حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي، قال: حدثنا حسين بن نصر بن مزاحم، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا عمر بن سعد، عن أبي مخنف لوط بن يحيى الأزدي، وحدثني أيضاً أحمد بن محمد بن شبيب المعروف بأبي بكر بن شيبة، قال: حدثنا أحمد بن الحرث الخزاز، قال: حدثنا علي بن محمد المدائني، عن أبي مخنف، عن عوانة، وابن جعدية، وغيرهم؛ وحدثني أحمد بن الجعد قال: حدثنا علي بن موسى الطوسي، قال: حدثنا أحمد بن جناب، قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد بن عبد الله القشيري، قال: حدثنا عمار الذهني، عن أبي جعفر محمد بن علي؛ كل واحد ممن ذكرت يأتي بالشيء يوافق فيه صاحبه، أو يخالفه، ويزيد عليه شيئاً أو ينقص منه، وقد ثبت ذلك برواياتهم منسوباً إليهم. قال المدائني؛ عن هرون بن عيسى، عن يونس بن أبي إسحاق، قال: لما بلغ أهل الكوفة نزول الحسين مكة، وأنه لم يبايع ليزيد وفد إليه وفد منهم عليهم أبو عبد الله الجدلي، وكتب إليه شبث بن ربعي، وسليمان بن صرد، والمسيب بن نجية، ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته، وخلع يزيد، فقال لهم: أبعث معكم أخي وابن عمي فإذا أخذ لي بيعتي، وأتاني عنهم بمثل ما كتبوا به إلي قدمت عليهم.
ودعى مسلم بن عقيل فقال: اشخص إلى الكوفة، فإن رأيت منهم اجتماعاً على ما كتبوا، ورأيته أمراً ترى الخروج معه، فاكتب إلي برأيك. فقدم مسلم الكوفة، وأتته الشيعة، فأخذ بيعتهم للحسين.
قال عمر بن سعد: عن أبي مخنف، فحدثني المصقعب بن زهير، عن أبي عثمان: أن ابن زياد أقبل من البصرة ومعه مسلم بن عمر الباهلي والمنذر بن عمرو بن الجارود، وشريك بن الأعور، وحشمه وأهله، حتى دخلوا الكوفة، وعليه عمامة سوداء، وهو متلثم، والناس ينتظرون قدوم الحسين عليهم، فأخذ لا يمر على جماعة من الناس إلا سلموا عليه، وقالوا: مرحباً بك يا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدمت خير مقدم، ورأى من الناس من تباشرهم بالحسين ما ساءه، فأقبل حتى دخل القصر.
وقال عمرو عن أبي مخنف، عن المعلى بن كليب، عن أبي الوداك، قال: لما نزل ابن زياد القصر نودي في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع إليه الناس، فخرج إلينا فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإن أمير المؤمنين - أصلحه الله - ولاني مصركم وثغركم وفيئكم، وأمرني بإنصاف مظلومكم، وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم، وبالشدة على مريبكم، فأنا لمطيعكم كالوالد البر الشفيق، وسيفي وسوطي على من ترك أمري، وخالف عهدي، فليبق امرؤ على نفسه، الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
ثم نزل. وسمع مسلم بن عقيل بمجيء عبيد الله بن زياد ومقالته؛ فأقبل حتى أتى دار هانئ بن عروة المرادي، فدخل في بابه، فأرسل إليه أن اخرج إلي، فقال: إني أتيتك لتجيرني وتضيفني، قال له: رحمك الله لقد كلفتني شططاً، لولا دخولك داري وثقتك بي أحببت لشأنك أن تنصرف عني، غير أني أخذني من ذلك ذمام. ادخل، فدخل داره، فأقبلت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ بن عروة.(1/26)
وجاء شريك بن الأعور حتى نزل على هانئ في داره، وكان شيعياً، ودعا ابن زياد مولى له يقال معقل، فقال له: خذ هذه الثلاثة الآلاف الدرهم ثم التمس لنا مسلم بن عقيل، واطلب شيعته، وأعطهم الثلاثة الآلاف الدرهم، وقل لهم: استعينوا بهذه على حرب عدوكم، وأعلمهم بأنك منهم؛ ففعل ذلك، وجاء حتى لقي مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم، وسمع الناس يقولون: هذا يبايع للحسين بن علي وكان يصلي، فلما قضى صلاته جلس إليه فقال له: يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام مولى لذي الكلاع، أنعم الله علي بحب أهل البيت وحب من أحبهم، وهذه ثلاثة آلاف درهم معي أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت أحب لقاءه لأعرف مكانه، فسمعت نفراً من المسلمين يقولون: هذا رجل له علم بأمر أهل البيت، وإني أتيتك لتقبض مني هذا المال، وتدلني على صاحبي فأبايعه فقال له: أحمد الله على لقائك فقد سرني حبك إياهم وبنصرة الله إياك حق أهل بيت نبيه صلى الله عليه وسلم، ولقد ساءني معرفة الناس إياي بهذا الأمر قبل أن يتم مخافة سطوة هذا الطاغية الجبار أن يأخذ البيعة قبل أن يبرح، وأخذ عليه المواثيق الغليظة ليناصحن وليكتمن، فأعطاه من ذلك ما رضى به، ثم قال له: اختلف إليأياماً في منزلي، فأنا أطلب لك الأذن على صاحبك وأخذ يختلف مع الناس يطلب ذلك إليه.
