وهو مجاز فيما عدى الخمسة الأُوَل اتفاقاً. واختلف /50/ فيها، فعند (أئمتنا، والجُمهور): أنه حقيقة في الوجوب، مجاز في غيره. ثم اختلفُوا(1)، فقيل: عقلاً. (أبو طالب، والبلخي، وأبو عبدالله، والحاكم)(2): شرعاً فقط. (أكثر أئمتنا، والمعتزلة، والفقهَاء): لغةً وشرعاً. (أبو هاشم، والقاضي، وبعض الفقهاء، وأحد قولي الشافعي، وأبي حنيفة(3) وأبي علي): بل(4) حقيقةٌ في النَّدب. وعن (المنصور) روايتان. (الموسويُّ): مشتركٌ بينهما. (الماتِريدي)(5): متواطئٌ فيهما(6)، فهو للطَّلَب المُشتَرك بينهما، وهو ترجيح الفعل على الترك. وتوقَّف (الأشعريّ، والغزاليُّ، والبَاقِلاني، والآمديّ)، قيل: (7) في كونه للوجوب أو للنّدب، وقيل: في كونه مشتركاً أو متَواطئاً فيهما. وقيل: متواطئٌ فيهما(8) وفي الإباحة؛ للأذن المشترك بينها، وقيل: مشترك بينَ الثلاثة(9). (الإمامية): مشتركٌ بينها وبين التهديد. وقيل: مشتركٌ بين الخمسة.
وإذا اقترن به وعيد؛ فللوجُوب اتفاقاً.
__________
(1) اختلف القائلون بأنه حقيقة في الوجوب، هل وجب عقلاً أو شرعاً أو وضعاً أو باثنين منها.؟
(2) المراد بالحاكم هنا : الحاكم الجشمي، وهو: أبو سعيد المحسن بن محمد بن كرامة الحاكم الجشمي البيهقي، ولد في قرية جشم من ضواحي بيهق بخراسان، وهو علامة كبير من شيوخ الزمخشري، وفد إلى اليمن، واشتهر بصنعاء، وصار من الزيدية، توفي شهيداً مقتولاً بمكة في رجب سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
(3) سقط من (ب): أبو حنيفة.
(4) لفظ: افعل.
(5) الماتريدي، هو: محمد بن محمد بن محمود أبو منصور الماتريدي، من كبار علماء الحنفية، كان يقال له إمام الهدى إليه تنسب الماتريدية له كتب شتى، مات سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة. طبقات الحنفية 1/ 130.
(6) أي في الوجوب والندب.
(7) الخلاف في تعيين ما وقع فيه التوقف.
(8) في: في الوجوب والندب.
(9) الوجوب والندب والاباحة.(1/111)
ويحمل إذا تجرد عن القرينة على حقيقته عند كلٍ. والخلاف في البحث عن خلافها كالعام(1).
(66) فصل (أئمتنا، والجمهور): والكفار مكلفون(2) بفُروع الإيمان، فيشملهم عمومات الخطاب /51/، خلافاً (للحنفية، والإسفراييني) مطلقاً، ولقومٍ في غير المرتد، وقيل: مكلفُون بالنواهي دون الأوامر، لإمكان الترك حال الكفر دون الفعل، فلا يجامعه(3).
وثمرة الخلاف هل يعاقبون على ترك غير الإيمان، كما يُعَاقَبُونَ عَلى تركه أم لا؟
(67) فصل ويقتضي الأمر الوجوب بعد الحظر العقلي باتفاق(4)، واختلف فيه بعد الحظر الشرعي، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وبعض الأشعرية، والفقهاء): أنه للوجوب. (جمهور الفقهاء): بل للإباحة(5)وتوقف (الجويني). وقال (الغزالي): إن كان الحظر أصلياً فالأمر بعده للوجوب، وإن كان عارضاً فللإباحة(6)، وعليه يحمل إطلاق الأوّلِين.
(68) فصل والواجب به(7) إما: واحدٌ، أو أكثر؛ على الجَمْعِ من دون ترتيب(8)، أو معه(9)، أو على التخيير(10). /52/
__________
(1) أي كالخلاف في البحث عن المخصص للعام، وسيأتي.
