الكتاب : الفصول

الفُصُولُ اللؤلؤية
في
أصول فقه العترة الزكية، وأعلام الأمة المحمدية

تأليف
العلامة الكبير السيد صارم الدين
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن الهادي الوزير
المتوفى (914 هـ)

دراسة وتحقيق
محمد يحيى سالم عزان

الناشر: مركز التراث والبحوث اليمني

m

مقدمة التحقيق
قبل البدء
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وبعد، فهذا كتاب (الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة الزكية وغيرهم من علماء الأمة المحمدية)، أقدمه للقراء الكرام بعد رحلة طويلة قطعتها معه، امتدت عبر عقد ونصف من الزمان، وذلك أنني منذ بدأت في دراسته على أحد مشايخنا الأجلاء (عام 1405هـ 1985م) كنت أتمنى أن يطَّلع عليه الباحثون ويستوعبه طلاب العلوم الشرعية، لما تظمنه من فرائد الفوائد، ونوادر المسائل، وضوابط المعرفة، لذلك كنت أزين المخطوطة التي أدرس فيها بالألوان، وأحرص من خلال ذلك على أن أبين الفصول والمقاطع والأقسام، ليسهِّل ذلك على فهمه واستيعابه.
وبعد سنوات شاء الله أن أشتغل بشأن التحقيق والطباعة، فاخترت جملة من المخطوطات كان منها هذا الكتاب، إلا أنني ظللت أتهيب من العمل فيه إلى فترة متأخرة أقدمت بعدها على صفه وبدأت العمل فيه، وما أن وصلت إلى نصفه تقريباً حتى ظهر الكتاب مطبوعاً بتحقيق د/عبد المجيد عبد الحميد الديباني ، أستاذ بجامعة قاريونس ورئيس قسم الشريعة سابقاً؛ فتوقفت عن العمل فيه، وحمدت الله على وجوده، وبعد الاطلاع عليه وجدت أن محققه قد بذل فيه جهوداً يشكر عليها، غير أن عنايته بنص الكتاب لم تكن على المستوى المطلوب، فالأخطاء والسقط لا تزال منتشرة على صفحاته بدرجة كبيرة، وبذلك فقد سلاسته، بل وتحَرِّفت بعض معانيه، دع عنك ما تضمنته المقدمة من الأخطاء الفكرية والتاريخية عن الزيدية وعن المؤلف، حتى أنه ترجِم لحفيده بدلاً عنه.(1/1)


وهذا ما جعلني أفكر في مواصلة عملي في تحقيقه، وشجعني عليه مطالبة بعض مشايخنا الأجلاء وزملائنا الأعزاء بذلك، ولكن قلة الإمكانيات أقعدتني عن إنجازه في وقت قصير.
وعندما بزغت أنوار "مركز التراث والبحوث اليمني" تبنى طباعته ونشره إلى جانب كتب أخرى من ذخائر التراث الإسلامي، فذللت الصعاب، وتمكنت من مواصلة العمل فيه حتى أنجز بحمد الله ومَنِّه.
وفي هذه المقدمة المقتضبة سيكون لي كلمة عن موضوع الكتاب، وكلمة عن الكاتب، وكلمة عن الكتاب، وكلمة عن تحقيقه. أسأل الله العون والسداد، وأن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه الكريم إنه سميع مجيب.