ومرض شريك بن الأعور، وكان كريماً على ابن زياد، وكان شديد التشيع فأرسل إليه عبيد الله إني رائح إليك العشية فعائدك. فقال شريك لمسلم: إن هذا الفاجر عائدي العشية، فإذا جلس فاقتله، ثم اقعد في القصر، وليس أحد يحول بينك وبينه، فإن أنا برأت من وجعي من أيامي هذه سرت إلى البصرة وكفيتك أمرها فلما كان العشي أقبل ابن زياد لعيادة شريك بن الأعور، فقال لمسلم: لا يفوتنك الرجل إذا جلس، فقام إليه هانئ فقال: إني لا أحب أن يقتل في داري كأنه استقبح ذلك، فجاءه عبيد الله بن زياد فدخل وجلس وسأل شريكاً: ما الذي تجد ومتى اشتكيت؟ فلما طال سؤاله إياه، ورأى أن أحداً لا يخرج، خشي أن يفوته. فأقبل يقول:
ما الانتظار بسلمى أن تحيوها ... حيوا سليمى وحيوا من يحييها
كأس المنية بالتعجيل فاسقوها
لله أبوك! إسقنيها وإن كانت فيها نفسي. قال ذلك مرتين أو ثلاثة؛ فقال عبيد الله - وهو لا يفطن - : ما شأنه، أترونه يهجر؟ فقال له هانئ: نعم - أصلحك الله - ما زال هكذا قبل غيابة الشمس إلى ساعتك هذه.
ثم قام وانصرف. فخرج مسلم فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ فقال: خصلتان، أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن " ؛ فقال له شريك: أما والله لو قتلته لقتلت فاسقاً فاجراً، كافراً غادراً.
قال: فأقبل ذلك الرجل الذي وجهه عبيد الله بالمال يختلف إليهم، فهو أول داخل وآخر خارج يسمع أخبارهم، ويعلم أسرارهم، وينطلق بها حتى يقرها في أذن ابن زياد.
قال: فقال المدائني، عن أبي مخنف، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن عثمان بن أبي زرعة قال: فقال ابن زياد يوماً: ما يمنع هانئاً منا؟ فلقيه ابن الأشعث، وأسماء بن خارجة فقالا له: ما يمنعك من إتيان الأمير وقد ذكرك؟ قال: فأتاه فقال ابن زياد - لعنه الله - شعراً:
أريد حياته ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
يا هانئ، أسلمت على ابن عقيل؟ قال: ما فعلت، فدعا معقلاً فقال: أتعرف هذا؟ قال: نعم وأصدقك ما علمت به حتى رأيته في داري، وأنا أطلب إليه أن يتحول. قال: لا تفارقني حتى تأتيني به، فأغلظ له، فضرب وجهه بالقضيب وحبسه.
وقال عمر بن سعد: عن أبي مخنف، قال: حدثني الحجاج بن علي الهمداني قال: لما ضرب عبيد الله هانئاً وحبسه، خشي أن يثب الناس به، فخرج فصعد المنبر ومعه أناس من أشراف الناس وشرطه وحشمه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس: اعتصموا بطاعة الله وطاعة أئمتكم، ولا تفرقوا فتختلفوا وتهلكوا وتذلوا، وتخافوا وتخرجوا، فإن أخاك من صدقك، وقد أعذر من أنذر.
