وقد علمنا أن من كان كذلك لا يستطيع الترجيح بالعرض على الكتاب والسنة مع علمه أنه لا يُعْذَر عن تجنب الجميع؛ لأنه لا إثم عليه لو فعل أيهما, وإن الجمع بين الأمرين بدعة إجماعا,ً إذ لم يشرع إلا أحدهما؛ لاتفاقهم على ذلك على سبيل الجملة والله أعلم.
[العمل في النوع الثاني من القسم الثاني]
وفي النوع الثاني الوقف، وهو ما اختلف في تعيين المحظور منه مع الاتفاق على أن تجنب الجميع مباح كالعمل بما اقتضاه الطلاق المختلف فيه وعدمه؛ لأن من قال بوقوعه قال :المحظور إمساكها، ومن قال بعدم وقوعه, قال :المحظور إباحة تزويج الغير لها وإسقاط حقوقها.
[أدلة وجوب الوقف في النوع الثاني]
وقد حرم الله التفرق في الدين كما تقدم.
وقال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم ... الآية }.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: (( وأمر اشتبه عليكم فَكِلوه إلى الله )) كما تقدم, وغير ذلك.
فعلى هذا لا يجوز العمل بالطلاق المختلف فيه, ولا إهماله واعتقاد بطلانه, حتى يبحث عن ذلك بسؤال من أمر الله بسؤاله, في قوله تعالى: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر }, حتى يردوه إلى آيةٍ ناطقة بأحد القولين, أو سنةٍ مجمع عليها, أو موافقة لكتاب الله تعالى.
وجميع هذا مقتضى مذهب من يقول :أن الحق مع واحد, وإن مخالفه مخطٍ, من قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم ، يظهر ذلك بالتأمل.(1/49)


[القول بأن تقليد الواحد جائز مع الاختلاف]
وقال بعض متأخري العترة عليهم السلام ومن وافقهم بجواز تقليد الواحد مع الاختلاف، ونفوا وجوب العرض على المقلد الذي يمكنه العرض على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك نفوا وجوب العمل بالمجمع عليه والتخيير والوقف كما ذكرنا في هذا الفصل.
[أدلة القائلين به]
قالوا: لأن العوام كانوا يأخذون من أفراد الصحابة مع الاختلاف بينهم من غير نكير وذلك إجماع.
وقالوا: قد روي أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )) وذلك دليل على جواز تقليد الواحد ولو مع الاختلاف إذ لم يفصل الدليل.
[الجواب عليهم]
وجميع ذلك باطل. أما حكاية إجماع الصحابة فالمشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام تخطئة من لم يتبعه, قال عليه السلام في بعض خطبه: ( قد خاضوا بحار الفتن, وأخذوا بالبدع دون السنن, وأرَزَ المؤمنون, ونطق الضالون المكذبون, نحن الشَّعار والأصحاب, والخزنة والأبواب, ولا تؤتى البيوت إلا من أبوبها, فمن أتاها من غير بابها يسمى سارقاً ) وكفى بذلك نكيراً. وقدماء العترة عليهم السلام مجمعون على ذلك عنه, وكذا جُلُّ متأخريهم عليهم السلام, حيث قالوا :إن قوله عليه السلام حجة، فأين الإجماع؟(1/50)


وأما الخبر إن سلمنا صحته على التَّنَزُّل, فقد حكى الإمام يحيى عليه السلام الإجماع على تحريم تقليد الصحابة, فلا حجة فيه على جواز تقليد واحد منهم، وإنما يصير معناه: بأيهم اقتديتم-فيما أوضحوا طريقه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم-اهتديتم.
وإن سلمنا عدم صحة ما حكاه الإمام يحيى عليه السلام, فالخبر آحادي والقول بجواز التقليد وعدمه أصل كبير من الأصول لا يثبت بخبر الآحاد عند العترة عليهم السلام, لاسيما وقد ثبت أن الحق واحد وأن مخالفه مخطٍ.
وأيضاً فإنه لا خلاف بين العترة عليهم السلام أنه يجب التحري في أخذ الحكم عن طرقه الشرعية ، ولا يعمل بعام حتى يبحث عن الخاص ، ولا بنص حتى يبحث عن ناسخه ونحو ذلك, فكيف لا يجب التحري في أخذه عن أقوال الذين يقع منهم السهو والغلط ؟ وهل ذلك إلا تحكم؟(1/51)


