ولاَ يأثم معتَاد تركها(1) لغير استهانة، خلافاً (للمؤيد بالله، والإمام، والقاضي)(2) وغيرهم، ولا يفسق، خلافاً (للناصر(3)، وجمهور المعتزلة)، وقد تطلق السنَّة على الواجب نحو: (( عشر من سُنن المُرسَلينَ ))(4).
والمندوب مأمورٌ به، خلافاً (للكرخي، ورازي الحنفيَّة). وليس بتكليف(5) خلافاً (للأسفرائيني)، وهو لفظي(6) . والأمر به مندوب لا واجب، خلافاً (لأبي القاسم)(7).
(38) فصل /32/ والمباح: ما لا يُسْتَحق عليه مدح ولاَ ذم، ويرادفه الحلال والطِّلْق، وكذا الجائز، وقد يطلق(8) على غيره.
__________
(1) أي المندوبات.
(2) القاضي عبد الجبار ابن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل أبو الحسن الهمذاني، المشهور بقاضي القضاة، أينما أطلق (القاضي) في هذا الكتاب فهو المراد، وهو علامة متكلم شيخ المعتزلة صاحب التصانيف، مات في ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة. سير أعلام النبلاء 17/244. تاريخ بغداد 11/ 113.
(3) قد تقدم عن الناصر أنه لا يفسق من ترك الواجب الذي هو دون الفرض، فكيف يفسق من ترك المسنون؟
(4) بهذا اللفظ أورده المؤيد بالله في شرح التجريد ـ خ ـ ، وبلفظ عشر من الفطرة: رواه مسلم وأبو داود، وبلفظ: خمس من سنن المرسلين رواه آخرون.
(5) لأن التكليف إلزام ما فيه كلفة.
(6) أي الخلاف في هذه المسألة، لأن النزاع مبني على تفسير لفظ التكليف، فإن فُسر بإلزام ما فيه كلفة فليس بتكليف، وإن فسر بطلب ما فيه كلفة فهو تكليف.
(7) هو الكعبي، تقدمت ترجمته.
(8) أي: يطلق الجائز على غير المباح.(1/91)


وليس مأموراً به عند (أئمتنا والجمهور)، خلافاً (لأبي القاسم). وقيل: لم تثبت الرّوَاية عنه، ويحتمل أن يكون إلزاماً(1)، وعلى ثبوتها فالمشهُور عنه - مع بطلانه(2) - أن المباح مأمور به، لكنه دون المندوب، كما أن المندوب مأمور به، لكنه دون الواجب. وقيل: أراد أمر الإيجاب(3)، وتأول الإجماع على انقسام الأحكام الشَّرعيَّة إلى خمسَة أَنَّ ذلك بالنَّظر إلى ذات المباح(4) لا بالنظر إلى ما يستلزم من ترك الحرام، فهو واجب(5).
والمباح جنس للواجب، ولذلك إذا نُسِخَ الوُجُوب بقي الجواز. ابن الحاجب وغيره: بل هما نوعان للحكم.
وليس الإباحة بتكليفٍ، وفاقاً (للجمهور) وخلافاً (للإسفرائيني)، وعن (بعض المعتزلة): إنها حكم عقلي(6).
(39) فصل والمكرُوه: ما يُسْتَحق المدح على تركه ولا يُذَمُّ على فعلِه. والخلاف في كونه منهيّاً عنه ومكلفاً به كالمندوب. وقد يطلق على الحرام(7)، وعلى ترك الأَوْلى كالمندوب(8).
__________
(1) أي: أُلزم به من خلال قوله بأنه لا مباح في فعل العاقل بمعنى مستوى الطرفين بلا مرجح لأحدهما.
(2) أي: مع بطلان هذا المشهور، ووجه البطلان أن الأمر حقيقة لا يستعمل لغة بمعنى نفي الحرج أصلاً، عُلم ذلك باستقراء لغة العرب.
(3) وحجته في ذلك أن المباح تُرك به الحرام، وترك الحرام واجب، فليزم أن يكون المباح واجباً.
(4) لأنه يجوز فعله في ذاته وتركه بفعل مباح غيره.
(5) وعلى هذا لا يمتنع أن يكون الشيء مباحاً لذاته واجباً لما يستلزمه. وأجيب على هذا بأن ذلك المباح غير متعين لإمكان الترك بغيره، وَضُعِّف هذا الجواب؛ بأنه سيكون من الواجب المخير.
(6) لأنها انتفاء الحرج وذلك حكم ثابت قبل الشرع.
(7) كقولهم: تكره الصلاة في الثلاثة الأوقات.
(8) أي كترك المندوب كقول صاحب الأزهار بعد تعداد المندوبات في قضاء الحاجة: ويكره ضدها.(1/92)


