وبوقتٍ يزيد عليه هو الموسّع، كوقت اختيار(1) أداء الصَّلاة. واختلف فيه، فعند (جمهور أئمتنا، وَجُمهور المعتَزلة، والأشعريَّة، وبعض الفقهاء): أنه يتعلق الوجوب بجميعه على سواء، موسعاً في أوَّله مضيَّقاً في آخرِه. (المنصور، والملاحميّة): ومع التأخير لا يجب العزم على الفعل(2) بعينه في أوَّله، وإنما يجب العزم على الإتيان بكل واجبٍ جملةً. (أبو طالب، والجمهُور): يجب. ثم اختلفوا، فعند (أبي طالب، وأكثرهم): إنه بدل عنه(3)، وعند أقلهم: ليس ببدل.
(جمهور الشافعية): بل بأوّله(4). وخَرَّجه (أبو طالب للهادي). واختلفوا /57/ فيما فُعل في آخره، فقيل: قضاء. وقيل: أداء. وهو(5) وقتُ تأديةٍ لا وجوب.
(الحنفية، وروايةٌ عن القاسم): بل بآخره. ثم اختلفوا فيما فُعِل في أوّله. فقيل: نَفْلٌ يَسْقُط به الفرض. وقيل: واجبٌ مُعَجَّل. (الكرخي): موقوف على آخره، فإن بَلَغه المكلف ففرضٌ، وإن لم يبلغه أو سقط تكليفُه قبله فنفلٌ.
ومن مات في أثناء الموسّع بعد العزم على الفعل، لم يأثم بتأخيره، ويأثم في الأصح من أخّره لغير عذرٍ مع ظن الموت، فإن لم يمت ثم فعَله في وقتِه؛ فالمختار وفاقاً (للجُمهور): أنَّه أداءٌ خلافاً (للبَاقلاني).
(72) فصل (أئمتنَا، والجمهُور): والقضاء بأمرٍ جديد لا بأمر الأداء؛ لأنه لا يستلزمه، خلافاً (للقَاضي، ورازي الحنفيَّة، والحنَابلة، وغيرهم).
والأمر بالأمرِ بالشيء ليس أمراً به، وفاقاً (للجمهور)، وسواءٌ كان بلفظ: (مُر) أو بغيره /58/ من صيغ الأمر.
(73) فصل والمقيّد بالتأبيد يقتضي الدَّوام، وفي جواز نسخه خلافٌ سيأتي.
__________
(1) سقط من (أ): إختيار.
(2) في (أ): فعله، والمعنى أنه لا يجب العزم على أداء ذلك الواجب بعينه، بل إنما يجب العزم على أداء الواجبات عموماً.
(3) أي: بدل عن الفعل في ذلك الوقت، ولذا وجب العزم عندهم.
(4) أي: بل يتعلق الوجوب بأوله.
(5) أي: آخر الوقت.(1/116)
والمقيَّد بالعام يقتضي التكرار، نحو: اكرمه كلما قام، وبغيره من وصفٍ أو شرطٍ إن لم يمكن فيهما التكرار لم يقتضه، نحو: ادفع إلى قاتل عمروٍ درهماً، واكسه إن قتل زيداً(1). وإن أمكن(2)؛ فإن كانا(3) علةً في المعنى ـ نحو: ?الزّانِيَةُ والزّاني فاجْلِدوا?[النور: 2]، ? وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فاطَّهَّروا ?[المائدة: 6] (4) ـ وجب التكرار اتفاقاً؛ للأمر عند القائلين إن مُطلقه يقتضيه، وللعلة عند القَائلين إنه لا يقتضيه، وإن كانا(5) غير علّةٍ ـ نحو: إعطه درهماً حال قيامه، وإن دخلت السوق فاشتر لحماً ـ لم يقتض التكرار عند (أئمتنا، وجمهور القائلين إن مطلقه لا يقتضيه)، خلافاً لأقلِّهم وللقائلين /59/ إنَّ مطلقه يقتضيه (كالإسفراييني).
(74) فصل وإذا أُمِر بفعل مطلقٍ، نحو: بع. فالمطلوب كُلُّ فردٍ - على البدل - من الأفراد الجزئيّة المطابقة للماهيَّة، لإمكان وجودها في الأعيان(6)، إلا ما عُلِم خروجه عن القصد بقرينةٍ، كالبيع بالغبن الفاحش، لا نفس الماهيَّة الكليَّة المجردة؛ لاستحالة وجودها في الأعيَان(7). (بعض الشافعية): بل هي المطلوبة فالأمر متعلقٌ بها لا بالجزئيات المُطابقَة لها.
