الفصل السادس في الإرشاد إلى حكم ما يحصله المقلدون تفريعاً على نصوص المجتهدين:
وهو قسمان:
الأول: ما يحصلونه بالقياس على النصوص وهو باطل لأن نصوص المجتهدين:
منها: ما قد رجع عنه فيكون القياس باطلاً لبطلان أصله المقيس هو عليه.
ومنها: ما هو مأخوذ عن دليل خاص لذلك النص, ولغيره-مما قاسوه عليه-عند الله-في محكم كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم-حكم آخر غير حكم المقيس عليه.
وقد علمنا من قواعدهم أنهم لا يبحثون عن ذلك, كما حكى الإمام المهدي عليه السلام عنهم:
أنه لا يلزم المقلد بعد وجوده النص الصريح والعموم الشامل من أقوال المجتهدين, طلب الناسخ- وهو القول الذي رجع إليه المجتهد-ولا طلب المخصص لما ورد من نصوصه بصيغة العموم,ولا معرفة أن المجتهد يقول بتخصص العلة التي جمع فيها هذا المقلد بين الأصل والفرع, أو يمنع من ذلك .
الثاني: ما حصلوه بمفهوم المخالفة:(1/54)
[بطلان العمل بمفهوم الصفة]
وهو باطل أيضاً؛ لأن منها ما لا يفيد ذلك كالصفة؛لأنه يجوز أن يقول: زيد العالم في الدار. مع أن زيداً الجاهل فيها أيضاً ويسكت عنه.
وأيضاً لو كان ما زعموا صحيحاً لكان من قال: النبي الأمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم, كافراً؛ لأنه يفهم منه-على زعمهم-أنه من لم يتصف بالأمي من سائر رسل الله صلوات الله عليهم فليس برسول الله، وذلك معلوم البطلان.
لا يقال إنما ترك العمل بالمفهوم في ذلك لما هو أقوى منه, وهو ما علم من الدين ضرورة، لأنا نقول وبالله التوفيق:
إن الدلالة لا تخلو عن موضعها، وذلك معلوم باستقراء لغة العرب. ألا ترى أن الحقيقة موضع دلالة على ما وضعت له, والمجاز موضع دلالة ما استعمل له؟
ونحو قوله تعالى: { ولا تقل لهما أف }(الإسراء: 23) موضع دلالة على الأصل والفحوى، ولا يجوز أن تتخلف دلالتها عنهما.
فلو كان ذلك موضع دلالة على ذلك لم يجز النطق به, لأنه يؤدي إلى خلاف ما علم من الدين ضرورة.
ولا يرد النسخ المنصوص والتخصيص للعموم لأن المنسوخ قد دل على معناه ولم يتخلف عنه، إذ لو لم يدل عليه لم يعرف كونه منسوخاً . والعام المُخصَّص صار بالتخصيص من قبيل المجاز, وقرينته ما خصص به كما هو مقرر في مواضعه . والمجاز لم تختلف دلالته عنه كما ذكرنا الآن فتأمل.(1/55)
وكذلك مفهوم العدد إذا لم يكن جواباً لِكَمْ؛ لأنك تقول لمن تراه يطعم المساكين أطعم هؤلاء الثلاثة ولا يفهم منه منع الإطعام عمن سواهم,ويصح أن تقول: في عشرين وسقاً مما أنبتت الأرض العُشُر. ويصح أن يفتي بذلك المفتون، لاسيما إذا قال السائل: حصل لي من مزرعتي عشرون وسقاً في سنتي هذه, فما يجب علي في ذلك؟ وأجاب المفتي فقال: العشر.
فكيف يصح التخريج من ذلك وأشباهه مع مصادمته للنصوص والإجماع؟
وأما احتجاجهم على ذلك بنحو قوله تعالى: { فاجلدوهم ثمانين جلدة }(النور: 4) فإنه يفهم منه تحريم الزائد على الثمانين, فباطل؛ لأن التحريم في الزائد ليس بمستفاد من العدد, وإنما هو مستفاد من الحظر العقلي؛ لأن الأصل في قضية العقل تحريم الضرب.
[مفهوم الغاية]
ومنها ما يدل على أن حكم المفهوم كحكم المنطوق، وذلك في الغاية؛لأنها قد تكون بمعنى مع. قال تعالى: { ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم }(النساء: 2) أي مع أموالكم . وهم لا يبحثون عن مقاصد المجتهدين في ذلك.(1/56)
[التسبيب الموجب للاشتراك]
ومنها ما وقع للتسبيب الموجب للاشتراك في الحكم، كقول المفتي: إن لم يكن زيداً أُكره على شرب الخمر ولا اضطرته إليه ضرورة جلد الحد ثمانين. فكيف يصح أن يقال: إن من عداه بخلافه, والشرط مفيد للتسبيب الموجب للاشتراك؟ وكيف يعد ذلك من مفهوم الشرط, وهو في حقيقة الأمر من مفهوم اللقب؟ حيث قيل: إن من عداه بخلافه، وليس ذلك من مفهوم الشرط في شيء لأن المفهوم من الشرط أن زيداً إذا أكره على شرب الخمر أو اضطرته إليه ضرورة كخوف التلف من العطش لم يُحَدّ في نفسه.
لا يقال: إن مقصودهم بمفهوم الشرطِ ما ذكرتَ آخراً لا ما ذكرتَ أولاً؛ لأنا نقول: إنما يعدون مفهوم الشرط ما ذكرتُ أولاً كما هو مذكور في (شرح ابن مفتاح على الأزهار)، حيث عبر عن مفهوم الشرط واحتج له بقوله تعالى: { وإن كن أولات حمل ... الآية }(الطلاق: 6) ,وقال ما معناه: ( فإنه يفهم من ذلك أن من عداهن بخلافهن ). ولم يقل بأنه يفهم من ذلك أنهن إن لم يكن أولات حمل فحكمهن بخلاف ذلك ، فتأمل.(1/57)
[بطلان العمل بالدليل قبل البحث عن الناسخ والمخصص]
وأيضاً لا خلاف بين العترة عليهم السلام أن المجتهد إذا استنبط حكماً من كتاب الله سبحانه, وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبحث عن الناسخ والمخصص, ولم يتثبت في معاني الألفاظ, ومواضع استعمالها أن ذلك الحكم باطل, فإذا كان ذلك كذلك في استنباط المجتهد من كلام من لا يجوز عليه الغفلة ولا الغلط, فكيف بالمقلد في استنباطه من كلام من ليس بمعصوم عن الغفلة ولا الغلط ؟ وهل ذلك إلا محض تحكم ؟
وأيضاً الفتوى بالأحكام الشرعية قول عن الله إجماعاً؛ لأنه إنما يُسأل المفتي عما يثبت من الأحكام عن الله سبحانه, ولا يثبت شيء من الأحكام الشرعية بعد انقطاع الوحي إلا في كتابه تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بالنص و القياس, والمقلِّد إذا أفتى بشيء فرَّعه على نصوص المجتهد لا يعلم أصولها من الكتاب والسنة, لاسيما مع ما قد تقدم من قاعدتهم في ذلك، فمن أفتى بذلك فقد قال على الله بما لا يعلم, وقد قال تعالى: { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }(البقرة: 168-169) ,وقال تعالى: { قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن ... } إلى قوله: { ... وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون }(الأعراف: 33).
[أقوال العلماء في التخاريج]
ولم أطلع على حجة لهم على ذلك سوى دعوى الإجماع في الأعصار المتأخرة، وهي دعوى باطلة؛ لأنه لم يزل العلماء ينكرون ذلك.(1/58)