متفق على ذلك, وبالاتفاق عليه لم يقع التفرق في الدين, وإنما أرشد ذلك إلى أنه من باب الاختصاص, كاختصاص الجهاد بالرجال, بخلاف سائر المسائل المختلف فيها, فإنها لم تقم دلالة البتة على أنها من باب الاختصاص, فتأمل.
[نقد الحجة الرابعة]
وأما قولهم: لا حكم لله فيها معين. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو: إما أن يكون الحكم الذي حصل بنظر المجتهد مما أنزل الله تعالى, أو لا. إن كان مما أنزل الله, بطل قولهم, وصار معينا عند الله سبحانه؛ لأنه لا ينزل سبحانه إلا ما قد عينه وأثبته, إذ خلاف ذلك لا يصدر إلا عن جهل وذهول, والله تعالى منزه عنهما, وأيضا فإن الله سبحانه قد أثبته إذ أنزله وعلم من حصله بنظره وكلَّفه أن يعمل به, فكيف لا يكون مع ذلك معينا عنده. وإن كان من غير ما أنزل الله سبحانه فليس من الشرع؛لأنه لم يشرعه حيث لم ينزله, وقد قال الله تعالى: { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون }(المائدة: 45) ونحوها ولم يفصل.(1/16)
[نفي القول بأن مراد الله تابع لنظر المجتهد]
وأما قولهم: إن مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد, لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله. فنقول وبالله التوفيق: لا يخلو إما أن يكون ما أداه نظر المجتهد من الحكم مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, أو لا, إن كان الأول بطل قولهم؛ لأن جميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مراداً لله تعالى, وذلك معلوم من الدين ضرورة, وأيضا جميع ما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم صراط الله المستقيم, وقد قال تعالى: { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه }(الأنعام: 153) ,وذلك نص في اتباع صراطه الذي هو مراده تعالى بلا خلاف. وإن كان الثاني فليس من الشرع, لأنه ليس مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, ولا من صراط الله الذي أمر باتباعه, وإنما هو من السبل التي قال تعالى فيها: { ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }(الأنعام: 153).(1/17)
[نقد دليل القول السابق]
وأما قول بعضهم: لأنه لا يخلوا إما أن يريد الله سبحانه من كلٍّ ما أداه إليه نظره, أو يريده من بعض دون بعض, أو لا يريد ذلك من كلهم . الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع, والثاني باطل أيضا؛ لأنه محاباة, ومن وصف الله بها كفر, فثبت الأول. فنقول وبالله التوفيق: إن هذا القول لا يخلو من جهل, أو تمويه على الجهال الذين لا يفهمون؛ لأن القائلين بتحريم الاختلاف يقولون: إن الله يريد من كلٍّ في كل قضية طلب حكم واحد, إذ أمر الله سبحانه بالاجتماع في الدين دون التفرق, فإن اجتمعوا عليه فذلك مراده منهم, وإن أصابه بعض وأخطأه بعض؛ فقد أصاب مراده تعالى المصيب وأخطأه المخطئ فهذا خارج من ذلك التقسيم.
[حجة الكتاب على التصويب]
وأورد على ذلك قوله تعالى: { ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً... الآية }(الأنبياء: 79) .وقوله تعالى: { ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله }(الحشر: 5) ,ولا حجة لهم في الآيتين على تصويب المجتهدين عند الاختلاف.(1/18)
[حكم داود في الغنم]
أما الآية الأولى فهي حجة لنا؛ لأنه لو كان داود عليه السلام وسليمان عليه السلام مصيبين معاً لم يكن لتخصيص سليمان عليه السلام بالتفهيم فائدة, وقوله: { كلا آتينا حكما وعلما } احتراس من سوء توهم المتوهمين أن داود عليه السلام لم يكن ذا حكم وعلم على الإطلاق, لو اقتصر على قوله: { ففهمناه سليمان }, كما في قوله تعالى: { أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين }(المائدة:54) , فإنه ربما توهم أن ذلك لضعفهم, وكقول كعب بن سعيد العنوي شعراً:
حليم إذا ما الحلم زين أهله مع الحلم في عين العدو مهيب
فإنه لو اقتصر على وصفه بالحلم ربما توهم ذلك لضعفه.
[قطع النخيل]
وأما قوله تعالى :{ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله } فمعناها الإباحة فقط, لأنه سَوَّى سبحانه بين القطع والترك, وأباح ذلك لكلٍّ من الفريقين, ولا يجوز مثل ذلك من المذهبين, فطلاق البدعة لا يجوز للناصر عليه السلام العمل به, ولا للهادي عليه السلام اطراحه[3], فليتأمل ذلك والله أعلم, وذلك لا يدل على تصويب المجتهدين عند الاختلاف لا بالمطابقة, ولا بالتضمن, ولا بالالتزام, ولا بالقياس, لانتفاء الجامع.
______________
[3] لأن الناصر عليه السلام يقول أن طلاق البدعة لا يقع, والهادي عليه السلام يقول إن طلاق البدعة يقع.(1/19)
فإن قيل: كان سبب نزولها وقوع الاختلاف في ذلك. قلت وبالله التوفيق: قد ذكر بعض المفسرين أن سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بالقطع, فقيل له كيف نفعل وقد نهانا الله عن الفساد في الأرض, فنزلت مؤذنة بالإباحة, فبطل ما قالوا, وإن سُلِّمَ ما قالوا فنزول الآية مُبَيِّن لحكم ما اختلفوا فيه وهو الإباحة في ذلك, فتأمل, والله أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الفصل الثاني في الإرشاد إلى معرفة المحق وتمييزه من المخطئ:
[أدلة الكتاب على وجود طائفة على الحق واستمرارها]
وذلك أنه لما تقرر تحريم التفرق في الدين والاختلاف فيه, علمنا أنّا لا نُعذر فيه باتباع المختلفين فيه, فنظرنا بعد ذلك في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فإذا كتاب الله تعالى ناطق بأن طائفة من الأمة لم تزل على حق, قال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم}(محمد: 17) ,وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}(العنكبوت: 69) ,وقال تعالى: {ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم}(هود: 118-119) ,أي لا يزالون مختلفين في الحق إلا من رحم ربك, فإنهم لا يختلفون فيه {ولذلك خلقهم} أي للاجتماع على العمل بالحق دون الاختلاف فيه.
وقال تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}(فاطر: 33) [4],والمقتصد والسابق بالخيرات على الحق.
________________
[4] روى الحسين بن الحكم الحبري, عن حسن بن حسين العرني, عن يحيى بن مساور, عن أبي خالد الواسطي, عن الإمام زيد بن علي عليه السلام في قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب ......}الآية, قال: الظالم لنفسه المختلط منا بالناس, والمقتصد: العابد, والسابق: الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه. انظر: تفسير الحبري 355, شواهد التنزيل رقم(783).(1/20)