(2) في (ب): مخاطبون.
(3) يعني فلا يمكن إمتثال وكفر؛ لأن النية بالامتثال لا بدَّ منها، ونية الكافر غير معتبرة.
(4) وذلك كقوله تعالى: ?اقتلوا المشركين? [التوبة: 5]، فإن القتل محظور عقلاً، وقوله تعالى: ?اقتلوا? أمر بعده.
(5) نحو: ?فإذا قضيت الصلاة فانتشروا? [الجمعة: 10].
(6) الحظر الأصلي مالم يتقدم قبله إباحة، نحو: إذا انقضى حيضك فصلي. فحظر الصلاة أثناء الحيض أصلي إذ لم تتقدمه إباحة، والحظر العارض ما تقدم قبله إباحة، نحو: ?فإذا حللتم فاصطادوا?[المائدة: 2]، فإن الاصطياد كان مباحاً قبل ورود الآية.
(7) أي: بالأمر.
(8) نحو: ?فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله?[النساء: 92].
(9) نحو قوله: ?فاغسلوا وجوهكم وأيديكم? الآية.
(10) نحو: ?قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا?.(1/112)
واختلف في الواجب المخَيّر كالكفارات، فعند (أئمتنا، والمعتزلة، وأقل الفقهاء): أنها واجبةٌ معاً على التخيير. (الأشعرية، وأكثر الفقهاء): بل الواجب منها واحدٌ لا بعينه. وقيل: واحد معينٌ عند اللّه تعالى ومجهول عند المكلّف، فإن فَعَلَه سقط الوجُوب به، وإن فعل غيره، فنفل يسقط به الفرض. وقيل: الواجب ما يُفعل منها. وكل من الطائفتين ينسب المذهبين الأخيرين(1) إلى مخالفه، فإذاً لا خلاف في بطلانهما.
الأقلون: والخلاف لفظيٌ. الجمهور: بل معنوي.
وتظهر فائدته فيمن حلف بعد حنثه وقبل تكفيره بالطلاق ما عليه عتق، فيقع على الأول(2)، ولا يقع على الثاني والثالث(3) إذ الأصل براءة الذمة، ويقع على الرابع بالعتق(4)، وقيل: لا. إذ لا يتعين الوجوب فيه(5) إلا بفعله. /53/
وقد يكون الجمع بين المخير فيها(6) مندوباً كالكفارات، ومحظوراً كتزويج الكفؤين.
وإذا فُعلت معاً؛ فإن كانت مترتبةً فالواجب أولها، ويستحق عليه ثواب واجب مخيّر، والأخيران ندبٌ، ويستحق عليهما ثواب الندب، وقيل: ثواب واجبين لا ذم على تاركهما(7). (أبو الحسين): يستحق على جميعها ثواب واجب مخير.
__________
(1) يعني أن المعتزلة تنسبهما إلى الأشعرية، والأشعرية تنسبهما إلى المعتزلة. قال في الدراري: وأنت تعرف أن المذهبين الأخيرين - في التحقيق - مذهب واحد.
(2) لأن الأول ينص على أن الواجب المخير واجب معاً.
(3) لأن الثاني ينص على: أن الواجب واحد لا بعينه. وينص الثالث على: أن الواجب معين عند الله، ونحن لا نعلمه.
(4) أي: وعلى القول الرابع يقع الطلاق بالعتق، لأن الوجوب يتعلق بالفعل على مقتضى ذلك القول.
(5) سقط من (ب): فيه، والمعنى: في ذلك الفعل بعينه إلا بفعله.
(6) يعني بين الأمور المخير فيها.
(7) بناء على أنهما صارا بعد فعل الأول واجبين مرخص فيهما.(1/113)
وإن كانت دُفعة(1) استحَقَّ الثوابَ على أشقها، وفاقاً (لجمهور المعتزلة). والخلاف فيها كذلك.