فذهب لينزل، فما نزل حتى دخلت النظارة المسجد من قبل التمارين يشتدون، ويقولون: قد جاء ابن عقيل، فدخل عبيد الله القصر وأغلق بابه.(1/27)
وقال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن يزيد، عن عبد الله بن حازم البكري قال: أنا والله رسول ابنعقيل إلى القصر في أثر هانئ لأنظر ما صار إليه أمره، فدخلت فأخبرته الخبر، فأمرني أن أندي في أصحابي، وقد ملأ الدور منهم حواليه، فقال: ناديا منصور أمت فخرجت فناديت، وتبادر أهل الكوفة فاجتمعوا إليه، فعقد لعبد الرحمن بن عزيز الكندي على ربيعة، وقال له: سر أمامي وقدمه في الخيل. وعقد لمسلم بن عوسجة على مذحج وأسد، وقال له: انزل فأنت على الرجالة. وعقد لأبي ثمامة الصائدي على تميم وحمدان. وعقد للعباس بن جعدة الجدلي على أهل المدينة، ثم أقبل نحو القصر.
فلما بلغ عبيد الله إقباله تحرز في القصر، وغلق الأبواب، وأقبل مسلم حتى أحاط بالقصر، فوالله ما لبثنا إلا قليلاً حتى امتلأ المسجد من الناس، والسوق، ما زالوا يتوثبون حتى المساء، فضاق بعبيد الله أمره، ودعا بعبيد الله ابن كثير بن شهاب الحارثي، وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج، فيخذل الناس عن ابن عقيل، ويخوفهم الحرب، وعقوبة السلطان، فأقبل أهل الكوفة يفترون على ابن زياد وأبيه.
قال أبو مخنف: فحدثني سليمان بن أبي راشد، عن عبد الله بن حازم البكري، قال: أشرف علينا الأشراف، وكان أول من تكلم كثير بن شهاب. فقال: أيها الناس، الحقوا بأهاليكم، ولا تعجلوا، انتشروا ولا تعرضوا أنفسكم للقتل، فهذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأمير عهداً لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيتكم هذه أن يحرم ذريتكم العطاء، ويفرق مقاتليكم في مغازي الشام على غير طمع، ويأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى فيكم بقية من أهل المعصية إلا أذاقها وبال ما جنت.
وتكلم الأشراف بنحو من كلام كثير، فلما سمع الناس مقالتهم تفرقوا.
قال أبو مخنف: حدثني المجالد بن سعيد.
أن المرأة كانت تأتي ابنها وأخاها فتقول: انصرف، الناس يكفونك، ويجيء الرجل إلى ابنه وأخيه فيقول: غداً يأتيك أهل الشام فما تصنع بالحرب والشر؟ انصرف، فما زالوا يتفرقون وينصرفون حتى أمسى ابن عقيل وما معه إلا ثلاثون نفساً، حتى صليت المغرب فخرج متوجهاً نحو أبواب كندة، فما بلغ الأبواب إلا ومعه منها عشر، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم إنسان فمضى متلدداً في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب، حتى خرج إلى دور بني بجيلة من كندة، فمضى حتى أتى باب امرأة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث وأعتقها، فتزوج بها أسيد الحضرمي، فولدت له بلالاً، وكان بلال قد خرج مع الناس، وأمه قائمة تنتظر فسلم عليه ابن عقيل، فردت السلام، فقال لها: اسقيني ماء. فدخلت فأخرجت إليه، فشرب، ثم أدخلت الإناء، وخرجت وهو جالس في مكانه، فقالت: ألم تشرب؟ قال: بلى. قالت: فاذهب إلى أهلك فسكت، فأعادت عليه ثلاثاً ثم قالت: سبحان الله يا عبد الله، قم إلى أهلك - عافاك الله - فإنه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك، ثم قام، فقال: يا أمة الله، والله ما لي في هذا المصر من أهل، فهل لك في معروف وأجر لعلي أكافئك به بعد اليوم. قالت: يا عبد الله وما ذاك؟ قال: أنا مسلم بن عقيل، كذبني هؤلاء القوم، وغروني وخذلوني، قالت: أنت مسلم؟ قال: نعم. قالت: ادخل، فأدخلته بيتاً في دارها، وفرشت له، وعرضت عليه العشاء، وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في البيت، فسألها، فقالت: يا بني أله عن هذا، قال: والله لتخبرنني، وألح عليها، فقالت: يا بني، لا تخبريه أحداً من الناس، وأخذت عليه الأيمان، فحلف لها، فأخبرته، فاضطجع وسكت.
