الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمَّد المصطفى الأمين، وَعَلى أَخيه الأنزَعِ(1) البطِين(2)، وعَلَى سَيِّدة نساء الخلق أجمعين، وعَلى سِبْطَيهما والأئمة السَّابقين، والمقتصدين من أبنائهم المنتجبين، وعلَى أصحابهم وأتبَاعهم إلى يوم الدين. وبعد..
فهذه نُخَبٌ مُصْطَفاه من أقوال أئمتنا، ونُغَبٌ(3) مُصَفَّاة من سلسال مَعِين علمائنا، اعتَصَرْتُها من أفانين(4) دَوْحَاتِ معارفهم الواسعة، واختَصرتها من قوانين مُصَنَّفَاتهم الحافلة الجَامعة، وَرَصَّعْتُ جواهرَ عِقدها المُذْهَّب، بأقوال أئمتنا وما لَخَّصَه المتأخرون للمذهب(5) وأضفتُ إليها من مذاهب شيوخ العدل والتوحيد، ما هو أعذب من الفرات وأحلى من جَنى التَّوحيد(6)، ومن مذاهب غيرهم من علماء الأمة الأحمدية، وحكماء العصابة المحمدية، فليثق باحث كنوزها بنيل أمله، وليستعن كاشف رموزها بإخلاص نِيَّتِه وعمله.
ومن تأمَّلها مُنْصِفاً، وجعل فكره /5/ الصحيح لِمَعَانِيها مِنْصَفاً(7) علم أنها لبابٌ نُزِعَ قِشْرُه، وعُبابٌ لا يُدرك قعره، وتيقن أنها - على صغر حجمها - محيطة بِزُبَد المختصرات، ومحاسن البسيطة من الأمهات المعتمدة، والمصنَّفات الْمُنْتَقَدة.
__________
(1) الأنزع: منحسر الشعر من مقدم الرأس.
(2) البطين: من له بطن كبيرة، قال في الشرح: وكذلك كان أمير المؤمنين.
(3) النغبة: الجرعة من الشراب.
(4) الأفانين: جمع فنن، وهو: الغصن.
(5) قال المؤلف: وذلك حيث يكون لهم نص في المسألة، فحيث أقول: المختار فهو للمذهب، نصاً لأئمتنا ـ وهو الأكثر ـ أو تخريجاً لهم ـ وهو النادر ـ وقد أقول: المختار: وليس لهم فيه نصٌ ولا تخريجٌ، لكنه مقتضى قواعدهم، وأنبه عليه في الحاشية. تمت من الحواشي.
(6) التَّوحيد: نوع من التمر.
(7) المِنْصَف: الخادم.(1/46)
وَجَرَّدتها عن الأمارات والأدلَّة، اكتفاءاً بشموس مسائلها والأهلَّة، وتسهيلاً لحفظها، وتقليلاً للفظها، وإحالة إلى أصولها، وحثاً للإخوان على شرح فُصُولها.
ولم أبالغ في اختصارها صَوناً لها عن الإلغاز، ولا في بسطها لمنافاته للإيجاز، مع اقتفاء منهج المختصرين من أهل التصنيف، في حسن التهذيب والتَّرصيف، وإبراز المعنى الخفي اللطيف، في إبْرِيز اللفظ الجلي الطَّريف، على أنه قد قال غير واحد من علمائنا الأفاضل: (( المصنفون حقيقة هم الأوائل )) فأما المتأخرون فمصنفاتهم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل؛ إذ الأوائل هم المفجِّرون لعيون الحِكَم الجارية في أنهارها، والملتقطون لمكنون الدُّر المُودَع في بحارها، وإن أخطأوا حيناً في معنىً أو عبارة، فكل /6/ منهم هو السابق في حَلَبة الفضل الْمَقْفُوِّ آثاره، ولا شك أن للمتقدم فضيلة السابق المبتدئ، كما أن للمتأخر - وإن قصر عنه - فضيلة اللاحق المقتدي، نسأل اللّه أن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، ومِرقاةً مُوصِلةً إلى جنات النعيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مباحث الألفاظ
ومعرفة
الأدلة والأحكام
مقدمة
لا بد لطالب أصول الفقه من معرفتها
(1) فصل مبادئه: حَدُّه، وموضوعه، وفائدته، واستمداده، وحكمُه
أما حَدُّهُ مُضَافاً، فالأصل لغةً: ما يتفرَّع عليه غيرُه، وهو في عُرْفِها: حقيقة في النَّامِيَات، مجازٌ في غيرها. واصطلاحاً: الدليل.
والفِقْهُ لغة: العِلْم، أو الظن لأمر خَفِي، ولو بغير(1) خطاب في الأصح(2). واصطلاحاً: العلم أو الظن للأحكام الشرعية الفرعية، عن أدلتها التفصيلية، وأكثرها مظنون، ووجوب العمل به(3) معلوم.
__________
(1) في (ب): لغير.
(2) حصول العلم أو الظن بغير الخطاب، نحو تَعَلُّم الصنائع بالمشاهدة والممارسة، وكمعرفة الطرق بواسطة الآثار والعلامات، ومن ذلك قولهم: البعرة تدل على البعير، والقدم تدل على المسير.
(3) أي الظن.(1/47)
وأما حَدُّه لَقَباً: فالقواعد التي يُتَوصَّل بها إلى استِنْبَاط الأحكام الشرعية الفرعيَّة عن أدلتها التفصيلية. وقيل: العلم بها أو الظن. وهي: قطعية، وظنية(1).