(75) فصل (أئمتنا والجمهُور): والإتيَان بالمأمور به يفيد الإجزاء، إذ هُو(8): وقوع الفعلِ على وجهٍ يُخْرِج عن عهدة الأمر. (أبو هاشم، والقاضي، والحاكم): لا يفيده، إذ هو وقوع الفعل على وجهٍ يُسقِط القضاء. (المنصور، والحفيد): بل هو مجمُوعُهما.
__________
(1) لأن قتل عمرو لا يتكرر.
(2) يعني التكرار.
(3) أي: الوصف والشرط.
(4) فإن الزنا علة الجلد، وهو مثال الصفة، والجنابة علة التطهر وهو مثال الشرط.
(5) أي: الشرط والصفة.
(6) أي: لإمكان وجودها في الوجود الحسي العيني فيصح طلبه لإمكان الامتثال.
(7) يعني لا أن المطلوب نفس الماهية الكلية التي يستحيل وجودها في الأعيان فلا تطلب، لأنها لو طلبت لامتنع الامتثال.
(8) أي: الإجزاء.(1/117)
والخلاف لفظيٌّ. وقيل: معنويٌّ. وتظهر فائدته فيمن صلّى /60/ يظن الطّهارة، ثم انكشف له الحدث(1).
وإنما يُوصف به(2) ما له وجهان(3) لا وجهٌ واحد، كمعرفة اللّه تعالى، وردّ الوديعة.
(76) فصل (أئمتنَا، والمعتزلة): وليس الآمر بالشيء هو عَين النَّهي عن ضدّه، ولا يَتَضَمنه، أي لا يدل عليه بالمطابقة وَلا التّضمن، إذ هما لفظان مُتَغَايران.
والمختار - وفاقاً (لبعض المعتزلة) - أنه يستلزمه، خلافاً (للإمام) وغيره. وعن (بعض المعتزلة): أن أمر الوجوب يستلزمه دون أمر النَّدب. واختلفت (الأشعرية)، فقال (الجويني، والغزالي، وابن الحاجب، وغيرهم): ليس عينه(4) ولا يتضمنه ولا يستلزمه. (الباقلاني): بل هو عين النهي عن ضدّه، ثم قال آخراً: يتضمنه. واختاره (الآمدي)، وقال (الرازي): يستلزمه. ولم يفرقوا بين أمر الوجوب والندب.
(أئمتنا، والمعتزلة): وكذلك ليس الأمر بالشيء ناهياً عن ضدِّه /61/ خلافاً (للباقلاني)، ودَعْوَاه للإتفاق في الفَاعل باطلة(5).
__________
(1) فإنه قد أتى بالمأمور به، وخرج بذلك عن العهدة لعدم توجه ذم عليه، مع أنه لم يسقط عنه القضاء، فيوصف فعله بالإجزاء على القول الأول لا على القول الثاني والثالث.
(2) أي: الإجزاء.
(3) أو وجوه يجزي باعتبار وقوعه على أحدهما، ولا يجزي بوقوعه على غيره، كالصلاة مثلاً، لا ما له وجه واحد كمعرفة الله، فليس لها إلا وجه، وهو ما إذا كانت صحيحة، وإلا فهي جهل وليست بمعرفة، وكذلك رد الوديعة ليس له وجه، وهو أن ترد فقط.
(4) أي: ليس عين النهي عن ضده.
(5) ذُكر عن الباقلاني أنه زعم أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، مستدلاً بأن فعل السكون - مثلاً - هو عين ترك الحركة، وادعى الإجماع على ذلك، وأن الخلاف إنما هو في الفعل لا في الفاعل.(1/118)
(77) فصل والأمران غير المتعاقبين اختلفا أو تماثلا غيران. والمتعاقبان المختلفان مع العطف وعدمه، وإمكان الجمع(1) واستحالته عقلاً(2) أو شرعاً(3) كذلك، لكنه يمتنع الأمر بالجمع في المستحيل(4)، إلا عند مجوِّز تكليف ما لا يطاق.
والمتعاقبان المتماثلان: إن كانا مع عدم العطف ولم يقبل الأول التكرار عقلاً(5) أو شرعاً(6) فالثاني تأكيدٌ، سواءً كانا عامَّين(7) أو خاصين(8)، أو الأول عاماً والثاني خاصاً(9) أو عكسه(10)، وإن قبل الأول التكرار(11) فالثاني تأسيسٌ عند (الموسوي، والإمام، والقاضيين(12)، والحاكم، والرازي)، إلا لمانعٍ من عادَةٍ(13) أو تعريفٍ(14). وتأكيدٌ عند (المنصور، والشيخ، وابن زيد)(15)
__________
(1) نحو: صم اليوم وصل، أو صم صل.
