فورد الأهواز، وأظهر أنه يطلب الزندقة، وكان الذي أتاه بالخبر رجل بربري كان أحمد بن عيسى يأنس به، فلما قدم هذا الرجل واكن يعرف بعيسى الرواوزدي، أتى البربري أحمد بن عيسى كما كان يأتيه، فوصف له عيسى هذا وقال له: إنه من شيعتك ومن حاله ومن قصته، فأذن له فدخل إليه وهو جالس، ومعه ابن إدريس بن عبد الله، وكاتب كان لإبراهيم بن عبد الله، فبدأ بأحمد بن عيسى وابن إدريس فقبل أيديهما، وجلس معهما وآنسهما، وجعل يرسل إليهما بالهدايا والكسوة، واشترى لهما وصيفتين، فاطمأنا إليه وأكلا من طعامه وشربا من شرابه، فلما وقعت الثقة قال له: هذا بلد ضيق ولا خير فيه، فهلما معي حتى أوافي بكما مصر وإفريقية؛ فإن أهلهما يخفون معي ويطيعونني. قالوا: وكيف تأخذ بنا؟ قال: أجلسكم الماء إلى واسط، ثم آخذ بكم على طريق الكوفة، ثم على الفرات إلى الشام. فأجابوه فأجلسهم في السفينة، وصير معهم أعوان أبي الساج أمناء عليهم ومضوا.
ولما كان في بعض الطريق قال لهم: أتقدمكم إلى واسط لإصلاح بعض ما نحتاج إليه من سفرنا من كراء أو غيره، ومضى هو والبربري فركبا دواب البريد وأوصى الموكلين بهما ألا يعلمونهم بشيء ولا يوهمونهم أنهم من أصحاب السلطان، وأن يحتاطوا عليهم ما قدروا، ففعلوا ذلك ومضوا.
فلما كانوا ببعض الطريق حبسهم أصحاب الصدقة وقالوا: لا تجوزوا، فصاح بهم الموكلون: نحن من أصحاب أبي الساج وأعوانه جئنا في أمر مهم، فخلوا عنهم، وانتبه أحمد بن عيسى وأصحابه لذلك، فلما جاوزوا قليلاً قال لهم أحمد بن عيسى: أقدموا إلى الشط لنصلي. فقدم الملاحون، وخرجوا، فتفرقوا بين النخل وتستروا بها وابعدوا عن أعين الموكلين، والموكلون في الزورق لا يوهمونهم أنهم معهم، فلما بعدوا عن أعينهم جعلوا يحضرون على أقدامهم حتى فاتوهم هرباً وبعدوا عنهم. وطال انتظار الموكلين بهم، فلم يعرفوا خبرهم وما الذي أبطأ بهم، فخرجوا يطلبونهم، فلم يجدوهم، وتتبعوا آثارهم وجدوا في أمرهم، فلم يقدروا عليهم، فرجعوا إلى الزورق خائبين حتى أتوا واسط، وقد قدمها عيسى صاحب بريد أصبهان الذي دبر على القوم ما دبر، وقد وجه معه الرشيد ثلاثين رجلاً ليتسلم أحمد فأخبروه ما كان، فقال: لا والله ولكن ارتشيتم وصانعتم وداهنتم، وقدم بهم على الرشيد فضربهم بالسياط ضرباً مبرحاً، وحبسهم جميعاً في المطبق، وغضب على أبي الساج دهراً حتى سأله فيه أخوه الرشيد، فرضي عنه بعد أن كان قد هم بقتله.
ومضى أحمد بن عيسى وأصحابه فرجعوا إلى البصرة، فلم يزالوا مقيمين حتى مات أحمد بن عيسى، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: حدثني علي بن أحمد بن عيسى: أن أباه توفي في ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان سنة سبع وأربعين ومائتين.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثنا محمد بن منصور، قال: سألت أحمد بن عيسى: كم تعد من السنين؟.
قال: ولدت يوم الثاني من المحرم سنة سبع وخمسين ومائة.