(40) فصل والمحظور: ما يستحق الذم على فعلهِ والمدح على تركه، ويرادفه: القبيح والحرام. وينقسم إلى: كبير، وصغير، وملتبس(1).
[الحكم الوضعي وأقسامه]
(41) فصل (والثاني) /33/ الخطاب الْمُعَرِّف للسبب والشرط والمانع، ولا يكون بالإقتضاء أو التخيير، وفائدته سهولة معرفة ما كُلفنا به من فعلٍ أو ترك بنصب المعرِّف علامة لذلك، في كل واقعة بعد انقطاع الوحي، لئلا تخلو أكثر الوقائع من الأحكام، مع ما فيه من حكمة الإختصار (2)، واعترض بعضُ المتأخرين القدماءَ في تسميتهم ما عَرَّف بخطاب الوضع حكماً، وقال: إنما هو علامة الحكم ولا يسمى حكماً. وهو فاسد؛ لأن نصب الشارع له علامة للحكم حكمٌ شرعيٌ، فكما أن وجوب الْحَدِّ حكم شرعي، فنصب الزنا علة له؛ حكم شرعي، فكل واقعة عُرِف حكمها بعلامتها لا بدليلٍ آخر، فللَّه تعالى فيها حكمان: الحكم المعرِّف بها، والحكم عليها بكونها معرِّفة له(3).
ويشترط في التكليفي ما لا يشترط في الوضعي، كالتكليف وعِلْم المكلف، ومِن ثَمَّ وجب الضمان على غير المكلَّف، ووقع طلاق السكران ونحو ذلك.
__________
(1) ملتبس أي بين الكبر والصغر. وهذا ليس قِسْماً برأسه؛ لأنه من أحد القسمين.
(2) فإنَّ جَعْل النصاب الذي يمضي عليه الحول سببٌاً لوجوب الزكاة أمر يدخل تحته جزئيات كثيرة، بخلاف النص على أن فلاناً تجب عليه الزكاة وفلانُ.. الخ
(3) فللَّه في الزنا حكمان: أحدهما وجوب الحد، والثاني سببية الزنا في وجوبه.(1/93)


