فوقع قولها في قلبي موقعاً عظيماً فقلت لها: قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك، ووهبت لك القافلة بجميع ما فيها، ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا إلي، فناديت فيهم إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها وخفرتها وحميتها، وجعلت لها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي، فمن أخذ منها خيطاً أو مخيطاً أو عقالاً فقد آذنته بحرب. فانصرفوا معي وانصرفت، وسار أهل القافلة سالمين.
فلما أخذت وحبست، بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان فقال لي: إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد، إلا أنهما قد أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما وهما في الدهليز، فاخرج إليهما إن شئت.
فتنكرت من يجيئني في بلد غربة وفي حبس وحيث لا يعرفني أحد، ثم تفكرت فقلت: لعلهما من ولد أبي أو من بعض نساء أهلي، فخرجت إليهما وإذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لما رأت من تغيير خلقي وثقل حديدي، فأقبلت عليها الأخرى فقالت: أهو هو؟ قالت: إي والله لهو هو، ثم أقبلت علي فقالت: فداك أبي وأمي، لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت، ولكنت بذاك مني حقيقياً، ووالله لا تركت المعاونة والسعي في خلاصك، وكل حيلة ومال وشفاعة، وهذه دنانير وطيب وثياب فاستعن بها على موضعك، ورسولي يأتيك في كل يوم بنا يصلحك حتى يفرج الله عنك. ثم أخرجت إلى المرأة كسوة وطيباً ومائتي دينار، وكان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف، ويتصل برها عند السجان فلا يمتنع من كل ما أريد، حتى من الله بخلاصي.
ثم راسلتها فخطبتها، فقالت: أما من جهتي فأنا لك سامعة مطيعة، والأمر إلى أبي، فأتيته فخطبتها إليه، فردني وقال: ما كنت لأحقق عليها ما شاع في الناس عنك من أمرها فقد صيرتنا فضيحة. فقمت من عنده منكسراً مستحياً وقلت في ذلك:
رموني وإياها بشنعاء هم بها ... أحق أدال الله منهم فعجلا
بأمر تركناه ورب محمد ... عياناً فإما عفة أو تجملا
فقلت له: إن عيسى صنيعة أخي، وهو لي مطيع، وأنا أكفيك أمره، فلما كان من غد لقيت عيسى في منزله ثم قلت له: قد جئتك في حاجة لي.
فقال: هي مقضية ولو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني أن أجيئك فجئتك فكان أسر إلي.
فقلت له: قد جئتك خاطباً إليك ابنتك.
فقال: هي لك أمة، وأنا لك عبد، وقد أجبتك.
فقلت: إني خطبتها على من هو خير مني أبا وأماً وأشرف لك صهراً ومتصلاً محمد بن صالح العلوي.
فقال لي: يا سيدي، هذا رجل قد لحقنا بسببه ظنة، وقيلت فينا أقوال.
فقلت له: أفليست باطلة؟.
فقال: بلى والحمد لله. فقلت: فكأنها لم تقل، وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع، ولم أزل أرفق به حتى أجاب. وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته وما برح حتى زوجه، وسقت الصداق عنه من مالي.
حدثني أحمد بن جعفر البرمكي، قال: حدثنا المبرد، قال: لم يزد محمد بن صالح محبوساً حتى صنع بنان لحناً في قوله:
وبدا له من بعدما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
فاستحسن المتوكل اللحن والشعر وسأل عن قائله، فأخبر عنه وكلم في أمره، وأحسن الجماعة رفده بالذكر الجميل، وأنشد الفتح قصيدة يمدح بها المتوكل التي أولها:
ألف التقى ووفى بنذر الناذر ... وأبى الوقوف على المحل الداثر
وتكفل الفتح بأمره فأمر بإطلاقه، وأمر الفتح بأخذه إليه وأن يكون عنده حتى يقيم الكفلاء بنفسه، وأن يكون مقامه بسر من رأى، ولا يخرج إلى الحجاز فأطلقه الفتح وتكفل بأمره، وخفف عنه في أمر الكفالة، فلم يزل في سر من رأى حتى مات.