m

أصول الفقه أدوار وأطوار
نشأة قواعد أصول الفقه وتطورها
على امتداد فترة الرسالة الإسلامية، ومع استمرار نزول الوحي؛ كانت التوجيهات السماوية تصل الناس غضَّة طريَّة، عن طريق الحبيب المصطفى المعلم الأول والمرشد الأعظم صلى اللّه عليه وآله وسلم، فلا اضطراب في معرفتها، ولا تخبط في فهمها، حيث لا يزال مبعوث السماء موجوداً بين ظهراني الأمة، يبين المجمل، ويشرح الغامض، ويرفع اللبس، ويكشف عن جوهر الحقيقة ويدفع الناس نحوها، وبذلك لم يكن ثَمَّ حاجة ملحة لتحرير ودراسة قواعد وأسس تستنبط الأحكام الشرعية على ضوءها، أو تدفع الغموض عنها.
وبموت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم غاض ذلك النَّبع الصافي، وتوقف إمداد الوحي السماوي، بعد أن رسم للبشرية المنهج الذي تمضي عليه لتحقيق سعادتها، وبَيَّن الطرق القويمة الموصلة إلى معرفة أحكام ما سيحدث ويتجدد في حياة الناس، ووضع الأسس المتينة التي يمكن الأمة أن تبني عليها صروح معرفتها وفكرها.(1/2)


وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجه المسلمون من أصحابه تساؤلات كثيرة عن تحديد المواقف العملية تجاه بعض المستجدات التي لم يرد بحكمها نص صريح في القرآن أو السنة، فتوجه فقهاء الصحابة رضي اللّه عنهم إلى إمعان النظر في مصادر التشريع ومراجعة التركة العلمية التي ورثوها عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، فاستنبطوا منها ما تتطلبه الساحة من الأحكام تجاه مختلف القضايا الحادثة.
وكان من الطبيعي أن يختلفوا في استنتاج بعض الأحكام وتحديد المواقف العملية تجاه بعض القضايا؛ لأسباب كثيرة من أهمها:
(1) ـ تفاوتُ الصحابة في الذكاء والفهم، وحسن الاستيعاب، فقد كان لدى بعضهم من الحنكة والذكاء ما يمكنه من فهم الأحكام على وجهها الصحيح، ويساعده على استنباط خفايا النصوص ودقائق المعاني، بينما كان بعضهم كثيراً ما يسهو في النقل، أو يخطئ في الفهم، أو يكتفي بظاهر نص أو فتوى، أو ترجيح يأتيه من هنا أو هناك.. وتلك سنة الله في خلقه.. وعذرهم في ذلك أنهم بشر.
(2) ـ تفاوتهم في مدى ملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان بعضهم لا يكاد يفارقه إلا في أو قات الخصوصية، كأوقات الراحة والنوم، بينما كان البعض الآخر لا يجالسه إلا نادراً، إما لبعد أو كثرة ترحال أو انشغال بأمر من الأمور، مما يجعله يسمع جزءا من حديثه صلى الله عليه وآله وسلم ولا يسمع الجزء الآخر، أو يسمع عموماً ولا يسمع مخصصه، أو مطلقاً ولا يسمع مقيده، أو منسوخاً ولا يسمع ناسخه، ونحو ذلك من العوامل المؤثرة في تقديم الحقائق وعرضها.(1/3)


(3) ـ قابلية اللفظ العربي – مفرداً أو مركباً- لاحتمالات السامعين، خصوصاً مع غياب القرائن أو غموضها، وذلك نحو ما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكى عند موت ولده إبراهيم، فقيل له: يا رسول الله، أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟! فبين لهم أنه لم ينهَ عن البكاء، وإنما نهى عن الصراخ واللطم ونحوه. ففهم السامع أن النهي عن كل مظاهر الحزن على الميت. هذا مع أن الاحتمالات في حق الصحابة يجب أن تكون محدودة؛ لأن القرائن غالباً ما تكون مع النص بسياق أو نحوه، وإلا كان الكلام قاصراً عن الفهم؛ وهو نقص في الفصاحة يعاب به الكلام، خصوصاً إذا سبب ذلك التوهم خلاف المراد.
تلك الأسباب وغيرها - إلى جانب الاختلاف في نقل الأخبار - وضعت الفقهاء بعد عصر الصحابة أمام موروث ضخم من الآراء المتعددة، والترجيحات المتباينة، والاجتهادات المختلفة، وانظم إلى ذلك ما شهده عصر التابعين من متغيرات شتى كان لها دور ملموس في التأثير على منهج التفكير والنشاط العلمي، ولعل من أهمها:
(1) ـ تَوَسُّع رقعة العالم الإسلامي، ودخول الدعوة الإسلامية إلى مجتمعات متعددة الأعراف مختلفة الأوضاع، يتطلب التعامل معها شيئاً من المرونة والشمولية من جهة، والدقة في التحرك وفق مقاصد الشريعة من جهة أخرى.
(2) ـ ظهور عدة مدارس فكرية وفقهية تنتمي إلى صحابة بارزين اعتمد كل منهم ما سمع من حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.. وكانت لهم طرق واجتهادات في فهم النصوص.
(3) ـ انعكاس الصراع السياسي على الحياة الثقافية، حيث أبرزت السياسة أفكاراً وعتمت على أخرى، وتدخل الحكام تدخلاً مباشراً في مواجهة أو تأييد بعض المفاهيم بما يتناسب مع أوضاعهم السياسية.
وفي ظل تلك المتغيرات، نشأت المذاهب الفقهية وتبلورت أفكارها، وحرص أتباع كل مذهب على حشد ما يمكن حشده من الحجج والبراهين ليثبتوا أن ما توصلوا إليه هو الراجح الصحيح.(1/4)