فلما طال على ابن زياد، ولم يسمع أصوات أصحاب ابن عقيل قال لأصحابه: اشرفوا فانظروا فأخذوا ينظرون، وأدلوا القناديل وأطنان القصب تشد بالحبال وتدلي وتلهب فيها النار، حتى فعل ذلك بالأظلة التي في المسجد كلها، فلما لم يروا شيئاً أعلموا ابن زياد ففتح باب السدة، وخرج ونادى في الناس: برئت الذمة من رجل صلى العتمة إلا في المسجد، فاجتمع الناس في ساعة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:(1/28)
أما بعد: فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمة الله من رجل وجد في داره، ومن جاء به فله ديته، اتقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً. يا حصين بن تميم ثكلتك أمك إن ضاع شيء من سكك الكوفة أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصدة على أفواه السكك، وأصبح غداً فاستبرء الدور حتى تأتي بهذا الرجل، ثم نزل.
فلما أصبح أذن للناس، فدخلوا عليه، وأقبل محمد بن الأشعث فقال: مرحباً بمن لا يتهم ولا يستغش، وأقعده إلى جنبه.
وأصبح بلال ابن العجوز التي آوت ابن عقيل فغدا إلى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل عند أمه فأقبل عبد الرحمن حتى أتى إلى أبيه وهو جالس، فساره، فقال له ابن زياد: ما قال لك؟ قال: أخبرني أن ابن عقيل في دار من دورنا، فنخسه ابن زياد بالقضيب في جنبه ثم قال: قم فأتني به الساعة.
قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد بن زائدة الثقفي. أن ابن زياد بعث مع ابن الأشعث ستين أو سبعين رجلاً كلهم من قيس، عليهم عمرو بن عبيد الله بن العباس السلمي حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل، فلما سمع وقع حوافر الخيل وأصوات الرجال، عرف أنه قد أتى؛ فخرج إليهم بسيفه، فاقتحموا عليه الدار، فشد عليهم كذلك، فلما رأوا ذلك أشرفوا عليه من فوق السطوح وظهروا فوقه، فأخذوا يرمونه بالحجارة، ويلهبون النيران في أطنان القصب ثم يقذفونها عليه من فوق السطوح فلما رأى ذلك قال: أكلما أرى من الإجلاب لقتل ابن عقيل؟ يا نفس اخرجي إلى الموت الذي ليس منه محيص، فخرج - رضوان الله عليه - مصلتاً سيفه إلى السكة، فقاتلهم، فأقبل عليه محمد بن الأشعث فقال: يا فتى، لك الأمان، لا تقتل نفسك. فأقبل يقاتلهم وهو يقول:
أقسمت لا أقتل إلا حراً ... وإن رأيت الموت شيئاً نكرا
أخاف أن أكذب أو أغرا ... أو يخلط البارد سخناً مرا
رد شعاع الشمس فاستقرا ... كل امرئ يوماً ملاق شرا
قال له محمد بن الأشعث: إنك لا تكذب ولا تغر، إن القوم ليسوا بقاتليك ولا ضاربيك، وقد أثخن بالجراح وعجز عن القتال؛ فانبهر وأسند ظهره إلى دار بجنب تلك الدار، فدنا منه محمد بن الأشعث فقال له: لك الأمان، فقال له مسلم: آمن أنا؟ قال: نعم أنت آمن، فقال القوم جميعاً: نعم غير عبيد الله بن العباس السلمي لأنه قال: " لا ناقة لي في هذا ولا جمل " ، وتنحى، فقال ابن عقيل: إني والله لولا أمانكم ما وضعت يدي في أيديكم. وأتى ببغلة فحمل عليها فاجتمعوا عليه، فنزعوا سيفه في عنقه، فكأنه أيس من نفسه فدمعت عينه وعلم أن القوم قاتلوه، وقال: هذا أول الغدر.
فقال له محمد بن الأشعث: أرجوا ألا يكون عليك بأس.
فقال: ما هو إلا الرجاء، فأين أمانكم " إنا لله وإنا إليه راجعون " وبكى.
فقال له عبيد الله ابن العباس السلمي: إن مثلك ومن يطلب مثل الذي طلبت إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك.
قال: إني والله ما أبكي لنفسي، ولا لها من القتل أرثي، وإن كنت لم أحب لها طرفة عين تلفاً، ولكني أبكي لأهلي المقبلين إلي، أبكي للحسين وآل الحسين، ثم أقبل على ابن الأشعث فقال: إني والله أظنك ستعجز عن أماني، وسأله أن يبعث رسولاً إلى الحسين بن علي يعلمه الخبر، ويسأله الرجوع فقال له ابن الأشعث: والله لأفعلن.