عبد الله بن موسى
وعبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأمه أم سلمة بنت محمد بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر، ولها يقول وحشي الرياحي:
يعجبني من فعل كل مسلمه ... مثل الذي تفعل أم سلمه
إقصاؤها عن بيتها كل أمه ... وأنها قدماً تساوي المكرمه
وكان عبد الله توارى في أيام المأمون، فكتب إليه بعد وفاة الرضا يدعوه إلى الظهور ليجعله مكانه ويبايع له، واعتد عليه بعفوه عمن عفا من أهله، وما أشبه هذا من القول: فأجابه عبد الله برسالة طويلة يقول فيها: فبأي شيء تغرني؟ ما فعلته بأبي الحسن - صلوات الله عليه - بالعنب الذي أطعمته إياه فقتله.
والله ما يقعدني عن ذلك خوف من الموت ولا كراهة له، ولكن لا أجد لي فسحة في تسليطك على نفسي، ولولا ذلك لأتيتك حتى تريحني من هذه الدنيا الكدرة.
ويقول فيها:(1/161)


هبني لا ثأر لي عندك وعند آبائك المستحلين لدمائنا، الآخذين حقنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذرناهم، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضى بنا والتستر لمحننا، تختل واحداً فواحداً منا، ولكني كنت امرأ حبب إلي الجهاد، كما حبب إلي كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي، وركبت سناني على رمحي، واستفرهت فرسي، لم أدر أي العدو أشد ضرراً على الإسلام، فعلمت أن كتاب الله يجمع كل شيء، فقرأته فإذا فيه: " يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة " .
فما أدري من يلينا منهم، فأعدت النظر، فوجدته يقول: " لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخرة يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " فعملت أن علي أن أبدأ بما قرب مني.
وتدبرت فإذا أنت أضر على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم، لأن الكفار خرجوا منه وخالفوه فحذرهم الناس وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهراً فأمسك الناس وطفقت تنقض عراه عروة عروة، فأنت أشد أعداء الإسلام ضرراً عليه. وهي رسالة طويلة قد أتينا بها في الكتاب الكبير.
وأخبرني جعفر بن محمد الوراق الكوفي، قال: حدثني عبد الله بن علي بن عبيد الله العلوي الحسيني، عن أبيه، قال: كتب المأمون إلى بعد الله بن موسى وهو متوار منه يعطيه الأمان، ويضمن له أبن يوليه العهد بعده، كما فعل بعلي بن موسى، ويقول: ما ظننت أن أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا، وبعث الكتاب إليه.
فكتب إليه عبد الله بن موسى: وصل كتابك وفهمته، تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال على حيلة المغتال القاصد لسفك دمي.
وعجبت من بذلك العهد وولايته لي بعدك، كأنك تظن أنه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شيء ظننت أني أرغب من ذلك؟.
أفي الملك الذي قد غرتك نضرته وحلاوته؟ فوالله لأن أقذف وأنا حي في نار تتأجج أحب إلي من أن ألي أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل.
أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا؟ أم ظننت أن الاستتار قد أملني وضاق به صدري، فوالله إني لذلك، ولقد مللت الحياة وأبغضت الدنيا، ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر على المخاطرة بدمي، وليتك قدرت علي من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله - عز وجل - بدمي، ولقيته قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.
واعلم أني رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عز وجل عمي، وفي عمل أتقرب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفحته سورة سورة، وآية آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربه جل وعز من الشهادة في طلب مرضاته.
ثم تتبعته أتأمل الجهاد أيه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جل وعلا يقول: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظةً " فطلبت أي الكفار أضر على الإسلام، وأقرب من موضعي، فلم أجد أضر على الإسلام منك، لأن الكفار أظهروا كفرهم، فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم.
وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت المال من غير حله فأنفقته في غير حله، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين وأعطيته المغنين، ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند، فإن يسعدني الدهر، ويعني الله عليك بأنصار الحق، أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضيه مني، وإن يمهلك ويؤخرك ليجزيك بما تستحقه في منقلبك، أو تخرتمني الأيام قبل ذلك فحسبي من سعي ما يعلمه الله عز وجل من نيتي، والسلام.
ولم يزل عبد الله متوارياً إلى أن مات في أيام المتوكل.
فحدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب، قال: سمعت محمد بن سليمان الزينبي يقول: نعى عبد الله بن موسى إلى المتوكل صبح أربع عشرة ليلة من يوم مات، ونعى له أحمد بن عيسى فاغتبط بوفاتهما وسر، وكان يخافهما خوفاً شديداً ويحذر حركتهما، لما يعمله من فضلهما، واستنصار الشيعة الزيدية بهما وطاعتها لهما لو أرادوا الخروج عليه، فلما ماتا أمن واطمأن، فما لبث بعدهما إلا أسبوعاً حتى قتل.(1/162)


وكان عبد الله بن موسى يقول شيئاً من الشعر.
أنشدني أحمد بن سعيد، قال: أنشدنا يحيى بن الحسن، قال: أنشدني إسماعيل بن يعقوب لعبد الله بن موسى:
وإني لمرتاد جوادي وقاذف ... به وبنفسي العام إحدى المقاذف
مخافة دنيا رثة أن تميلني ... كما مال فيها الهالك المتجانف
فيا رب إن حانت وفاتي فلا تكن ... على شرجعٍ يعلى بخضر المطارف
ولكن قتيلاً شاهداً لعصابة ... يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ... وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف
قال أبو الفرج: هكذا ذكر إسماعيل بن يعقوب، وهذا الشعر للطرماح بن حكيم الطائي، وكان يذهب مذهب الشراة، ولعل عبد الله بن موسى كان ينشده متمثلاً.
أيام المنتصر
وكان المنتصر يظهر الميل إلى أهل هذا البيت، ويخالف أباه في أفعاله، فلم يجر منه على أحد منهم قتل أو حبس ولا مكروه فيما بلغنا، والله أعلم
أيام المستعين
يحيى بن عمر بن الحسين
فمن خرج فقتل في أيامه أبو الحسين بن عمر بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ويكنى أبا الحسن.
وأمه أم الحسن بنت عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه.
كان خرج في أيام المتوكل إلى خراسان فرده عبد الله بن طاهر، فأمر المتوكل بتسليمه إلى عمر بن الفرج الرخجي فسلم إليه، فكلمه بكلام فيه بعض الغلظة فرد عليه يحيى وشتمه، فشكى ذلك إلى المتوكل فأمر به فضرب درراً، ثم حبسه في دار الفتح بن خاقان، فمكث على ذلك مدة، ثم أطلق فمضى إلى بغداد فلم يزل بها حيناً حتى خرج إلى الكوفة فدعا إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وأظهر العدل وحسن السيرة بها إلى أن قتل رضوان الله عليه، وسنذكر خبره على سياقته.
وكان رضي الله عنه رجلاً فارساً شجاعاً، شديد البدن مجتمع القلب، بعيداً من رهق الشباب وما يعاب به مثله.
فحدثني محمد بن أحمد الصيرفي أبو عبيد، وأحمد بن عبيد الله بن عمار، وغيرهما: أنه كان مقيماً ببغداد، وكان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، وكان ربما سخط على العبد أو الأمة من حشمه، فيلوي العمود في عنقه، فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتى يحله يحيى رضي الله عنه.
قال أبو الفرج: حدثني أحمد بن عبيد الله، قال: حدثني أبو عبيد الله بن أبي الحصين: أن يحيى بن عمر لما أراد الخروج بدأ فزار قبر الحسين، وأظهر لمن حضره من الزوار ما أراده، فاجتمعت إليه جماعة من الأعراب ومضى فقصد شاهي فأقام بها إلى الليل، ثم دخل الكوفة ليلاً، وجعل أصحابه ينادون: أيها الناس أجيبوا داعي الله حتى اجتمع إليه خلق كثير.
