والعزيمة: ما ألزَمَ من الأحكام فعلاً أو تركاً لا لِعُذر. ولا ينحصر الحكم في العزيمة والرخصة؛ إذ لا يدخل المندوب والمباح والمكروه في العزيمة، خلافاً (للقرشي)(1) وبعض (الأشعرية).
[المحكوم فيه ومتعلقاته]
(45) فصل والمحكوم فيه: الأفعال، ويشترط في التكليف بها - عند (أئمتنا، والمعتزلة، وجمهور الأشعرية) -: تعريفُهَا(2)، ومن ثم امتنع التكليف بما لا يُعلم خلافاً (للرازي). وإمكانُها، ومِنْ ثَمَّ صح التكليف بالممكن لذاته ولغيره(3) عقلاً وشرعاً إجماعاً، وكذا الممكن لذَاتِه الممتنع /36/ باختيار الْمُكلف، كالإيمان من الكافر. وفي الممتنع بإخباره تعالى خلاف يأتي(4).
واختلف في الممتنع لذاتِه، وهو ما يمتنع تصوره، كالجمع بين الضدّين. وفيما لا يدخل تحت القدرة وإن أمكن تصوره كالطيران، فَمَنَعَهُ (أئمتنا، والمعتزلة، والْنَّجَّارِيِّة)(5) عقلاً وسمعاً، وهو أحد قولي (الأشعري) وثانيهما(6)، واختار (جمهور أصحابه) جوازه عقلاً، ووقوعه عند أكثرهم شرعاً. وقُبْح ذلك معلوم ضرورة شاهداً وغائباً. (البصرية): بل بالإستدلال في الغائب.
__________
(1) القرشي، هو: العلامة الكبير يحيى بن الحسن بن موسى القرشي الصعدي. من كبار علماء الزيدية في عصره باليمن، له مصنفات شهيرة، ضايقه بعض المتعصبين فذهب إلى العراق، ومات غريباً فيها سنة ثمانين وسبعمائة.
(2) للمكلف بها، أي أن تكون الأفعال معروفة له؛ لأن الحكم لا يصح إلا على معروف متصور.
(3) كالإيمان من الموقن فهو ممكن لذاته وممكن من جهة المكلف.
(4) عند ذكر الخلاف في جواز التكليف بالأمر بانتفاء شرط وقوعه، وسيأتي قريباً.
(5) النجارية: فرقة، تنسب إلى الحسين بن محمد النجار، وافقوا المجبرة في خلق الأفعال، ووافقوا المعتزلة في الصفات ونفي الرؤية. أنظر التعريفات للجرجاني.
(6) أي ثاني قولي الأشعري.(1/96)


(46) فصل (أبو علي، والأخشيدِيَّة(1)، والبلخي، والمطرفيَّة(2)، والأشعرية، وروي عن القاسم والمرتضى): والمكلف به في النهى فعل ، وهو كف النفس، أي الإنتهاء إذ لا تكليف إلا بفعلٍ. (أبو هاشم، والجمهور): بل هو ألاَّ تفعل. أي نفي الفعل، وهو جهَة كافية في استحقاق المدح والثواب والذم والعقاب.
(47) فصل (أئمتنا، والمعتزلة، والجويني، والغزالي، وابن الحاجب): وإنَّما يُكَلَّف بالفعلِ قبل حدوثه، فيتعلق الأمر به قبل المباشرة إعلاماً وإلزاماً /37/، لا حال حدوثه؛ إذ هو تكليف بإيجاد الموجود، وهو محال. (الأشعري، وجمهور أصحابه): بل التكليف به حال حُدُوثه فقط، والأمر قبله إعلامٌ بأن المكلَّف يصير في الزمن الثاني مأموراً بالمباشرة. ويلزمهم أَن ما عصَى مكلف ولا استحق ذماً(3)؟ ويمتنع التكليف به بعد حدوثه، إلا عند مُجَوِّز التكليف بالمحال.
[المحكوم عليه ومتعلقاته]
__________
(1) الاخشيدية، ذكر في الشرح أنهم من أصحاب أبى علي المعتزلي، وذكر غيره أنهم أصحاب ابن الإخشيذ، واسمه: أحمد بن علي بن بيغجور أبو بكر بن الأخشيذ من رؤساء المعتزلة وزهادهم، توفي ست وعشرين وثلاثمائة.
(2) المطرفية: جماعة من الزيدية، اشتهروا بنسبتهم إلى مطرف بن شهاب، باعتباره مجددا في فكرهم الذي أثارت الجدلاً يومها، وقد أدى ذلك إلى نزاع بينهم وبين كل من الأئمة: أحمد بن سيلمان، وعبد الله بن حمزة، وأبي الفتح الديلمي، وانتهى ذلك إلى حروب وخلاف سياسي، أخذ مع الزمن طابعاً دينياً حاداً، وانتصر فيه أخيراً الإمام عبد الله فأبادهم، وانقرضت الفرقة بفكرها ورجالها، ولم يحفظ لنا التاريخ من تراثهم الفكري إلا النزر اليسير.
(3) ذلك لأنه لم يكلف عندهم إلا عند وجود الفعل، وما دام لم يفعل فلا تكليف.(1/97)


