(34) فصل والواجب: ما استحق المدح على فعله والذم علَى تركه بوجه مَّا(1). (أئمتنا والجمهور): ويرادفه الْفَرْض. (النَّاصر(2)، والداعي(3)، والحنفيَّة): الفرض: ما دليله قطعي، يَفْسُقُ تاركه، ويَكْفُر مستحله، ويُقْضَى. والواجب نقيض ذلك.
وينقسم الواجب - بحسب نفسه - إلى: ضروري واستدلالي. وإلى مُعَيَّن ومُخَيَّر.
وبحسَب فاعله، إلى: فرض عين، وفرض كفاية.
وبحسب وقته، إلى: مُضَيَّق، ومُوَسَّع، وأداء، وإعادة، وقضاء.
فالمعين: ظاهر. والمخير: كالكفارات الثلاث، ويأتي في الأمر إن شاء اللّه تعالى.
واختلف في فرض الكفاية، فعند أئمتنا والجمهور: أنه واجب على الجميع، ويسقط بفعل البعض. وقيل: على البعض. ثم اختلفوا، فقال (الرازي، والسبكي): بعضٌ مبهم. وقيل /28/: معيَّن عند الله. وقيل: مَنْ قام به.
ويقع في أصول الدين وفروعه(4)، وتحرم الأجرة عليه إن تعين أداؤه كالعين(5). وفي تَعَيُّنِه بالشُّروع خلاف.
__________
(1) بوجه ما متعلق بالترك، وإنما زاده ليدخل من الواجبات ما يستحق تاركه الذنب كيفما تركه، نحو فرض الكفاية فإنه يذم تاركه إذا لم يقم به غيره، وكذلك الواجب المخير فإنه يذم إذا تركه مع الآخر.
(2) الناصر، هو: الإمام الناصر الحسن بن علي الأطروش، كبير أئمة الزيدية في بلاد الجيل والديلم، كان من عظماء اللإسلام وكبار علمائه، له مصنفات، توفي سنة أربع وثلاثمائة.
(3) الداعي، هو: الإمام الداعي يحيى بن المحسن بن محفوظ بن محمد بن يحيى الهادوي الحسني، برع في سائر الفنون، وهو أحد أئمة الزيدية في اليمن، له في أصول الفقه كتاب (المقنع)، توفي بهجرة ساقين في رجب سنة ست وثلاثين وستمائة. وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد.
(4) في أصول الدين كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند القائلين أنها منه، وفي فروعه كالأذان والإقامة.
(5) يعني أنه يصير كفرض العين يحرم أخذ الأجرة على تعليمه.(1/86)
وفرض العين أفضل منه(1) وفاقاً (للجمهور)، وخلافاً (للإسفرائيني، والجويني)(2) وهو مِنْ فاعله بعد فعل مَنْ يَسْقُطُ بفعله عنه نَفْلٌ(3). وقيل: فرض، ويأثم الكل بالإخلال به إن عرفوه معاً، وإلا فَمَنْ عَرَفَه. (أبو العباس(4)، والإمام): وبعضه من فروض العلماء لا العوام(5). (بعض الفقهاء): بل عام. وقَوَّاه (المَهدي)(6).
والمضيق: ظاهر. والموسع: يأتي في الأمر إن شاء اللّه تعالى.
والأداء: ما فُعِل في وقته المقدَّر له أولاً. والإعادة: ما فُعِل في وقته ثانياً لخلل في الأوَّل. وقيل: لعذر وهو أعم. والقضاء: ما فعل بعد وقت الأداء لتركه فيه أو لوقوع خلل في فعله فيه. وإنما تُقضَى عبادة مؤقتة لم تقع في وقتها، أو وقعت فيه لكن مع خلل فيها، وورد الدليل بقضائها كالصلاة، والصَّوم.
__________
(1) ولهذا إذا اجتمعت واجبات كثيرة، قدم فرض العين.
(2) الجويني: هو إمام الحرمين عبد الملك بن محمد بن عبد اللّه الجويني، من كبار متكلمي الأشعرية، وهو أستاذ الغزالي، توفي (478 هـ). طبقات الشافعية 3/249.
(3) كصلاة الجنازة والجهاد، بعد قيام الغير بها.
