وهي مجاز فيما عدا الأولين اتفاقاً، واختُلف فيهما. (فأئمتنا، والجمهور): حقيقة في الحظر. وقيل: في الكراهة. وقيل: مشتركة بينهما. وقيل: مُتواطئة فيهما، فهي للقدر المشترك بينهما، وهو طلب الكف استعلاءً، وقيل: بالوقف، بمعنى لا يُدْرى لأيّ معنىً وضعت(1). فالخلاف كما تقدم في الأمر، وإذا اقترن به وعيد فللحظر اتفاقاً، ويحمل إذا تجرد عن القرينة على حقيقته عند كلٍ(2).
(79) فصل وهو: مطلق، ومقيد، ويقتضيان القبح والفور اتفاقاً. فالمطلق لِدَوَام الإنتهاء لغة وشرعاً(3)، عند (أئمتنَا، وَالجُمهور) إلاَّ لقَرينَة(4)، ولِذَلك قيل: النفي المطلق يعم، بخلاف الوجود المُطلق. وقيل: للإنتهاء مرة لا للدوام إلا لقرينة. (السكاكي): إن كان لقَطع الوَاقِع فللمرة، كقولنا للمتحرك: لا تتحرك، وإن /64/ كان لاتصاله فللدوام، كقولنا للمتحرك: لا تسكن.
والمقيَّد بوصف، نحو: العالِم لا تهنه، أو شرط، نحو: إن كان فاسقاً فلاَ تكرمه؛ للدوام عند (أئمتنا، والجمهور) كالمطلق. (أبو عبدالله، والحاكم): للإنتهاء مرة إلاّ لقَرينة.
(80) فصل (أئمتنا، والجمهور): ويقتضي الحظر بعد الوجوب إلا لقَرينة(5). وقيل: بل الإباحة. وقيل: بل الكراهَة. وتوقف (الجُويني).
__________
(1) لأن النهي يدل على مرجوحية المنهي عنه وذلك لا يقتضي التحريم.
(2) أي أن كل أحد يحمله على الحقيقة عنده من حظر فقط أو كراهة فقط أو تواطئ أو اشتراك.
(3) أي لدلالة لا تفعل على دوام الترك بالوضع والشرع.
(4) نحو قول الطبيب للمريض: لا تأكل اللحم. أي مادمت مريضاً.
(5) وذلك نحو أن يقول: زوروا القبور. ثم يقول: لا تزوروها.(1/121)


(81) فصل والنهي عن الشيء المقتضِي للحظر: إما لعينه، وهو: ما نهي فيه عن الجنس كله؛ لأنه منشأ المفسدة كالظلم. أو لوصفه، وهو: ما نُهِيَ فيه عن بعض الجنس لوصفٍ يلازمه كالصلاة في المنْزل الغصب، وبيع الغرر، أو لغيرهما، وهو: ما نهي فيه لأمر خارج عنهما يقارن تارة ويفارق أخرى، كالبيع وقت نداء الجمعة.
ويدل النهي /65/ في الأوّل على القبح مؤكداً في العقليات، وعليه وعلى الفساد في الشرعيَّات(1). (الأشعرية): والخلاف فيه كالثاني(2).
(82) فصل ولا يدل في الثاني(3) على الفساد، لا لغة ولا شرعاً، لا في العبادَات ولا في غيرها، عند (أبي حنيفة، ومحمد(4)، والشيخَين، وأبي عبد الله، والكرخي، والقاضي، والحاكِم، والقَفَّال(5)، وبعض الأشعرية). وحيث يفسد المنهي عنه فَلِدليلٍ غيره(6).
__________
(1) قال في النظام: هذا وهم لأن الفساد عدم الأجزاء عن الأمر وما نهي عنه لعينه لا يكون مأموراً به البتة.
(2) لأنهم لا يعللون الحسن والقبح إلا بالشرع.
(3) أي المنهي عنه لوصف ملازم.
(4) سقط من (ب): ومحمد.
(5) القفال، هو: أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل القفال الشافعي، كان إماماً في الفقه وأصوله، وعنه انتشر فقه الشافعي فيما وراء النهر، توفي سنة ست وثلاثين وثلاثمائة. طبقات الفقهاء 1/120.
(6) يعني أن نحو فساد الصلاة في المنزل الغصب ليس للكون في المنزل، وإنما هو لدليل آخر، وكذلك نكاح المشركات.(1/122)


