قال تعالى: { فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب }(الزمر: 17-18) ,والعقل يقضي ضرورة بأن قولهم الدال على تيقن عدم المعصية لله تعالى ـ كترك الدخول في بيع الرجاء, وترك أكل الشطا ـ أحسن مما اختلفوا في كونه معصية إذ لا يأمن المكلف أن يكون بذلك عاصياً لربه.
وقد بشر الله تعالى في الآية الكريمة التابعين للأحسن, وحكم لهم بالهدى وبأنهم أولوا الألباب, ونفى ذلك عن الآخذين بغير الأحسن في مفهوم الحصر في هذه الآية, لأن الألف واللام في (الذين) في قوله تعالى :{ أولئك الذين هداهم الله} للاستغراق, بدليل أنها متناولة لمن ذكرنا, ولمن عمل بموافق الكتاب والسنة من المميزين والمجتهدين, ومن وافقوهم من الأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم وسلامه.
فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم أجمعين تابعون للأحسن, وهو :ما يوحى إليهم, وتاركون لغير الأحسن, وهو :ما يسمعونه من خلاف ذلك من الجهال والكفار وسائر أهل المعاصي.
ولأن ذلك مثل ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه قيل له: صف لنا العاقل، فقال عليه السلام: (هو الذي يضع الشيء مواضعه). قيل :فصف لنا الجاهل، قال :(قد فعلت). قلت وبالله التوفيق :وذلك لأن الألف واللام من قوله عليه السلام :(هو الذي يضع الشيء مواضعه) للاستغراق.(1/44)


[أدلة الكتاب على وجوب العمل بالمتفق فيه]
وقال تعالى: { ولا تقف ما ليس لك به علم ... الآية }(الإسراء: 36) وهذا نص صريح على تحريم اتباع المختلف فيه, على من لم يتمكن من رده إلى الكتاب والسنة؛ ولأنه ليس له به علم, والآية عامة للمكلفين؛ لأن الخطاب موجه إلى المكلف الذي يراد به كل فرد, بدليل قوله تعالى في أول الكلام: { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر }(الإسراء: 23) ,ولم يقل (عندكم) لما كان يفيد ما ذكرنا ، وأُجْرِيَ قوله تعالى :{ ولا تقف ما ليس لك به علم } هذا المجرى.
[أدلة السنة على وجوب العمل بالمتفق فيه]
وقال صلى الله عليه وآله وسلم فيما بلغنا عنه: (( الحلال بَيِّن, والحرام بَيِّن, وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس, فمن اتقى الشبهات استبرأ دينه وعِرْضَه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام )).
وبلغنا بالإسناد الموثوق به إلى الناصر الحسن بن علي بن الحسن, عن أخيه الحسين, عن أبيه علي بن الحسن, عن علي بن جعفر, عن أبيه جعفر, عن أبيه محمد عليهم السلام جميعاً يرفعه قال: (( الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة )).
قلت وبالله التوفيق :وفي هذا دلالة على تحريم العمل بالمختلف فيه؛ لأنه شبهة, حيث قال به بعضهم, ونفاه بعضهم، وفي الخبر تصريح أن الاقتحام في الشبهة اقتحام في الهلكة, حيث قال: (والوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة)، إذ لا هلكة إلا في ارتكاب الحرام.(1/45)


وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( دع ما يريبك إلا ما لا يريبك )). وهذا أمر بالترك لما يريب, والمجاوزة إلى ما لا يريب ، والمختلف فيه مريب, لقوله تعالى: { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ...الآية }(آل عمران: 105) وغيرها؛ لما تقدم، وغير المختلف فيه غير مريب؛ لقوله تعالى: { أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه }الشورى: 13) وغيرها.
وبلغنا عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال ما لفظه أو معناه: (( أمر استبان رشده فاتبعوه, وأمر استبان غيه فاجتنبوه, وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى الله )).
وروي عن النعمان بن بشير أنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (( الحلال بيِّن والحرام بيِّن, وبين ذلك أمور مشتبهات, وسأضرب لكم في ذلك مثلا :إن الله حمى وإن حما الله حرام, وإن من يرعَ حول الحما يوشك أن يخالط الحمى )).
وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( من دار حول الحما يوشك أن يقع فيه )), إلى غير ذلك مما يؤدي هذا المعنى, حتى تواتر معنىً وأفاد العلم قطعاً، والاحتجاج بها على نحو ما مر.
[أقوال قدماء العترة في تحريم العمل بالمختلف فيه]
وعلى ما ذكرته في هذا جرى مذهب قدماء العترة عليهم السلام ومن وافقهم من المتأخرين.
قال [الإمام علي ] عليه السلام في كلام له: ( أيها الناس من سلك الطريق الواضح ورد الماء, ومن خالف وقع في التيه ).(1/46)