(4) أبو العباس، المراد به: أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني، من كبار علماء الزيدية في عصره، له مؤلفات فريدة، ولد ونشأ في بلاد الديلم، وتوفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. طبقات الزيدية - خ -.
(5) كالفتيا وحَلّ الشُّبه.
(6) المهدي، هو: الإمام أحمد بن يحيى المرتضى، أحد أعلام أئمة الزيدية في اليمن، فقيه أصولي متكلم له تصانيف كثيرة، وشهرته واسعة، توفي رحمه الله سنة أربعين وثمانمائة.(1/87)
(35) فصل ومالا يتم الواجب إلا به ـ إن لم يكن مقدوراً(1) ـ لم يجب، إلا عند مجِّوز تكليف مالا يُطَاق، وإن كان مقدوراً فإن قُيِّد /29/ الوُجُوب به لفظاً كالإستطاعة في الحج، لم يجب إلا عند حصوله، ولا يجب تحصيله اتفاقاً. وإن أُطْلِقَ، (فأئمتنا، والجمهور) على وجوب ذلك(2) بالأمر الذي وجب به الواجب؛ لأن الأمر بالشيء أمرٌ بمقَدِّماتِه، وسواء كان(3) شرطاً عقلياً، كترك كُلِّ ضدٍّ للواجب، أو فِعْلِ ضِدٍّ في المحرَّم، أو عادياً كغسل جزء من الرأس(4)، أو شرعياً كالوضوء في الصلاة، أو كان علة كالنار للإحراق(5).
وقيل: لا يجب فيها مطلقاً(6)، بل بغيره من الأدلة الخارجية(7). (الجُوَيني، وابن الحاجب): بل يجب الشرط الشرعي دون غيره. (الموسوي(8)، والرازي): بَل العلَّة دون غيرهَا.
وثمرة الخلاف هل يتناوله(9) الأمر، ويوصف بالوجوب، ويثاب بفعله ويعاقب بتركه أم لا؟ وإذا لم يتم الواجب إلا بقبيح(10)، أو بإخلال بواجب(11)، ولا ترك قبيح إلا بقبيح فالترجيح(12).
__________
(1) كحصول العدد في الجمعة.
(2) أي مالا يتم الواجب إلا به.
(3) ما لا يتم الواجب إلا به.
(4) عند غسل الوجه؛ لأنه لا يتم إلا بذلك عادة.
(5) أي إيجاد النار عند طلب الإحراق.
(6) أي لا يجب ذلك الذي لا يتم الواجب إلا به في العلة والشرط، سواء كان الشرط في صحة ذلك الواجب شرعياً أو عادياً أو علة أو سبباً.
(7) نحو: العقل والعادة.
(8) الموسوي، هو: أبو طالب علي بن حسين بن موسى القرشي العلوي الحسيني، المعروف بالشريف المرتضى الموسوي، من الأشراف الأجلاء وكبار العلماء والأدباء، توفى سنة ست وثلاثين وأربعمائة. كشف الظنون 1/748.
(9) أي ما لا يتم الواجب إلا به.
(10) مثل الصلاة في الدار المغصوبة، أو إخفاء المؤمن عند الخوف عليه بكذب صريح.
(11) مثل: الخروج من الصلاة لإنقاذ غريق.
(12) كما إذا علم من حال زيد أنه لا يترك الزنا إلا إذا مارس العادة السِّرية.(1/88)
(36) فصل ويستحيل كون الشيء الواحد وَاجباً حَراماً من جهة واحدة - إلا عند مُجَوّز تكليف ما لا يطاق - عقلاً وشرعاً، ومنه الصلاة في الدار المغصوبة عند (أئمتنا، وأحمد، والظاهريَّة(1)، وجُمهور المتَكلمين /30/، وإحدى الروايتين عن مَالك)(2)؛ لاتِّحاد الْمُتَعلَّق، فلا تصح ولا يسقط الطلب.
ويجوز كونه كذَلك من جهتين، كالأمر بالخياطة والنَّهي عَن مكان مخصوص(3)، ثم فُعِلت فيه، إن كانت الخياطة ليست بغصبٍ للهوى(4). ومنه(5) الصَّلاة في الدار المغصوبة عند (الفريقين(6)، وجمهور الأشعريَّة) فتصح، وَيُثَابُ، وقيل: لا يثاب. (الباقلاني، والرازي): لا تصح ويسقط الطلب. ودعوى (الغزَّالي) الإجماع على صحتها باطلة. وفي كونها(7) قطعيّة أو ظنيَّة خلاَف.