فلما كان من غد مضى إليه بيت المال فأخذ ما فيه، ووجه إلى قوم من الصيارفة عندهم مال من مال السلطان فأخذه منهم، وصار إلى بني حمان وقد اجتمع أهله، ثم جلس فجعل أبو جعفر محمد بن عبيد الله الحسني وهو المعروف بالأدرع يساره ويعظم عليه أمر السلطان، فبينما هم كذلك إذا عبد الله بن محمود قد أقبل وعنده جند مرتبون كانوا معه في طسا سيج الكوفة، فصاح بعض الأعراب بيحيى: أيها الرجل أنت مخدوع، هذه الخيل قد أقبلت: فوثب يحيى فجال في متن فرسه، وحمل على عبد الله بن محمود فضربه ضربة بسيفه على وجهه، فولى منهزماً وتبعه أصحابه منهزمين.
ثم رجع إلى أصحابه فجلس معهم ساعة ثم خرج إلى الوزارة في عسكره ومضى منه إلى حنبلا.
وسار خبر يحيى بن عمر وانتهى إلى بغداد، فندب له محمد بن عبد الله بن طاهر بن عمه الحسين بن إسماعيل، وضم إليه جماعة من القواد، منهم خالد بن عمران، وأبو السنا الغنوي، ووجه الفلس، وعبد الله بن نصر بن حمزة، وسعد الضبابي، فنفذوا إليه على كره، وكان هوى أهل بغداد مع يحيى، ولم يروا قط مالوا إلى طالبي خرج غيره.(1/163)


فنفذ الحسين إلى الكوفة فدخلها وأقام بها أياماً ثم مضى قاصداً يحيى حتى وافاه فأقام في وجهه أياماً ثم ارتحل قاصداً الفسين حتى نزل قرية يقال لها البحرية وكان على خراج تلك الناحية أحمد بن علي الاسكافي وعلى حربها أحمد بن الفرج الفزاري، فحصل أحمد بن علي مال الخراج وهرب به، وثبت ابن الفرج فناوش يحيى مناوشة يسيرة وولى عنه بعد ذلك، ومضى يحيى لوجهه يريد الكوفة فعارضه المعروف بوجه الفلس فقاتله قتالاً شديداً، فانهزم عن يحيى فلم يتبعه.
ومضى وجه الفلس لوجهه حتى نزل شاهي، فصادف فيها الحسين بن إسماعيل فأقام بشاهي، وأراحا وشربا الماء العذب وقويت عساكرهم وخيلهم.
وأشار أصحاب يحيى عليه بمعاجلة الحسين بن إسماعيل، وكان معهم رجل يعرف بالهيضم بن العلاء العجلي فوافى يحيى في عدة من أهله وعشيرته، وقد تعبت خيلهم ورجالهم فصاروا في عسكره فحين التقوا كان أول ما انهزم الهيضم هذا.
وذكر قوم أن الحسين بن إسماعيل كان راسله في هذا وأجمعا رأيهما عليه.
وقال قوم: بل انهزم للتعب الذي لحقه.
حدثني علي بن سليمان الكوفي، قال: حدثني أبي قال: اجتمعت أنا والهيضم يوماً فتذاكرنا أمر يحيى فحلف بالطلاق الثلاث أنه لم يكن له في الهزيمة صنع، وإنما كان يحيى رجلاً نزقاً في الحرب، فكان يحمل وحده فيرجع فنهيته عن ذلك فلم يقبل، وحمل مرة كما كان يفعل فبصرت عيني به وقد صرع في وسط عسكرهم فلما رأيته قد قتل انصرفت بأصحابي.
رجع الحديث إلى رواية ابن عمار.
