النوع الأول: ثوابت عقلية ولغوية وشرعية يتحتم على فقهاء المسلمين ـ على اختلاف عصورهم ومذاهبهم ونزعاتهم ـ مراعاتها وذلك هو القدر المشترك الذي يمكن أن يطلق عليه: (أصول الفقه الإسلامي) مطلقاً غير مقيد بمذهب معين. ويتم تقديم هذا الجانب بذكر تلك الثوابت، ودراستها، والاستدلال عليها، وتطبيقها، وتقييمها? والتفريع عليها، وتمييز ما اتفق عليه منها، ومعرفة أسباب الخلاف فيما اختلف فيه منها، ونحو ذلك مما لا يخرج إلى الخصوصيات.
ويعتبر المجتهد على ضوء هذا النوع من الأصول مجتهداً مطلقاً غير مقيد بمذهب؛ لأنه يتحرك في اجتهاداته وفق الأصول العامة، ويحتاج بجانب ذلك إلى استنباط قواعد فرعية تساعده على التوصل إلى تكوين رؤية متكاملة، تتناول تفاصيل المسائل ودقائقها.
النوع الثاني: قواعد فرعية تَوَصَّل إليها المجتهدون، أو استخرجها أتباعهم من فقههم، وغالباً ما تكون جزئيات لا يؤدي الاختلاف فيها إلى تباين خطير في أحكام الشريعة.
ويعتبر المجتهد على ضوئها مجتهداً في المذهب لا مجتهداً مطلقاً، كما هو شأن كثير من المجتهدين في إطار المذهب الواحد.
الفقه الزيدي وأصوله ملامح وتطورات
لعل الفرصة مواتية هنا لعرض ملامح الفقه الزيدي وأصوله، وإطلاع الباحثين والقراء على جانب من نشاط الزيدية وإسهاماتهم في هذا المجال، ليمكن من خلال ذلك معرفة موقع المذهب الزيدي في قائمة المهتمين بهذا الشأن، وذلك ما سنلمح إليه في النقاط التالية:
أولاً: الإمام زيد بن علي الفقيه الفارس(1/6)
الزيدية معروفون بنسبتهم إلى الإمام الأعظم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب? أحد رموز العترة وعظماء المسلمين، وقد ولد الإمام زيد عام خمسة وسبعين للهجرة على أصح الروايات، ونشأ في أحضان العلم والمعارف، فأخذ عن كبار أهل بيته، كما أخذ عن بعض الصحابة، وبذلك يعد من جيل التابعين، قال الحافظ أبو عبد الله العلوي (1): كان زيد بن علي بن الحسين تابعياً سمع أبا الطفيل عامر بن واثلة (2). وقال ابن حبان(3) : رأى جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذكره ابن سعد(4) في الطبقة الثالثة من أهل المدينة من التابعين.
__________
(1) تسمية من روى عن الإمام زيد من التابعين، تحت الطبع بتحقيق الأستاذ صالح عبد الله قربان.
(2) أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني، توفي سنة (100 هـ، وقيل: 107 هـ، وقيل: 110 هـ). قال المزي: روى عن النبي (ص). وقال ابن حبان: هو آخر من مات من أصحاب رسول الله (ص) بمكة. وقال ابن حجر: رأى النبي (ص) وهو شاب وحفظ عنه أحاديث. وقال ابن عدي: له صحبة. وقال مسلم: مات سنة (100 هـ) وهو آخر من مات من الصحابة. ورواياته عن النبي (ص) ثابتة في كتب الحديث، فقد روى أبو داود في السنن رقم (5144) بإسناده إلى عمارة بن ثوبان، أن أبا الطفيل أخبره ، قال: "رأيت النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم يَقْسِمُ لحماً بالجِعِرَّانة. ومن طريقه رواه السيد الإمام أبو طالب في الأمالي ـ الباب الثاني (فضائل النبي صلى الله عليه وآله وسلم). انظر: تهذيب الكمال 14/79، طبقات ابن سعد 5/457، و6/64، ثقات ابن حبان 3/291، الكامل لابن عدي 5/1741، رجال صحيح مسلم 2/87، الإصابة 4/113، أسد الغابة 3/96.
(3) ترجمة الإمام زيد في كتاب الثقات 4/249.
(4) الطبقات الكبرى: 5/325.(1/7)
وتميز الإمام زيد بصفات كريمة كالشجاعة، والورع، وحسن العبادة، وسعة الأفق، والتسامح، وحب الخير للأمة، كما تميز بأفكار نافعة ومعارف واسعة في مختلف أبواب المعرفة .. والكلام في سيرته يطول ويطول، غير أن ما يعنينا هنا هو "الإمام زيد الفقيه".
ولعله يمكننا إبراز ذلك من خلال جملة من الملامح والآثار، كشهادة معاصريه له بأنه فقيه الفقهاء وإمام أهل الاجتهاد:
* فقد قال عنه أخوه الأكبر ومعلمه الفَذُّ الإمام محمد الباقر: (( لقد أوتي زيدٌ علماً لَدُنِيّاً فاسألوه فإنه يعلم ما لا نعلم )) (1).
* وقال ابن أخيه ورفيق نشأته الإمام جعفر الصادق: (( كان والله أقرأنا لكتاب اللّه وأفقهنا لدين اللّه )) (2).
* وقال الإمام أبو حنيفة النعمان كبير أئمة المذاهب السُّنِّيَّة: (( ما رأيت في زمنه أفقه منه ولا أعلم ولا أسرع جواباً ولا أبين قولاً، لقد كان منقطع القرين )) (3).