وقال عليه السلام في وصية لابنه الحسن عليه السلام: ( دع القول فيما لا تعرف, والخطاب فيما لم تُكَلَّف, وامسك عن طريق إذا خفت ضلالته, فإن الكف عند حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال ).
وقال عليه السلام: ( ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم ... ) إلى أن قال: ( واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله, والأخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك, والصالحون من أهل بيتك, فإنهم لم يدعوا أن نظروا لأنفسهم كما أنت ناظر, وفكروا كما أنت مفكر, ثم ردهم آخر ذلك إلى الأخذ بما عرفوا, والإمساك عمَّا لم يكلفوا ). وقال عليه السلام فيها: ( ولا تقل ما لم تعلم وإن قل ما تعلم ).
وروى محمد بن الهادي, عن الباقر عليه السلام, أن رجلاً سأله فقال: دلني على أمر إذا عملت به نجوت عند الله, وإن سُئِلْتُ غداً قُلتُ :أنت هديتنيه ، فقال: (اعمل ما أجمع عليه المختلفون).
وكذا في (مصباح الشريعة) عن ولده جعفر الصادق عليه السلام.وكذلك في (المسائل) عن القاسم أنه سئل عن الاختلاف الذي بين أهل البيت عليهم السلام, فقال :(يؤخذ بما أجمعوا عليه فلم يختلفوا فيه. كما تقدم, وكذلك سائر القدماء منهم عليهم السلام, ومن وافقهم من المتأخرين عليهم السلام, لأنهم يقولون بتحريم الأخذ بالأخف, بعد قولهم بوجوب اتباع جماعة العترة جملة كما تقدم مفصلاً.(1/47)


وقال المنصور بالله عليه السلام: (تتبع الرُّخَص زندقة).
وقال في (الفصول) :( والأحوط الأخذ بما أُجمع عليه, وتحريم الأخذ بالأخف, اتباعاً للهوى, إجماعاً ).
[القسم الثاني وهو نوعان]
[كيفية العمل في المختلف فيه والمنع من تقليد الآحاد]
[حكم العمل في القسم الثاني:النوع الأول وهو ما اختلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه]
ثم نظرنا في الكتاب والسنة, ما حكم القسم الثاني؟
فإذا هما قاضيان في النوع الأول منه بالتخيير، وهو:
ما اختُلف في تعيين المشروع منه بعد العلم بوجوبه كالأذان مثلاً، أو[بالعلم ب ] أنه لا حرج على فاعل أيهما, كالحمد والتسبيح في غير الركعتين الأولتين في الثلاثيَّة والرباعية من الصلاة.
و اختلف في تعيين المحظور منه بعد الاتفاق على أن الواجب-الذي لا عذر في تركه ولا رخصة-لا يخلو منهما على الجملة,كالتوضي بالماء المستعمل, والتيمم, فإن بعضهم يقول: التيمم حرامٌ مع وجود الماء، وبعضهم يقول: بل الحرام التوضي بهذا الماء لأن الصلاة لا تجزي به.
[أدلة التخيير في النوع الأول]
وقال تعالى: { لا يكلف الله نفساً إلا وسعها }(البقرة: 286) ,وقال تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }(التغابن: 16).
ورُوي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (( إذا أُمرتم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )).(1/48)

10 / 14
ع
En
A+
A-