(48) فصل والمحكوم عليه، المكلف، وشرط تكليفه - عند (أئمتنا، والمعتزلة) -: العقل، والمصلحة، والعلم بإيصال الثواب والعقاب، والقدرة، وعدم الإلجاء، والفهم. وَمِنْ ثَمَّ امتنع تكليف من لا يَعلم كالسَّاهي، والنَائم، إلا عند (بعضِ الأشعرية).. واعتبار طلاق السكران وقتله وإتلافه ليس بتكليف، بل من قبيل الأسبَاب كقتل الصبي وإتلافه(1).
(49) فصل ويستحيل تكليف المعدوم وإرادة الفعل منه في حال عدمه اتفَاقاً، وكذا عند (أئمتنا والمعتزلة) تَعَلُّق الخطاب به، خلافاً (للأشعرية) بناءً على أصلهم في قِدَمِه. واختَلَفُوا في وصفه بكونه أمراً ونهياً/38/ وخَبراً في الأزل، فمنعه (الكلابية (وأثبته غيرهم.
واختلف العلماء في كيفيّة دخوله في خطاب الموجود الحادث(2)، فقيل: يعمهم حقيقة. (بعض أئمتنا): وهي الحقيقة العُرفيَّة كالوصية للأولاد. وقيل: مجاز. وقيل: بالقياس.
__________
(1) ذلك لأنهم احتجوا على وقوع التكليف لمن لا يعلم بوقوع طلاق السكران وإتلافه، فأجيب عليهم بهذا الجواب.
(2) أي دخول المكلف الذي لم يوجد بعده، في خطاب المكلف الموجود هل يدخل فيه حقيقة أم مجازاً أم قياساًً.؟(1/98)