قال: فلما رأى يحيى هزيمة الهيضم لم يزل يقاتل مكانه حتى قتل، فأخذ سعد الضبابي رأسه، وجاء به إلى الحسين بن إسماعيل، وكانت في وجهه ضربات لم يكد يعرف معها، ولم يتحقق أهل الكوفة قتل يحيى، فوجه إليهم الحسين بن إسماعيل أبا جعفر الحسني الذي تقدم ذكره يعلمهم أنه قد قتل، فشتموه وأسمعوه ما يكره وهموا به، وقتلوا غلاماً له، فوجه إليهم أخاً كان لأبي الحسن يحيى بن عمر من أمه يعرف بعلي بن محمد الصوفي من ولد عمر بن علي بن أبي طالب، وكان رجلاً رفيقاً مقبولاً، فعرف الناس قتل أخيه، فضجوا بالبكاء والصراخ والعويل وانصرفوا.
وانكفأ الحسين بن إسماعيل إلى بغداد، ومعه رأس يحيى بن عمر، فلما دخل بغداد جعل أهلها يصيحون من ذلك إنكاراً له ويقولون: إن يحيى لم يقتل، ميلاً منهم إليه، وشاع ذلك حتى كان الغوغاء والصبيان يصيحون في الطرقات: ما قتل وما فر، ولكن دخل البر.
ولما أدخل رأس يحيى إلى بغداد اجتمع أهلها إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يهنئونه بالفتح، ودخل فيمن دخل على محمد بن عبد الله بن طاهر، أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري، وكان ذا عارضة ولسان، لا يبالي ما استقبل الكبراء وأصحاب السلطان به.
فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، وحكيم بن يحيى الخزاعي، قالا: دخل أبو هاشم على محمد بن عبد الله بن طاهر فقال: أيها الأمير، قد جئتك مهنئاً بما لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً لعزى به، فلم يجبه محمد عن هذا بشيء.
وأمر محمد بن عبد الله حينئذ أخته ونسوة من حرمه بالشخوص إلى خراسان، وقال إن هذه الرؤوس من قتلى أهل هذا البيت لم تدخل بيت قوم قط إلا خرجت منه النعمة وزالت عنه الدولة، فتجهزن للخروج.
قال ابن عمار في حديثه: وأدخل الأسارى من أصحاب يحيى إلى بغداد، ولم يكن فيما رؤي قبل ذلك من الأسارى أحد لحقه ما لحقهم من العسف وسوء الحال، وكانوا يساقون وهم حفاة سوقاً عنيفاً فمن تأخر ضربت عنقه، فورد كتاب المستعين بتخلية سبيلهم فخلوا، إلا رجلاً يعرف بإسحاق بن جناح كان صاحب شرطة يحيى بن عمر فإن محمد بن الحسين الأشناني حدثني: أنه لم يزل محبوساً حتى مات، فخرج توقيع محمد بن عبد الله بن الطاهر في أمره يدفن الرجس النجس إسحاق بن جناح مع اليهود، ولا يدفن مع المسلمين، ولا يصلى عليه، ولا يغسل، ولا يكفن " فأخرج رحمه الله بثيابه ملفوفاً في كساء فومسي على نعش حتى جاءوا به إلى خربة، فطرح على الأرض وألقى عليه حائط، رحمه الله تعالى.
وقد كان خرج مع يحيى بن عمر جماعة من وجوه أهل الكوفة وأولي الفضل منهم، فسمعت بعض مشايخنا من الكوفيين يذكر - وهو محمد بن الحسين(1/164)


أن أبا محمد عبد الله بن زيدان البجلي خرج معه معلماً، وكان أحد فرسان أصحابه. وقد لقيته أنا وكتبت عنه، وكنت أرى فيه من الحذر والتوقي من كثير من الناس، ما يدل على صدق ما ذكر عنه.
وما بلغني أن أحداً ممن قتل في الدولة العباسية من آل أبي طالب رثي بأكثر مما رثي به يحيى ولا قيل فيه الشعر بأكثر مما قيل فيه.
