[حكم الله تابع لما أداه نظر المجتهد]
ثم قالوا: ولا حكم لله فيها مُعَيَّن, وإنما مراد الله تابع لما أداه نظر المجتهد؛ لأن نظر المجتهد تابع لمراد الله تعالى. قال بعضهم: بأنه لا يخلو إما أن يريد الله من كُلٍ ما أداه إليه نظره, أو يريد ذلك من بعض دون بعض, أو لا يريده من الكل . الثالث باطل؛ لأنه خلاف الإجماع ، والثاني باطل؛ أيضاً لأنه محاباة, ومن وصف الله بها كفر؛ لأنها لا تجوز عليه, بقي الأول.
[الرأي الثالث: رأي من جوَّز الخلاف مطلقاً]
وقال بعض الناس: بل كُلٌ مصيبٌ في الفروع والأصول, واحتجوا على ذلك بأن قالوا: لا إثم على من طلب الحق.
[مناقشة الآراء]
[مناقشة الرأي الثالث]:
فنظرنا في هذه الثلاثة الأقوال؛ فإذا الثالث منها ساقط لمصادمته النصوص.
[عدم الإثم لا يدل على التصويب]
وأما قولهم: لا إثم على من طلب الحق. فعدم الإثم لا يدل على التصويب للمختلفين؛ لأنه قد ينتفي عن المخطئ والساهي عن الصواب، لقوله تعالى: { وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به}(الأحزاب 5 ) . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (( رفع عن أمتي الخطأ والنسيان )) ،( الخبر ، لأن الطلب غير المطلوب ، وليس كل طالب شيء لا يخطئه ) وذلك بحمد الله واضح.
[مناقشة الرأي الثاني]:
ثم نظرنا في الباقيين، فإذا الثاني منهما ساقط أيضاً؛(1/6)
[نقد الحجة الأولى]
[نفي قول الصحابة بالتصويب]
لأنّا نظرنا فيما ادعاه أهل هذا القول من إجماع الصحابة على القول بالتصويب في مسائل الفروع الظنية؛ فإذا هو لم ينقل عن أحد القول به قبل البصرية.
[وقوع الاختلاف بين الصحابة لا يدل على التصويب]
وأما وقوع الاختلاف بين الصحابة فلا يدل على أنهم يقولون بالتصويب؛ لأن الأفعال لا دلالة لها على المعاني المترجم عنها بالقول، كخرق الخضر عليه السلام للسفينة، فإن موسى عليه السلام لم يفهم بمجرده ما الغرض منه. بلى قد يكون ما يعتاد لأمر قرينة على تحصيله لذلك الأمر، كالأكل والشرب فإن كل واحد منهما قرينة على تحصيله للحاجة المخصوصة من الجوع أو الشهوة أو العطش. فوقوع الخلاف بينهم قرينة على تخطئة كل لصاحبه؛ لأن العاقل - في مجرى العادة - لا يخالف صاحبه فيما اتفقا على طلبه، إلا لأنه أنكره وادعى خطأه, وإلا لوافقه لارتفاع المانع.
[نفي دعوى عدم النكير من بعضهم]
وأما دعوى عدم النكير من بعضهم على بعض؛ فباطلة، لأنه نقل بالأخبار المتواترة وقوع النزاع بينهم في ذلك، ومن عادات العقلاء أنه لا يقع بينهم نزاع إلا فيما ينكره بعضهم على بعض.
[النكير من علي على الصحابة]
وأيضاً قد وقع التصريح بالنكير من علي عليه السلام في كثير من المسائل، قال العلماء: ورجع عمر إليه في ثلاث وعشرين مسألة.(1/7)
[النكير من الإمام علي في قضية المرأة التي أسقطت خوفاً من عمر]
وصرح أيضاً بالتخطئة في مشهد من الصحابة في قضية المرأة التي استحضرها عمر فأسقطت خوفاً منه، فاستشارهم عمر؛ فقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: إنما أنت مؤدب لا نرى عليك شيئاً .فقال علي كرم الله وجهه في الجنة: إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأا، وإن لم يجتهدا فقد غشاك. وفي رواية أن القائل بذلك عبد الرحمن بن عوف وحده . فقال علي عليه السلام : إن كان قد اجتهد فقد أخطأ وإن لم يجتهد فقد غشك . وفي رواية أخرى: فاستشار عمر جماعة الصحابة فقالوا: لا شيء عليك لأنك مؤدب. فقال علي عليه السلام: إن كانوا قد جهلوا فقد أخطئوا، وإن كانوا عرفوا فقد غشوك. ولم ينازعه أحد منهم في التخطئة, ولو كان القول بالتصويب مذهباً لبعضهم لنازعه فيها، كما كانوا ينازعونه في كثير من المسائل، لما كان مذهبهم فيها خلاف مذهبه.
[الخلاف حول علة النكير من الإمام]
لا يقال: أنهم قصروا في الاجتهاد، فنكيره عليه السلام إنما وقع لأجل التقصير؛ لأنا نقول وبالله التوفيق:(1/8)
[حقيقة الاجتهاد]
حقيقة الاجتهاد عند البصرية ومن وافقها: بذل الوسع في تحصيل الظن بحكم فرعي عند أكثرهم مطلقاً، وعند أقلهم: لا من قبل النصوص والظواهر. وعلي عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد في الروايتين وحكم بأنه خطأ، وفي قولهم: إنما أنت مؤدب. دلالة على دعوى حصول الاجتهاد منهم حيث عللوا بذلك، ولم يقولوه خبطا، فشك علي عليه السلام فيها، فقسَّم قولهم فيها إلى: الخطأ، والغش في روايتين، وإلى: الجهل والغش في أخرى، لئن المخطئ جاهل فيما أخطأ فيه إجماعا، فلما ثبت أنه عليه السلام قد صرح بلفظ الاجتهاد، وثبتت الدلالة على دعوى الاجتهاد منهم؛ وجب أن يُحمل اللفظ على حقيقته المعروفة بين أهل الشرع؛ لاقتضاء المقام ذلك ضرورة، ولا مقتضى للعدول عنها، ولأن التقصير في استنباط الأحكام الشرعية عن أدلتها وأماراتها لا يسمى اجتهاداً في عرف أهل الشرع إجماعاً.(1/9)
[استنكار الخلاف من علي]
وروي عنه عليه السلام في (نهج البلاغة) أنه قال: (ترد أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه, ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله, ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم, فيصوب أراءهم جميعا, وإلههم واحد, ونبيئهم واحد, وكتابهم واحد, أفأمرهم الله-سبحانه-بالاختلاف فأطاعوه؟! أو نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟! أم كانوا شركاء له, فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله ديناً تاماً فَقَصَّر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن تبليغه وأدائه؟! والله سبحانه يقول: { ما فرطنا في الكتاب من شيء }(الأنعام: 38) .وقال:{تبيانا لكل شيء}(النحل: 38) ,وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا,ً وأنه لا اختلاف فيه, فقال سبحانه: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا }(النساء: 82) ,وإن القرآن ظاهره أنيق, وباطنه عميق, لا تفنى عجائبه, ولا تنقضي غرائبه, ولا تُكشف الظلمات إلا به) . قلت وبالله التوفيق: ولعل هذا جرى مجرى اقتصاص الملاحم, لأنه لم يرو عن أحد من الصحابة القول بالتصويب.وقال عليه السلام في خطبة: ( فيا عجباً وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها ).(1/10)