). وأورد الحافظ أبو عبد اللّه العلوي جزءاً من فقهه في (الجامع الكافي).
__________
(1) ?كتاب (السير) في الفقه السياسي، ذكره غير واحد، وقد نقل عنه نصوصاً كثيرة الإمام أبو طالب في (التحرير) والحافظ أبو عبد اللّه العلوي في (الجامع الكافي)، والإمام يحيى بن حمزة في (الانتصار) وغيرهم.
(2) الفلك الدوار 15، الأعلام 6/5.
(3) ?طبقات الزيدية ـ خ ـ، الفلك الدوار 26.
(4) ?طبقات الزيدية ـ خ ـ، الفلك الدوار 26.(1/13)


الإمام عبد الله بن موسى بن عبد اللّه المتوفى سنة (247 هـ/861م) (1)، وكان من فضلاء أهل البيت وعلمائهم، وقد أورد الحافظ أبو عبد اللّه العلوي جزءاً من فقهه في (الجامع الكافي).
الإمام أحمد بن عيسى بن زيد المتوفى سنة (247 هـ/861م)(2)، وهو المعروف بفقيه آل محمد، له فقه كثير ورواية واسعة، تضمن كتاب (العلوم) الذي جمعه محمد بن منصور المرادي كثيراً من فقهه وروايته حتى غلب عليه اسم: (أمالي أحمد بن عيسى).
الإمام محمد بن منصور المرادي? أبو جعفر الحافظ، أحد الفقهاء المعمرين، قيل إنه تعمر مائة وخمسين سنة وتوفي بعد سنة مائتين وتسعين، جمع فقهه وما روي عن أئمة الزيدية قبله من فقه في قرابة ثلاثين كتاباً اختصرها الحافظ العلوي في كتابه الشهير المعروف بـ: (الجامع الكافي).
ومما تقدم نلاحظ أن حركة الفقه وأصوله عند الزيدية دخلت في القرن الثالث طوراً آخر وفترة جديدة، يمكن أن نعتبرها فترة تدوين الفقه وأصوله عند الزيدية.
وفي وأوائل القرن الرابع دخل الفقه الزيدي مرحلة أخرى حيث استقرت أوضاع الزيدية نسبياً بقيام دولة لهم في اليمن بقيادة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين المتوفى سنة (298هـ/910م)، وأخرى في الجيل والديلم بقيادة الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش المتوفى سنة (304 هـ/916م)، حيث جدد في (طبرستان) ما كان قد أسسه الإمام الحسن بن زيد المتوفى حوالي (270هـ/883م) وأخوه محمد بن زيد .
وكان التأليف في قواعد الأصول في القرن الرابع قد برزت ملامحه حيث ألف الإمام الهادي كتاب (السنة)، وكتاب (القياس)، وكتاباً آخر عن القرآن وآخر عن عصمة الأنبياء، وغير ذلك، إلى جانب كتبه الشهيرة في الفقه (الأحكام، والمنتخب، والفنون).
__________
(1) ?الفلك الدوار 27.
(2) الفلك الدوار 26، الأعلام 1/191.(1/14)


وكذلك ألف غيره كتباً كثيرة في مختلف الفنون، وكان لعلماء الزيدية عناية خاصة بأصول الفقه، حيث عمل علماء الزيدية على دراسة معظم القواعد الفقهية والاستدلال عليها، وتناولوها بشيء من الإسهاب والتفصيل، واستمرت حركة التجديد لقواعد الفقه عند الزيدية في كل عصر حتى صار المذهب الزيدي من أثرى المذاهب الإسلامية وأكثرها فقهاً.
فعند مراجعة تراث الزيدية في هذا المجال نجد أنهم قد خلفوا لنا سلسلة طويلة من الكتب التي تناولت مواضيع الفقه وأصوله بكيفيات مختلفة وأساليب شتى.
فبالإضافة إلى ما تقدمت الإشارة إليه من مشاركة أئمة الزيدية في أصول الفقه قام بعض علماء الزيدية بعد ذلك بإفراد كتب لأصول الفقه، ضمنوها الأصول الثابتة وغيرها، مع الإشارة إلى اجتهادات كل إمام مجدد ودليله، سواء كان من الزيدية أو غيرهم، وقد أحببت أن أذكر طرفاً من تلك الكتب التي ألفت إلى آخر القرن التاسع (عصر المؤلف)، لإطلاع القارئ على جانب من تراث الزيدية في هذا الفن ؛ لأن كثيراً من الباحثين يجهل أو يتجاهل ما للزيدية من مشاركة في هذا المجال.
ففي القرن الرابع
* علي بن موسى البناندشتي، من علماء الزيدية في الجيل والديلم، عاش في (القرن الرابع) وكان من أصحاب الإمام الناصر الأطروش، له الإبانة (في أصول الفقه).
وفي القرن الخامس
* الإمام أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني المتوفى سنة (424 هـ/1032م)، أحد مشاهير أئمة الزيدية، ألف كتاب (المجزي في أصول الفقه) وهو من أجل كتب أصول الفقه عند الزيدية.
* محمد بن يعقوب الهوسمي، أبو جعفر، من مشاهير علماء الزيدية في الجيل والديلم، من تلاميذ الإمام أبي طالب يحيى بن الحسين الهاروني، توفى بهوسم سنة (455هـ/1063م)، له (تعليق العمدة في أصول الفقه).
وفي القرن السادس
* القاضي جعفر بن أحمد بن عبد السلام، علامة أصولي مشهور، توفي سنة (567 هـ/1172م). ألف (التقريب) في أصول الفقه، و(البالغ) في أصول الفقه أيضاً.(1/15)

3 / 66
ع
En
A+
A-