واتفق في وقت مقتله عدة شعراء محيدون للقول أولوا الهدى في هذا المذهب، إلا أنني ذكرت بعض ذلك كراهية الإطالة.
فمنه قول علي بن العباس الرومي يرثيه، وهي من مختار ما رثي به، بل إن قلت إنها عين ذلك والمنظور إليه لم أكن مبعداً، لولا أنه أفسدها بأن جاوز الحد وأغرق في النزع، وتعدى المقدار بسبب مواليه من بني العباس، وقوله فيهم من الباطل ما لا يجوز لأحد أن يقوله، وهي:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج ... طريقان شتى مستقيم وأعوج
ألا أيهذا الناس طال ضريركم ... بآل رسول الله فاخشوا أو ارتجوا
أكل أوان للنبي محمدٍ ... قتيل زكي بالدماء مضرج
تبيعون فيه الدين شر أئمةٍ ... فلله دين الله قد كاد يمرج
لقد ألحجوكم في حبائل فتنةٍ ... وللملحجوكم في الحبائل ألحج
بني المصطفى كم يأكل الناس شلوكم ... لبلواكم عما قليل مفرج
أما فيهم راع لحق نبيه ... ولا خائف من ربه يتحرج
لقد عمهوا ما أنزل الله فيكم ... كأن كتاب الله فيهم ممجمج
ألا خاب من أنساه منكم نصيبه ... متاع من الدنيا قليل وزبرج
أبعد المكنى بالحسين شهيدكم ... تضاء مصابيح السماء فتسرج
لنا وعلينا، لا عليه ولا له ... تسجسج أسراب الدموع وتنشج
وكيف نبكي فائزاً عند ربه ... له في جنان الخلد عيش مخرفج
فإن لا يكن حياً لدنيا فإنه ... لدى الله حي في الجنان مزوج
وقد نال في الدنيا سناءً وصيتةً ... وقام مقاماً لم يقمه مزلج
شوى ما أصابت أسهم الدهر بعده ... هوى ما هوى أو مات بالرمل بحزج
وكنا نرجيه لكشف عمايةٍ ... بأمثاله أمثالها تتبلج
فساهمنا ذو العرش في ابن نبيه ... ففاز به والله أعلى وأفلج
فأصبحت لا هم أبسئوني بذكره ... كما قال قبلي في البسوء مورج
ولا هو نساني أساي عليهم ... بلى هاجه، والشجو للشجو أهيج
أبيت إذا نام الخلي كأنما ... تبطن أجفاني سيال وعوسج
أيحيى العلا لهفي لذكراك لهفةً ... يباشر مكواها الفؤاد فينضج
أحين تراءتك العيون جلاءها ... وأقذاءها أصحت مراثيك تنسج
بنفسي وإن فات الفداء بك الردى ... محاسنك اللائي تمخ فتنهج
لمن تستجد الأرض بعدك زينةً ... فتصبح في أثوابها تتبرج؟
سلامٌ وريحانٌ وروحٌ ورحمةٌ ... عليك وممدودٌ من الظل سجسج
ولا برح القاع الذي أنت جاره ... يرف عليه الأقحوان المفلج
ويا أسفي ألا ترد تحيةً ... سوى أرجٍ من طيب رمسك يأرج
ألا إنما ناح الحمائم بعدما ... ثويت وكانت قبل ذلك تهزج
أذم إليك العين إن دموعها ... تداعى بنار الحزن حين توهج
وأحمدها لو كفكفت من غروبها ... عليك وخلت لاعج الحزن يلعج
وليس البكا أن تسفح العين إنما ... أحر البكاءين البكاء المولج
أتمتعني عيني عليك بعبرةٍ ... وأنت لأذيال الروامس مدرج
فإني إلى أن يدفن القلب داءه ... ليقتلني الداء الدفين لأحوج
عفاءٌ على دارٍ ظعنت لغيرها ... فليس بها للصالحين معرج(1/165)

33 / 36
ع
En
A+
A-