__________
(1) الظاهرية: جماعة منسوبه إلى داود بن علي الظاهري وهو فقيه معروف، توفي سنة (270هـ) ولهم أقوال مشهورة، تدور مع ظاهر النص وحرفيته.
(2) مالك: هو الإمام مالك بن أنس الأصبحي أبو عبد اللّه، إمام دار الهجرة، ورأس المالكية، توفي (179 هـ). صفة الصفوة 2/99.
(3) يعني والنهي عن اللبث في مكان مخصوص.
(4) وذلك كإذا أمر السيد عبده بالخياطة، ثم نهاه عن اللبث في المسجد، فخاط الثوب فيه، فقد أطاع بالخياطة؛ لأن سيده لم يقيد فعلها بمكان دون مكان، وعصى بلبثه في المسجد، فهو عاص من وجه ومطيع من وجه آخر. وقول المؤلف: ليست بغصبٍ للهوى يشعر بأن هذا المثال على جهة الفرض، وإلا فهو كالصلاة في الدار المغصوبة. وقد جعل الإمام المهدي هذه المسألة قسمين، قسم كالصلاة في الدار المغصوبة، وهو ما إذا قال السيد لعبده: لا تخط هذا الثوب في المسجد. ثم خاطه فيه، فإن المتعلق هنا متحد، فأما إذا أمر بالخياطة غير مقيدة بمكان مخصوص، ثم نهى عن اللبث في المسجد فالمتعلق متعدد وهذا هو القسم الثاني.
(5) أي الذي هو حلال وحرام من جهتين.
(6) الفريقين: المراد بهما: الحنفية والشافعية.
(7) هذه المسألة.(1/89)
وأما من خرج من مغصوب تائباً فآتٍ بوَاجب، وهو الخرُوج؛ لأنَّه مَأمُور به. (الجويني)، ومُسْتَصْحَب عنده(1) حكم المعصية، مع أنه مأمور به. وهو بعيد(2). وقول (أبي هاشم) - في الأصح - مثل قوله(3)، لا أنه ذهَب إلى تحريم الخروج كالوقوف(4)، وتحقيقُه أن أكوان خروجه عندهما لا تُوصف بكونها طاعة، وإن كان بها مأموراً ممتثلاً، واستصحابه لحكم المعصية لتسبُّبِه إلى ما لا مخلص له منه إلا معها(5).
وحظ الأصولي في ذلك بيان استحالة تعلق الأمر والنهي معاً بالخروج(6). ووجوبه /31/ أو تحريمه موكول إلى نظر الفقيه.
وتحيَّر (أكثر الفقهاء) في قول (أبي هاشم): ما حُكْم الله على من سقط فوقع على أوسط جماعة جرحى، إن استمر عليه قَتَلَهُ وإن انتقل عنه قتل كُفؤه. وجزم (الجويني) بأنها واقعة خالية عن حكم الشرع، وقيل: هو مخير، وهو المختار، وتوقف (الغزالي).
(37) فصل والمندوب: ما يستحق المدح علَى فِعْلِهِ، ولاَ يستحق الذم عَلى تركه، (بعض الشافعية): ويرادفه: التطوعُ، والسنّةُ، والمستحبُّ، والمرغبُ فيه، والنَّفْل، والْحَسَنُ.
(أئمتنا) وغيرهم: والمسنون ما أمر به النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم ندباً وواظب عليه، كالرواتب، وإلا فالمستحب.
__________
(1) أي الخروج.
(2) لأنه لا معصية إلا بفعل منهي عنه، أو ترك مأمور به، وقد انتفى تعلق النهي بالخروج، بل فعل ما هو مأمور به.
(3) وهو قوله: من دخل أرضاً غاصباً ثم خرج بنية التوبة فهو عاصٍ.
(4) لأن ذلك تكليف ما لا يطاق.
(5) أي إلا مع أكوان الخروج.
(6) ووجه الإستحالة أنه لو تعلق بهما للزم سلب الحركة والسكون وهو محال.(1/90)