واختلفوا هل يدل على صحة المنهي عنه شرعاً قبل النهي أو لا(1)، فعن (أبي حنيفة، ومحمد): يدل عليها، وعند غيرهما لا يدل عليها، كما لا يدل على الفساد. (أبو طالب، والمنصور، وأكثر الفقهاء، وبَعض المتكلمين، والظاهريَّة): بَل يدل على الفَساد في العبادات وغيرها(2). ثم اختلفوا، فأقلهُم: شرعاً، وأكثرهم: لغة. وحيث لا يفسد المنهيّ عنه فَلدليل(3). (جمهُور أئمتنا، وبعض الفقهَاء، وأبُو الحسَين /66/، وابن الملاحمي، والرازي): يدل على الفساد في العبادات دون غيرها، إلا لدليلٍ فيهما(4).
ومعناه(5) في العبادات البطلان وفي غيرها من المعاملات والإيقاعات: البطلان أيضاً عند (الناصر، والشافعي)(6). و(عند جمهور أئمتنا، والفقهاء) أنه: خلل فيها يُوجب ـ في حالٍ ـ عدَم ترتب ثمرتها عليها المقصودة منها.
(83) فصل ولا يدل في الثالث(7) على الفساد، عند (أئمنا، والجمهور)، خلافاً (لبعض أئمتنا، ومالك، وأحمد في رواية عنه).
وحظ الأصولي(8): معرفة انحصار المناهي في الثلاثة، وتمييز كل منها عن الآخر جملة، فأمَّا النظر في آحاد الصور الجزئيّة من أيّ الأخيرين هي، والحكم عليها بأحد الأقوال المتقدمة، فموكول إلى نظر الفَقيه، ولذلك تختلف أنظار الفقهاء في كثير من صور الفروع /67/.
__________
(1) يبدو أن النزاع هنا في دلالة النهي على صحة المنهي عنه بعد النهي لا قبله لأنه لا نزاع في صحته قبل النهي.
(2) وذلك كنكاح المشركات.
(3) كطلاق البدعة فإن القياس أنه لايقع، لكنه وقع لدليل خارجي.
(4) يدل على عدم الفساد في العبادات وعلى الفساد في المعاملات.
(5) أي: الفساد.
(6) الإمام محمد بن إدريس الشافعي رأس الشافعية، جليل القدر عظيم المنزلة، توفي سنة أربع ومأتين.
(7) وهو المنهي عنه لأمر خارج عن ذات المنهي.
(8) أي: ما يتعلق بأصول الفقه من هذا البحث وينفع الأصولي.(1/123)