الفصل الخامس في الإرشاد إلى حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام الخارجين بأقوالهم عن موافقة المجتهدين منهم ، وحكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين:
[حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام غير الموافقة للمجتهدين منهم]
أما حكم أقوال المخالفين للعترة عليهم السلام غير الموافقة للمجتهدين؛ فجميع ما تقدم ذكره من: آية التطهير, وآية المودة, وإني تارك فيكم, وخبر السفينة, والإشارة إليه من غير ذلك ناطق ببطلانها ، فإن صدر ذلك عن علم من المخالف فسق؛ لقوله تعالى: { ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا }(النساء: 115) ,وتلك الأدلة قاضية بأنهم عليهم السلام وأتباعهم هم المؤمنون دون من سواهم.
[حكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين]
وأما حكم أقوال الفاسقين من المجاهرين والمتأولين فباطل أيضا؛ً لقوله تعالى: { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحيوة الدنيا والآخرة ويضل الله الظالمين }(إبراهيم: 27) ,أي: يخذلهم فلا يهتدون, ويحكم بضلالهم ، ومن خذله الله وحكم بضلاله فلا شك ببطلان قوله.
ولقوله تعالى: { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم ... الآية }(الأنعام: 121) ,أي: يوسوسون لهم بالباطل, ليجادلوكم به, وذلك نص على بطلان أقوالهم أيضاً.
ولقوله تعالى: { ومن يعْشُ عن ذكر الرحمن نقيِّض له شيطاناً فهو له قرين وإنهم ليصدونهم عن السبيل ... الآية }(الزخرف: 36-37) ,وذلك نص في بطلان أقوالهم أيضا,ً لأنه لا يفسق إلا من عشى عن قوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا } لمخالفته لذلك.(1/52)


ولقوله تعالى: { وما كنت متخذ المضلين عضدا }(الكهف: 51) ,وهم يضلون بدعائهم إلى أقاويلهم الباطلة كما حكم الله تعالى ، فكيف يؤخذ بأقوالهم ولم يتخذهم الله عضدا لتبيين الحق؟
[القول بصحة أقوال مخالفي أهل البيت والفساق]
وقد قيل: إن أقوالهم صحيحة, ولعل أهل هذا القول يحتجون لذلك بما احتج به بعضهم على صحة تأويل كل الفرق لمتشابه الكتاب العزيز, حيث قال: لا يخلوا إما أن يكون الطريق إلى ذلك: العقل, أو الشرع, أو اللغة، وهم مشاركون في ذلك, بل لا يبعد أن تكون معرفتهم باللغة أوكد من الأئمة عليهم السلام لفراغهم.
والجواب والله الموفق: لا يخلوا هذا الاحتجاج من غلط أو تعام ليُموِّه به على الجهال الذين لا يعرفون؛ لأن الطريق إلى معرفة الأحكام وتأويل المتشابه هو ذلك مع انضمام تثبيت الله وعصمته من وساوس إبليس لعنه الله تعالى وإضلاله وصده عن السبيل, كما في الآيات المتقدم ذكرها، وكما في قوله تعالى: { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم }(البقرة: 213) وليس كذلك من كان إبليس لعنه الله قرينه, يملي عليه بوساوسه الأباطيل ويحمله على التعسف في التأويل, حتى يرد الحجج إلى أرائه ويزين له قبيح قوله وفعاله.
مع أن ذلك رد لتلك النصوص, وإبطال لفائدتها, وهي خطاب حكيم, ورَدُّ خطاب الحكيم وإبطال فائدته باطل عقلا وشرعاً. وأيضا أهل الزيغ يشاركون في ذلك, وقد أخبر الله تعالى أن تأوليهم للمتشابه غير صحيح, فقال تعالى: { وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم ... الآية }(آل عمران: 7) فلو كان مجرد المشاركة في ذلك تقضي بصحة التأويل لم يخبر الله تعالى بخلافه, لأنه لا يقول إلا الحق, فكذلك في استنباط الأحكام إذ لا فرق.
(1/53)

11 / 14
ع
En
A+
A-