وإذا تركت معاً، استحق العقاب على ترك أخفها، وفاقاً (لجمهور المعتزلة). وعِقَابَ تركِ واجبٍ مخير عند (أبي الحسين).
وإنما يخير بين متفقي الحكم كواجبين، أو مندوبين فصاعداً، لا ما اختلف حكمهما كواجبٍ ومندوب.
(69) فصل والأمر: مُطلق، ومقيَّد.
فالمطلق /54/ عند (جُمهور أئمتنَا، والأصُوليين): للمرَّة بوضعه، لا للتِّكرار، إلا لقرينة. (الإسفراييني): للتكرار - مُدة العُمر مع الإمكان - بوضعه، لا للمرَّة إلا لقرينة. (متأخرُو أئمتنا، والكرخي، والحاكم، والجويني، وغيرهم): لمجرد طلب الفعل، ولا يدل عليهما(2) بوضعه. وقيل: مشترك بينهما(3). (السكاكي): إن كان لقطع الواقع فللمرَّة، كقَولنا للساكن: تحرك. وإن كان لاتصاله فللإستمرار، كقَولنَا للمُتحرك: تحرك. وقيل: بالوقف، إما بمعنى: لا يُدرى هل هو حقيقة في المرَّة، أو في التكرار، أو للمُطلق من دون دلالة عليهما؟ أو بمعنى أنه مشتركٌ مُجرَّدٌ عن القرينة.
(70) فصل والقائلون بأنه للتكرار قائلون بأنه للفور، فيَعْصِي من أخّر.
__________
(1) أي إذا فعلت الواجبات المخيرة دفعة.
(2) أي على المرَّة والتكرار.
(3) أي بين المرة والتكرار.(1/114)
واختلف القائلون بأنه للمرَّة، فعند (الهادي /55/، والنَّاصر، والمؤيد، والقاضي جَعفر(1)، وأبي حنيفة، ومَالك، وبعض أصحابهما): أنه للفَور فيعصي من أخّر عن الوقت الأول إلى الثاني، والوجوب فيه(2) بذلك الأمر. (الكرخي، وأبو عبدالله): بل بدليلٍ غيره. (القاسم، وأبو طالب، والمنصور، والشيخ، والملاحميّة(3)، والشيخان، وبعض الأشعرية): للتّراخي، ويمتثل من بادر. (الشافعي، والمتأخّرون): لمجرد طلب الفعل، ولا يدل عليهما إلا لقَرينة(4). (الجُويني): للفَور شرعاً؛ لأنه أحوط، وتوقَّف لُغَةً. الباقِلاني: يجب الفور أو العزم. وقيل: بالوقف إما بمعنى لا يُدرى هل وضعه للفور أو للتراخي؟ أو بمعنَى أنه مشتركٌ بينهما.
والْمُبَادر مُمتثلٌ عند أكثر المتوقفين، وتوقّف بعض غلاتهم فيه وفي المؤخّر، لاحتمال إرادة الشارع للتأخير أو التقديم /56/، ويأثم من أخّره مع ظن الموت اتفاقاً.
(71) فصل والمقيد بوقتٍ يَنْقُصُ عن الفعل(5)، يمتنع الأمر به، إلا عند مجوِّز تكليف ما لا يطاق. وبوقتٍ يساويه(6) كاليَوم للصوم، يتعلق الوجوب بجميعه على سواء.
__________
(1) القاضي جعفر، هو: جعفر بن أحمد بن عبد السلام البهلولي، من كبار علماء الزيدية في اليمن، له مشاركة في مختلف العلوم، وتوفي بسناع حدة جنوبي صنعاء، سنة ست وسبعين وخمسمائة.
(2) أي وجوب فعله في الوقت الثاني.
(3) جماعة من المعتزلة تنسب إلى محمود بن الملاحمي، العلامة الأصولي الكبير من كبار أصحاب أبي الحسين البصري، تأتي ترجمته.
(4) يعني لايدل على الفور والتراخي إلا لقرينة، وفي (ش): إلا القرينة.
(5) أي لا يتسع للفعل.
(6) أي: ينتهي الوقت بالفراغ من الفعل.(1/115)