(42) فصل وانقسام الْمُعَرِّفُ بخطاب الوضع إلى الثلاثة المتقدِّمة بحسب الإستقراء؛ لأنه إن أثَّر وجوده /34/ في وجود الحكم، وعدمُهُ في عدمه ـ عِلَّة له كَالإسكار(1)، أو غير علة كالزَّوال(2) ـ فهو (السبَب). وإنْ أثَّر عَدمه في عدمه ولم يلزم من وجوده وجود ولا عدم كالوضوء(3)، فهو (الشرط). وإن أثر وجوده في عَدمه، كالأبوة في منع القصاص، فهو: (المانع)، ويأتي تفصيلها في موضعه(4).
[توابع الأحكام]
(43) فصل والصحة والبطلان، والحكم بهما أمر عقلي لا شرعي وضعي(5)، خلافاً (للآمدي، والسبكي).
والصحة في العبَادات عند (الفقهاء وبعض المتكلمين): كون الفعل مُسْقطاً للقضاء. وعند (جمهور المتكلمين): موافقة أمر الشارع. وفي العقود: تَرَتُّب ثمراتها عليها المقصُودة منها(6). وإنما يوصف بها ما كان له وجهان(7).
والبطلان نقيضها بكل من الحدِّين. (الناصر، ومالك، والشافعي): ويرادفه الفساد في العقود. (جمهور أئمتنا، والحنفيَّة): بل هو قسم ثالث. وهو: خلل فيها(8) يوجب في حالٍ عدم ترتب ثمراتها عليها المقصودة منها(9). ويترادفان في العبادات عند الجميع. وإنما يتناول الخِطابُ الصَحيحَ(10)/35/.
__________
(1) فإن الإسكار مؤثر في تحريم الخمر.
(2) لأنه إذا وجد الزوال وجبت صلاة الظهر، وليس علة في وجوبها، فإن وجوبها عبادةً لله.
(3) بالنسبة للصلاة، فإنه إذا عدم عدمت الصلاة وإذا وُجِدَ فلا يلزم وجود الصلاة أو عدمهما.
(4) في باب القياس.
(5) كقولنا: هذه الصلاة صحيحة أو باطلة.
(6) كحصول ملك العين، والإنتفاع بالمبيع في البيع ونحو ذلك.
(7) لا وجه واحد كوجوب رد الوديعة.
(8) أي في العقود.
(9) وهذا الخلل كأن يَرِد البيع مقروناً بصريح الشرط، نحو: إذا أعطيتني الثمن فقد بعت منك.
(10) لا الفاسد فلا يقتضي النكاح الفاسد الإحلال، لقوله تعالى: ?حتى تنكح زوجاً غيره?، والنكاح هنا يتناول الصحيح لا الفاسد.(1/94)


(44) فصل والرخصة ما شُرِعَ للمكلف فعله أو تركه لعذر، مع قيام المحرِّم أو الموجِب لولاه(1) . وثبوتها بخطاب التكليف لا الوضع، خلافاً (للآمدي)، وشرعها لدفع التلف أو رفع المشقة.
وتنقسم إلى: واجب كأكل الميتة للمُضطر. ومندوب ومباح ومكروه، كالفطر في السّفر بحسب حال المسافر(2)، وقد يكون سببهَا واجباً ومندوباً ومباحاً ومكروهاً ومحظوراً، وفعلاً لله تعالى وللعبد(3). وإطلاقها يفيد أنها من جهة الشارع(4)، والفرق بينها وبين الشبهة واضح (5).
__________
(1) يعني أن مقتضي التحريم أو الوجوب باق لم ينسخ لولا العذر العارض.
(2) فإن كان تلحقه مشقة كبيرة فمندوب له الإفطار، وإن كان لا تلحقه إلا مشقة يسيرة فمباح له الإفطار، وإن كان لا تلحقه مشقة أصلاً فمكروه. وقد اعترض على هذا المثال، بأن الإفطار ليس فيه إلا وجهان: ندب مع المشقة وكراهة عند الإستواء.
(3) الواجب مثل: سفر الحج الواجب، والمندوب مثل سفر الحج المندوب، والمباح مثل سفرلا حاجة إليه، والمكروه مثلُ من غُص بطحال فأجازه بخمر، والمحظور مثل السفر لمعصية، وفعل اللّه كالمرض، وفعل العبد كالسفر.
(4) فإن قيل: رخص لنا في كذا. حمل على أن المرخص الشارع، إلا أن تدل قرينة على خلاف ذلك.
(5) وهو أن الحكم في الرخصة بدليل، وفي الشبهة بلا دليل، والمقصود بالشبهة الأمر الملتبس تحريمه أو تحليله، لا الشبهة في مقابلة الدليل، وهي ما كانت تشبيه الدليل وليست به، كما يقال: لفلان في هذه المسألة شبهة، والله أعلم.(1/95)

19 / 66
ع
En
A+
A-