* وقال المحدث الكبير عامر الشعبي: (( ما ولدت النساء أفضل من زيد بن علي ولا أفقه منه، ولا أشجع، ولا أزهد ))(4).
* وقال التابعي الشهير أبو إسحاق السبيعي: (( رأيت زيد بن علي فلم أر في أهله مثله، ولا أعلم ولا أفضل، وكان أفصحهم لساناً وأكثرهم زهداً وبياناً ))(5).
* وقال السيد الجليل عبد الله بن الحسن بن الحسن: (( لم أر فينا ولا في غيرنا مثله )) (6).
__________
(1) الروض النضير 1/112.
(2) تاريخ ابن عساكر 19/458، المحيط بالإمامة ـ خ ـ.
(3) نور الأبصار للشبلنجي 215، الخطط للمقريزي 2: 436.
(4) الروض النضير 1/ 98، نور الأبصار 215، خطط المقريزي 2/436.
(5) خطط المقريزي 2/436، نور الأبصار 215، الروض النضير 1/89، أعيان الشيعة 7/ 108.
(6) مقاتل الطالبيين 389.(1/8)
* وقال تلميذه المحدث الثقة أبو خالد الواسطي: (( ما رأيت هاشمياً قط مثل الإمام أبي الحسين زيد بن علي عليهما السلام، ولا أفصح، ولا أزهد، ولا أعلم، ولا أورع، ولا أبلغ في قول، ولا أعلم باختلاف الناس، ولا أشد جدلاً ولا أقوم حجة ))(1).
* وقال العلامة الفقيه حماد بن النظر: (( كان الإمام الشهيد أبو الحسين زيد بن علي متكلماً جدلاً عالماً، فقيهاً، عابداً ناسكاً، قارئا للقرآن زاهداً في الدنياً، راغبا في الآخرة، لا تأخذه في الله لومة لائم ))(2).
ويعتبر الإمام زيد صاحب مدرسة فقهية مميزة، فقد أُثر عنه فقه كثير تميز بالواقعية وسعة الأفق، وخصوبة الأفكار، استمد أصوله وفي الدرجة الأولى من منابع التشريع الإسلامي حيث اعتمد في فقهه على نصوص القرآن الحكيم، وما استخلصه من روايات عن النبي الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، وما يلحق بذلك مما ثبت عن الإمام علي عليه السلام خصوصاً ما ليس للاجتهاد فيه مجال.
وقد روي عنه أنه قال لسائل سأله: (( من جاءك عني بأمر أنكره قَلَبُك، وكان مبايناً لما عهدته مِنِّي، ولم تفقهه عَنِّي، ولم تره في كتاب اللّه عز وجل جائزاً، فأنا منه برئ )) (3).
ولم يهمل الإمام زيد الاستفادة من الروايات عن الصحابة أو التابعين، واستشهد بالحجج العقلية ونحو ذلك مما من شأنه أن يساعد على معرفة الحقيقة ويرجح مسألة على أخرى.
__________
(1) المنهاج الجلي مخطوط.
(2) المنهاج الجلي، المحيط بالإمامة، مخطوطان.
(3) مجموع رسائل الإمام زيد بن علي (قسم جوابات وفتاوى الإمام زيد).ت حت الطبع.(1/9)
ومن أشهر مراجع فقه الإمام زيد كتاب (المجموع) الذي يعد من أقدم ما دُوِّن في كتب الفقه الإسلامي، وقد طبع باسم (مسند الإمام زيد بن علي)، وجملته متلقى بالقبول عند الزيدية، فهم بين شارح له ومقتبس منه ومحتج بما فيه(1).
ومنها: (كتاب مناسك الحج والعمرة)، وقد طبع مرة في بغداد. وينسبه بعض الإمامية إلى والده الإمام زين العابدين.
ومنها: ما رواه عنه سائر تلاميذه، وقد ضمَّن طرفاً من ذلك الإمام محمد بن منصور المرادي كُتُبَه، لاسيما الأمالي المعروف بـ(أمالي أحمد بن عيسى)، وكذلك الإمام الحافظ أبو عبد اللّه العلوي في كتابه الشهير (الجامع الكافي).
ويوجد جملة من الفتاوى التي أجاب بها بعض أصحابه، حققتها ضمن: (مجموع رسائل وكتب الإمام زيد)، وهي تحت الطبع.
ووجدت مخطوطة صغيرة منسوبة إلى الشهيد حميد المحلى - من علماء القرن السادس في اليمن - بعنوان: (فقه الإمام زيد وأصحابه) ضمنها روايات نادرة عن الإمام زيد.
وكان الإمام زيد بن علي - رضي الله عنه - يعتمد فيما يستنتجه من فقه على ضوابط أصولية لم يبينها لنا أو يمليها على أحد من تلامذته، شأنه شأن معاصريه من الفقهاء، وإنما يمكن استيحاء بعضها واستنتاجه من خلال الدراسة العميقة لفقهه، والتأمل الجيد في اجتهاداته.
ثانياً: الفقه الزيدي وأصوله عبر القرون
بعد عصر الإمام زيد رضي الله عنه عمل بعض علماء الزيدية على جمع فقه الإمام زيد واستنباط ما أمكن استنباطه من قواعده الأصولية، واستدلوا عليها، كما فعل أتباع المذاهب الأخرى، غير أن تلك الحركة كانت محدودة، لأسباب عدة، منها:
__________
(1) الكلام عن مجموع الإمام زيد كثير ليس هذا موضع الإسهاب فيه، وللتوسع راجع: مقدمة الروض النظير، وكتاب الإمام زيد لأبي زهرة.(1/10)