وهذا بدوره وضع الفقهاء ـ الذين برزوا في ذلك العصر ـ أمام مهمة صعبة؛ لأن ما يجب أن يقرروه من اجتهادات ومسائل فقهية لا بد فيه من مراعاة المتغيرات المذكورة، إلى جانب الحرص على براءة الذمة بمراعاة مقاصد وثوابت الشرع، لذلك توجهوا إلى دراسة ما بين أيديهم من النصوص والاجتهادات، وأصَّلوا أصولاً للاستنباط ووضعوا قواعد للفهم والاجتهاد، معتمدين في ذلك على ثوابت مستمدة من: العقل، واللغة، والشرع، كالعمل بالأخبار الصحيحة، ومراعاة التقييد والتخصيص، والعلل والأسباب، والعمل بالناسخ، والاستفادة من المفاهيم، ونحو ذلك مما صار يعرف أخيراً بـ(علم أصول الفقه).
ورغم كثرة الضوابط ـ المنظمة لعملية الاستنباط ـ آنذاك وتداخلها، فإنها لم تُمَيَّز كفَنٍّ مستقل تُشرح أبعاده وتبين جذوره، وإنما كان الفقهاء يتداولونها كنظريات معروفة لديهم، يشيرون إليها في معرض استدلالاتهم وأثناء حوارهم.
وقد قيل: إن أول من أملى قواعد هذا العلم هو الإمام محمد بن علي الباقر المتوفى سنة (114 هـ/732م)، وإن أول من صنف فيه هو الإمام يعقوب بن إبراهيم المشهور بأبي يوسف صاحب أبي حنيفة المتوفى سنة (182هـ/798م)، وقيل الإمام محمد بن إدريس الشافعي المتوفى سنة (204 هـ/819م).
وفي أوائل القرن الثالث الهجري بدأ أتباع أئمة المذاهب الفقهية بجمع واستخراج الضوابط والقواعد وكل ما يمكن أن يكون أصولاً لفقه أئمتهم، ثم أفرغوا ذلك في قوالب جديدة، فجعلوا لها أبواباً ورتبوا لها فصولاً وتعاملوا معها كأصول لمذاهبهم، يُخَرِّجون ويجتهدون ويفَرِّعون على ضوءها، رغم أن الجزء الأكبر منها ـ لاسيما في أمهات المسائل ـ يعد أصولاً مشتركة بين الجميع، لا يختص بها إمام دون آخر.
وبعد ذلك أخذ أتباع كل مذهب يتفننون في تجديد وصياغة تلك القواعد حتى وصل علم أصول الفقه إلى ما هو عليه اليوم.
ولعل ما سبق يمكننا من القول بأن قواعد أصول الفقه التي خلفها لنا الأولون على نوعين:(1/5)

1 / 66
ع
En
A+
A-