(84) فصل وأما نهي الكراهَة، فيدل على مرجوحيَّة المنهي عنه، لا علَى فساده، كالنهي عن الصلوات في الأماكن المكرُوهَة، ولذلك تقع عن الواجب مع النَهي عنها.
(85) فصل (أئمتنَا، والمعتزلة): وليس النَّهي عن الشَّيء هو عين الأمر بضدّه، ولا يتضمنه، أي: لا يدل علَيه بالمطابقة ولا التضمّن؛ إذ هما لفظان متغايران. (الباقلاّني): بل هو عين الأمر بضدِّه، ثم قال آخراً: يتضمنه. والمختار - على قياس ما تقدم(1) - أنه يستلزمه، وقَصَرَ بعضهم هذه القاعدة على الأمر دونه.
(86) فصل والنهي قد يكون عَنْ شَيْءٍ وَاحدٍ، وعن شيئين فصاعداً، إما: على الجمع، ويَحْسُن إن أمكن الخلوّ عنهما، نحو لا تقتل ولا تَزن. ويقبح إن لم يمكن، نحو: لا تتحرك وَلاَ تسكن. أَوْ(2) عَنِ الْجَمْعِ، ويحسُن إن أمكن، كالنهي عن الجَمع بين الأختين، ويقبح إن لم يمكن /68/ كالنهي عن الجمع بين القيام والقعود. وإما: على البَدَل، وَالخلاف في هذا القسم كما تقدم فيما أُمِر به على التخيير، نحو: لا تكلم زيداً أو عمراً أو بكراً. فله ترك كلامهم معاً، كما أنَّ له في الأمر المخير فعل الجميع، وله ترك كلام بعضهم دون بعض، كما أن له فيه فعل البعض وترك البعض، وليسَ له الجمع بين كلاَمهم كما أن لَيس له فيه ترك الجمع. أَوْ عَنِ الْبَدَلِ، إما بمعنى النهي عن فعل يُجْعل بدلاً عن غيره، نحو: لا تمسح بدلاً عن الغسل، ويرجع إلى النهي عن قصد البدلية، أو بمعنى النهي عن فعل أحدهما دُون الآخر، لكن يجمع بينها، ويَحْسُن إن أمكن، نحو: لا تفعل المسح دون الغسل، ويقبح إن لم يمكن، نحو: لا تفعل الحركة دون السكون.
[شروط الأمر والنهي]
(87) فصل وللأمر والنهي شروط.
__________
(1) تقدم الكلام عن هذا الموضوع في باب الأمر.
(2) عطف على: عن شيء واحد.(1/124)


منها ما يرجع إليهما، وهي: ألاَّ يكون الأمر والنهي في أنفُسهما مفسدة. وأن يَتَقدما بالقَدر /69/ الذي يُتَمَكن فيه من معرفة ما تناولاه، وهو أربعة أوقات: وقت سماعهما، ووقت النظر في حكمهما، ووقت حصول العلم أو الظن لحكمهما، ووقت الأخذ فيهما(1). ويجوز بأكثر وفاقاً (للبصرية)، وخلافاً (للبغدّادية)(2)، وأوجبت (الأشعرية، والنّجّارية) مقارنتهما، كالقدرة، وما تقدم فهو للإعلام عندهم. وأن يتمكن المخاطب من فهمهما، لا ورودهما بلسانِه(3) خلافاً (للحفيد) فيه.
ومنها ما يرجع إلى الآمر والنّاهي، وهو: أنْ يُعْلَم من حالهما ما ذُكِرَ، ومن حال المأمور والمأمور به والمنهي والمنهي عنه ما سيذكر، وأن يكون له فيهما مراد صحيح. وأن يثيب ممتثل أمره، ويعاقب مُخَالف نهيه، ولا يشترط إرادة إثابته حال الأمر، ولا عقابه حال النهي خلافاً (للأخشيديّة).
ومنها ما يرجع إلى المأمُور به والمنهي عنه، وهو: العلم بهما. وألاَّ يكونا مستحيلين في أنفسهما. وأن يكون المأمور به له صفة زائدة على حُسْنِه(4) /69/، والمنهي عنه مما يترجح تركه على فعله.
ومنها ما يرجع إلى المأمور والمنهي، وهو: تمكنهما من الفعل والترك(5). وتردد دواعيهما، ووجود آلة له في الفعل المحتاج إليها(6).
__________
(1) أي الشروع فيهما.
(2) حكي عن البغدادية أنهم قالوا: يتقدم بوقت فقط.
(3) أي يكفي أن يردا بخطاب يفهم ولو بغير لغة المخاطب.
(4) كأن يخرج من الإباحة إلى الندب فيكون الندب صفة زائدة على الإباحة التي هي من قسم الحسن.
(5) يعني بألاَّ يكونا ملجأين ومضطرين إلى الفعل أو الترك، بل يكون هناك وجه للترجيح، فلا يؤمر الساقط مثلاً بالسقوط ولا بعدمه.
(6) يعني فلا يأمره بالكتابة مثلاً مع عدم الأيدي أو العلم بها.(1/125)

25 / 66
ع
En
A+
A-