قال أبو مخنف: فحدثني قدامة بن سعد: أن مسلم بن عقيل حين انتهى به إلى القصر رأى قلة مبردة موضوعة على الباب، فقال: اسقوني من هذا الماء. فقال له مسلم بن عمر، وأبو قتيبة بن مسلم الباهلي: أتراها ما أبردها؟ فوالله لا تذوق منها قطرة واحدة حتى تذوق الحميم في نار جهنم.
فقال له مسلم بن عقيل: ويلك، ولأمك الثكل، ما أجفاك، وأفظك، وأقسى قلبك، أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم، والخلود في نار جهنم، ثم جلس وتساند إلى الحائط.(1/29)
قال أبو مخنف: فحدثني أبو قدامة بن سعد أن عمرو بن حريث بعث غلاماً له يدعى سليماً فأتاه بماء في قلة فسقاه. قال وحدثني مدرك بن عمارة: أن عمارة بن عقبة بعث غلاماً يدعى نسيماً فأتاه بماء في قلة عليها منديل وقدح معه، فصب فيه الماء ثم سقاه، فأخذ كلما شرب امتلأ القدح دماً، فأخذ لا يشرب من كثرة الدم، فلما ملأ القدح ذهب ثانية يشرب، فسقطت ثنيتاه في القدح، فقال: الحمد لله، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته.
قال: ثم أدخل على عبيد الله بن زياد - لعنه الله - فلم يسلم عليه، فقال له الحرس: ألا تسلم على الأمير؟ فقال: إن كان الأمير يريد قتلي فما سلامي عليه؟ وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن سلامي عليه. فقال له عبيد الله - لعنه الله - : لتقتلن. قال: أكذلك؟ قال: نعم. قال: دعني إذاً أوصي إلى بعض القوم. قال: أوص إلى من أحببت. فنظر ابن عقيل إلى القوم وهم جلساء ابن زياد، وفيهم عمر بن سعد؛ فقال: يا عمر، إن بيني وبينك قرابة دون هؤلاء، ولي إليك حاجة، وقد يجب عليك لقرابتي نجح حاجتي، وهي سر، فأبى أن يمكنه من ذكرها، فقال له عبيد الله بن زياد: لا تمتنع من أن تنظر في حاجة ابن عمك، فقام معه وجلس حيث ينظر إليهما ابن زياد - لعنه الله - ، فقال له ابن عقيل: إن علي بالكوفة ديناً استدنته مذ قدمتها تقضيه عني حتى يأتيك من غلتي بالمدينة، وجثتي فاطلبها من ابن زياد فوارها، وابعث إلى الحسين من يرده. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال؟ قال: اكتم ما قال لك، قال: أتدري ما قال لي؟ قال: هات، فإنه لا يخون الأمين، ولا يؤتمن الخائن. قال: كذا وكذا، قال: أما مالك فهو لك، ولسنا نمنعك منه فاصنع فيه ما أحببت وأما حسين فإنه إن لم يردنا لم نرده، وإن أرادنا لم نكف عنه، وأما جثته فإنا لا نشفعك فيها، فإنه ليس لذلك منا بأهل، وقد خالفنا وحرص على هلاكنا.
ثم قال ابن زياد لمسلم: قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد من الناس في الإسلام.
قال: أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه، أما إنك لم تدع سوء القتلة، وقبح المثلة وخبث السيرة، ولؤم الغيلة لمن هو أحق به منك.
ثم قال ابن زياد: اصعدوا به فوق القصر فاضربوا عنقه.
ثم قال: ادعوا الذي ضربه ابن عقيل على رأسه وعاتقه بالسيف فجاءه فقال: اصعد وكن أنت الذي تضرب عنقه، وهو بكير بن حمران الأحمري - لعنه الله - ، فصعدوا به وهو يستغفر الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أنبيائه ورسله وملائكته - وهو يقول: اللهم احكم بيننا وبين قوم غرونا، وكادونا وخذلونا.
ثم أشرفوا به على موضع الحذائين فضرب عنقه، ثم أتبع رأسه جسده - صلى الله عليه ورحمه - .
وقال المدائني: عن أبي مخنف عن يوسف بن يزيد، قال: فقال عبد الله بن الزبير الأسدي:
إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى هانئ في السوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف وجهه ... وآخر يهوي من طمار قتيل
ترى جسداً قد غير الموت لونه ... ونضح دم قد سال كل مسيل
أصابهما أمر الأمير فأصبحا ... أحاديث من يسعى بكل سبيل
أيركب أسماء الهماليج آمناً ... وقد طلبته مذحج بذحول
تطيف حواليه مرادٌ وكلهم ... على رقبةٍ من سائل ومسول
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا بغايا أرضيت بقليل(1/30)