وأما موضوعه: فالأدلة السَّمعيَّة الكُلِّيَّة(2).
وأما فائدته: فالعِلْم بأحكام اللّه.
وأما استمداده، فمن: (الكلام)، لتوقف الأدلة السمعية(3) الكليَّة على معرفة الصَّانع وصدق /7/ المُبَلِّغ. ومن (العربيَّة)؛ لأن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة عربية. ومن (الأحكام)، والمراد: تصورها بالحد(4)؛ ليمكن إثباتها أو نفيها بعد ذلك في أفراد المسائل، لا حُصُولها، وإلاَّ لزم الدَّور(5).
وأما حكمُه: فالوجوب على الكفاية.
__________
(1) القطعية: ما كان دليلها قطعياً، من عقل، نحو: كون الأمر للوجوب، أو سمع نحو: كون الإجماع حجة على رأي. والظنية: ما كان دليلها ظنياً من عقل، كما يذكر أن الأمر للمرة فقط، أو سمع ككون الإجماع حجة على رأي. كذا في الدراري. ولعل المراد: أن النظر الصحيح في القاعدة إن أوصل إلى معلوم فهي قطعية وإن أوصل إلى مظنون فهي ظنية.
(2) الأدلة السمعية هي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، ومعنى الكلية أن هذا العلم لا يبحث في مثل قوله تعالى: ?وأقيموا الصلاة? عن كون الآية تدل على وجوب الصلاة، وإنما يبحث في الأمر من حيث هو، هل هو للوجوب أم لا؟ في هذه المسألة وغيرها.
(3) السمعية في (أ) فقط.
(4) لا العلم بثبوتها أو نفيها؛ لأن ذلك هو ثمرة أصول الفقه، وإنما المقصود تصور ماهية الحكم.
(5) لأنه إذا كان المراد العلم بثبوت الحكم أو نفيه، فإن ذلك لا يتأتى إلا بمعرفة الأصول، ومعرفة الأصول حين ذلك متوقفٌ على معرفة الأحكام.(1/48)
(2) فصل وينحصر في: الأمر، والنهي، والعموم، والخصوص، والمطلق ، والمقيد، والمجمل، والمبين، والظاهر، والمأوَّل، والناسخ، والمنسوخ، والإجماع، والأفعال، والأخبار، والقياس، والإجتهاد، وصفة المفتي والمستفتي، والحَظْر، والإباحة، والتعارض، والترجيح.
[وضع الألفاظ وأقسامها ومتعلقاتها]
(3) فصل وما يَصحُّ المواضَعَة علَيه؛ إِن لم تقع فهو: (المهمل) (1)، وإن وقعت، فهو: (المستعمل)، ويسميان: كلاماً عند (جمهور الأصوليين). وينقسم المستعمل إلى: مفرد، ومركَّب.
__________
(1) نحو كادث ومادث، وما شابه ذلك من الحروف المركبة التي لم توضع لمعنى.(1/49)
والمفرد ينقسم عند (جمهور الأصوليين والمتكلمين) إلى: مُفِيْد(1)، وهو: حقيقة ومجاز، كأسد للسَّبُع، والرَّجل الشجاع. وإلى جارٍ مجرى المفيد، وهو الموضوع بإزاء أمر لا يختص بذات دون أخرى، كشيء(2)، ولا يجوز تغييرهما واللغة بحالها(3). وإلى: غير مفيد ولا جار مجراه، وهو العَلَم، كزيد(4)، ويجوز تغييره واللغة بحالها. (الإمام (5) وبعض الأصوليين، وأهل اللغة، والعربية): بل هما(6) من المفيد وليسا بمستقلين(7).
والمركب ينقسم إلى: خِطاب، وإلى غير خِطاب. فالأول: ما قَصَد به المتكلم إفهام غيره معنىً من المعاني/8/. والثاني: ما جرى على رسم الدرس(8).
__________
(1) المفيد: ما أفاد ماهية مخصوصة لا تتغير ولا يخرج مسماها عن تلك الماهية المرتسمة في الذهن، استمراراً للغة، كرجل وامرأة وفرس، ونحو ذلك.
(2) الجاري مجرى المفيد، يشبه المفيد من حيث أنه يفيد ماهية يمكن أن تُعلم، ويشبه غير المفيد من حيث إنه لا يفيد ماهية مخصوصة ولا صفة تتميز بها.
(3) يعني باقية لم تتغير، فلا يجوز أن يسمى الحيوان الناطق باسم لم تضعه العرب، على أساس أنه عربي.
(4) غير المفيد: ما لا يفيد ماهية مخصوصة، وإنما هو للتمييز بين المسميات، وقد يوضع لأكثر من معنى، وهو ما كان عَلَماً كزيد، فليس لزيد معنىً لا يتغير بل هو لمجرد التمييز، ويصح وضعه لجميع الأشخاص على البدل، بخلاف رجل فإنه يفيد ماهية مخصوصة.
(5) المراد به الإمام يحيى بن حمزة، وأينما أطلق في هذا الكتاب فهو المراد. وهو الإمام الشهير أحد عظماء أئمة الزيدية وأكابر العلماء له مصنفات في مختلف الفنون، توفي (794 هـ).
(6) أي الجاري مجرى المفيد وغير المفيد.
(7) لأنهما يميزان المسمى بهما عن غيره؛ فقولنا: شيء، وزيد، وفرس. سواء في إفادة كل منها ما وضع له في أصل اللغة.
(8) يعني كترديد الْمُدَرِّس الألفاظ للتلميذ ليحفظها.(1/50)