(2) نحو: قم اقعد.
(3) نحو: صم يوم الجمعة افطر يوم الجمعة.
(4) كصوم يوم وإفطاره.
(5) مثل: اقتل زيداً اقتل زيداً.
(6) مثل: حج حجة الإسلام حج حجة الإسلام.
(7) مثل: اقتل كل إنسان اقتل كل إنسان.
(8) مثل: اقتل زيداً اقتل زيداً.
(9) مثل: صم كل يوم صم يوم الجمعة.
(10) بأن كان الأول خاصاً والثاني عاماً، نحو: صم يوم الجمعة صم كل يوم.
(11) مثل: صل ركعتين صل ركعتين.
(12) المراد بهما: القاضي عبدالجبار بن أحمد، والقاضي جعفر بن أحمد بن عبدالسلام، وقد تقدمت ترجمتاهما.
(13) مثل: اسقني ماء اسقني ماء. فإن العادة قاضية بأنه إنما يريد أن يسقيه ما يزيل عطشه، وذلك يحصل بمرة، فكان ذلك مانعاً من تكرر السقي فحينئذ يتعين التأكيد.
(14) يجعل الثاني عبارة عن الأول وإشارة إليه، نحو: صل ركعتين صل الركعتين.
(15) ابن زيد، هو: العلامة الجليل عبدالله بن زيد بن أحمد بن أبي الخير العنسي، من كبار علماء الزيدية في القرن السابع الهجري، له مؤلفات شهيرة، في مختلف الفنون، قال ابن أبي الرجال: رأيت بخط بعض العلماء أن كتبه مائة كتاب وخمسة كتب ما بين صغير وكبير. توفي رحمه الله سنة سبع وستين وستمائة. مطلع البدور - خ -.(1/119)
. وتوقف (أبو الحسين، وابن الملاحمي) /62/.
وإن كانا مع العطف ولم يقبَل الأول التكرَارَ عقلاً(1) أو شرعاً(2). وهما عامَّان(3) أو خَاصَّان(4)، فالثاني تأكيدٌ. (ابن زيد، وغيره): وكذا إذا كان الأول عاماً والثاني خَاصاً(5) أو عكسه(6). (الإمام، والقاضِي، والشيخ): بل تأسيسٌ(7). وتوقف (أبو الحسين، والرازي). وإن قبل الأول التكرار(8) فالثاني تأسيسٌ، إلا لمانعٍ من عادةٍ أو تعريفٍ(9) خلافاً (للرازي) في التعريف، وتوقف فيه (أبو الحسين).
النهي
[2] باب النهي
(78) فصل هو قول إنشائي دَالٌّ على المنع من الفعل حَتماً على جهة الإستعلاء، وله حرف واحد، وهو: (لا) الجازمة، نحو: لا تفعل، بالتاء للمخاطب، والياء للغائب.
وتستعمل صيغته في معان، وهي: التحريم(10)، والكراهة(11)، والتهديد(12)، والتحقير(13)، وبيان العاقبة(14)، والدعاء(15)، واليأس(16) /63/، والإرشاد(17).
__________
(1) مثل: اقتل زيداً واقتل زيداً.
(2) مثل: حج هذه السنة وحج هذه السنة.
(3) مثل: اقتل المشركين واقتل المشركين.
(4) مثل: اقتل زيداً واقتل زيداً.
(5) مثل: اقتل كل أحد واقتل زيداً.
(6) مثل: اقتل زيداً واقتل كل أحد.
(7) لأن العطف يقتضي التغاير.
(8) مثل: صل ركعتين وصل ركعتين.
(9) تقدم المثال.
(10) التحريم، مثل: ?وَلاَتَقْتُلُوْا النَّفْسَ..?[الأنعام: 151].
(11) الكراهة، مثل: (لا تأكل بشمالك).
(12) التهديد، كقولك لمملوكك: لا تمتثل أمري.
(13) التحقير، مثل: ?لاَتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ?[الحجر: 88].
(14) بيان العاقبة، مثل: ?ولاَتَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً..?[إبراهيم: 42].
(15) الدعاء، مثل: ?رَبَّنَا لاَتُزِغْ قُلُوْبَنَا?[آل عمران: 8].
(16) اليأس، مثل: ?لاَتَعْتَذِرُوْا الْيَوْم? [التحريم: 7].
(17) الإرشاد، مثل: ?لاَتَسْأَلُوْا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ?[المائدة: 101].(1/120)