(50) فصل ويصح التكليف بالشيء مع جهل الآمر والمأمور بانتفاء شرط وقوعه(1) عند وقته اتفاقاً. وكذا مع جهل الآمر وعلم المأمور، وإنما يكونان في الشاهد. وأما مع علم الآمر وجهل المأمور فإن كان خاصّاً(2) (فأئمتنا، والمعتزلة، والجويني): على امتناعه، و(جمهور الأشعرية) على جَوازِه، وروي عن (المنصور)، كأمره مكلفاً بصوم يوم قد علم موته قبله. وإن كان عاماً(3) امتنع عند (البصرية)، خلافاً (للبغداديَّة، والأشعرية) كصوموا غداً مع علمه بموتِ بعضٍ. ومع علمهما(4) يمتنع اتفاقاً أيضاً.
[الكلام في الأدلة]
(51) فصل والدليل لغة: المرشد، وهو: العلامة الهَادية، وناصبُها، وذَاكرُها. واصطلاحاً عند الأصوليين والفقهاء: ما يمكن التوصل بصحيح النَّظر فيه إلى مطلوب خبري(5). فيشمل القطعي /39/ والظني. وعند المتكلمين: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خَبري. فيخرج الظني، وهو: ما استند إلى الأمارة، وليس الظن بلازمٍ عن النظر فيها(6)، وفاقاً (للبهاشمة)، وخلافاً (للملاحميَّة).
والنظر: الفكر المطلوبُ به علمٌ أو ظن.
والإدراك بلا حكمٍ: تصورٌ، وبحكم: تصديق. وهو(7): جازم، وغير جازم. فالجازم مع المطابقة وسكون النفس: علم. والجازم مع المطابقة دون سكُونها: اعتقاد صحيح. والجازم مع عدمِهما: فاسد. وغير الجازم: ظن، ووهم، وَشكٌ. فالأوَّل الراجح. والثاني: المرجُوح، والثالث: المستَوي.
__________
(1) كأن يأمر السيد غلامه بصيام غد مع فرض أن الغلام سيموت قبل بلوغه.
(2) بذلك الشخص الذي عُلِم بانتفاء شرط وقوعه عنه.
(3) لا يختص بذلك المكلف الذي علم موته قبل الوقت.
(4) يعني علم الآمر والمأمور بأنه سيموت غداً.
(5) المطلوب الخبري: ما يخبره به عن شيء ينتقل إليه الذهن.
(6) في الأمارة.
(7) أي الصديق.(1/99)


(52) فصل والعلم، قيل: لا يُحَد. ثم اختلفوا، فقال (الجويني، والغزَّالي): لِعِسَرِه لخفاء جنسِه وفصله. (بعض الأوائل، والرازي): بل لجلائه؛ لأنه ضروري. قيل: وهو ينبني على أن العلم بالعلم ضروري، كما هو رأي (البغدادية).
وقال (أئمتنا، والجمهور): يُحَد. قيل: وهو ينبنى على أن العلم بالعلم مكتسبٌ، كما هُو رأي (البصرية).
والجهل: مفردٌ ومركبٌ. فالمفرد: انتفاء العلم بالمقصود. والمركب: تصور المعلوم /40/ على خلاف ما هو عليه.
والسهو: الذهول عن المعلوم.
(53) فصل والحدّ - ويرادفه الحقيقة -: ذاتيٌ، وهو: ما أنبأ عن ذاتيات المحدُود الكليّة المركبة المرتبة(1). ورسميٌ، ويرادفه العرضيّ، وهو: ما أنبأ عن الشيء بلازم له يخصّه(2). ولفظي: وهو ما أنبأ عن الشيء بلفظٍ أَظْهَرَ مرادفٍ له(3).
وشرط هذه الثلاثة أن تكون مطّردةً(4) ومنعكسةً(5). ويُسمّى(6): القول الشارح. والحقيقيُّ أوّلُها.
(54) فصل والأدلة الشرعيَّة: الكتاب، والسُنَّة، والإجماع، والقياس، والإجتهاد، ونحوه(7)؛ لأنّ الدليلَ إما أن يكون وحياً أَولا. والأول إن كان متلوّاً؛ فهو الكتاب، وإلا فهو السُّنَّة. والثاني إن كان قول كل الأمةِ أو العِترة؛ فالإجماع، وإن كان إلحاق فرعٍ بأصلٍ لمشاركته له في علةِ حكمِه؛ فالقيَاس، وإلا فالإجتهاد ونحوه.
__________
(1) احترز بالكلية عن العوارض الشخصية التي هي ذاتيات الماهية كحيوانية زيد. واحترز بالمركبة عن تعقل الذاتيات واحداً فواحداً، ويعني بالمرتبة التي قدم فيها الجنس على الفصل، واحترز به عما قدم فيه الفصل على الجنس نحو الإنسان ناطق حيوان.
(2) كالضحك بالنسبة للإنسان.
(3) وذلك مثل: العقار: الخمر، فقد أنبأ عن العقار بلفظ أظهر منه.
(4) أي مانعة.
(5) أي جامعة.
(6) يعني: الحد.
(7) الإستصحاب والبراءة الأصلية.(1/100)

20 / 66
ع
En
A+
A-