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن خلف وكيع قالا: حدثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب، قال: حدثني أبو عبد الله الجهمي قال: دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل، فأنشدني لنفسه يهجو أبو الساج:
ألم يحزنك يا ذلفاء أني ... سكنت مساكن الأموات حيا
وأن حمائلي ونجاد سيفي ... علون مجدعاً أشرا سنياً
فقصرهن لما طلن حتى اس ... توين عليه لا أمسى سويا
أما والراقصات بذات عرق ... تؤم البيت تحسبها قسيا
لو أمكنني غداتئذ جلاد ... لألفوني به سمحاً سخياً(1/156)


قال ابن عمار: وأنشدني عبيد الله بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح العلوي الحسني:
نظرت ودوني ماء دجلة موهناً ... بمطروفة الإنسان محسورة جدا
لتؤنس لي ناراً بليل أوقدت ... وتالله ما كلفتها منظراً قصدا
فلو صدقت عيني لقلت كذبتني ... أرى النار قد أمست تضيء لنا هدا
تضيء لنا منها جبيناً ومحجراً ... ومبتسماً عذباً غدر جعدا
قال: فأما القصيدة التي مدح بها المتوكل فهي قوله:
ألف التقى ووفى بنذر الناذر ... وأبى الوقوف على المحل الداثر
ولقد تهيج له الديار صبابة ... حيناً ويكلف بالخليط السائر
فرأى الهداية أن أناب وإنه ... قصر المديح على الإمام العاشر
يا ابن الخلائف والذين بهديهم ... ظهر الوفاء، وبان غدر الغادر
وابن الذين حووا تراث محمد ... دون البرية بالنصيب الوافر
فوصلت أسباب الخلافة بالهدى ... إذ نلتها وأنمت ليل الساهر
أحييت سنة من مضى فتجددت ... وأبنت بدعة ذي الضلال الخاسر
فافخر بنفسك أو بجدك معلناً ... أو دع فقد جاوزت فخر الفاخر
إني دعوتك فاستجبت لدعوتي ... والموت مني نصب عين الناظر
فانتشتني من قعر موردة الردى ... أمناً ولم تسمع مقال الزاجر
وفككت أسري والبلاء موكل ... وجبرت كسراً ما له من جابر
وعطفت بالرحم التي ترحو بها ... قرب المحل من المليك القادر
وأنا أعوذ بفضل عفوك أن أرى ... غرضاً ببابك للملم الفاقر
أو أن أضيع بعد ما أنقذتني ... من ريب مهلكة وجد عاثر
فلقد مننت فكنت غير مكدر ... ولقد نهضت بها نهوض الشاكر
وكان محمد بن صالح صديقاً لسعيد بن حميد، وكان يقارضه الشعر. وله في هذا الحبس أشعار كثيرة يطول ذكرها.
وله أيضاً في إبراهيم بن المدبر وأخيه مدائح كثيرة.
وفي عبيد الله بن يحيى بن خاقان هجاء كثير لأنه كان لشدة انحرافه عن آل أبي طالب يغري المتوكل به ويحذره من إطلاقه، فهجاه هجاء كثيراً، منه قوله يهجوه في قصيدة مدح فيها ابن المدبر:
وما في آل خاقان اعتصام ... إذا ما عمم الخطب الكبير
لئام الناس إثراءً وفقراً ... وأعجزهم إذا حمى القتير
وقوم لا يزوجهم كريم ... ولا تسنى لنسوتهم مهور
وفيها يقول يمدح ابن المدبر:
أتخبر عنهم الدمن الدثور؟ ... وقد يبنى إذا سئل الخبير
وكيف تبين الأنباء دار ... تعاقبها الشمائل والدبور
ويقول فيها في مدحه ابن المدبر:
فهلا في الذي أولاك عرفاً ... تسدي من مقالك ما يسير
ثناء غير مختلق ومدحاً ... مع الركبان ينجد أو يغور
أخ آساك في كلب الليالي ... وقد خذل الأقارب والنصير
حفاظاً حين أسلمك الموالي ... وضن بنفسه الرجل الصبور
فإن تشكر فقد أولى جميلاً ... وإن تكفر فإنك للكفور
وقال سعيد بن حميد يرثي محمد بن صالح، وكانت وفاته في أيام المنتصر:
بأي يد أسطو على الدهر بعدما ... أبان يدي عضب الذنابين قاضب
وهاض جناحي حادث جل خطبه ... وسددت عن الصبر الجميل المذاهب
ومن عادة الأيام أن صروفها ... إذا سر منها جانب ساء جانب
لعمري لقد غال التجلد أننا ... فقدناك فقد الغيث والعام جادب
فما أعرف الأيام إلا ذميمة ... ولا الدهر إلا وهو بالثار طالب
ولا لي من الإخوان إلا مكاشر ... فوجه له راضٍ ووجه مغاضب
فقدت فتى قد كان للأرض زينة ... كما زينت وجه السماء الكواكب
لعمري لئن كان الردى بك فاتني ... وكل امرئ يوماً إلى الله ذاهب
لقد أخذت مني النوائب حكمها ... فما تركت حقاً علي النوائب(1/157)


ولا تركتني أرهب الدهر بعده ... لقد كل عني نابه والمخالب
سقى جدثاً أمسى الكريم ابن صالح ... يحل به دانٍ من المزن ساكب
إذا بشر الرواد بالغيث برقه ... مرته الصبا واستجلبته الجنائب
فأبصر نور الأرض تأثير صوبه ... بصوب زهت منه الربا والمذانب
هذا آخر خبر محمد بن صالح رحمة الله عليه ورضوانه.
محمد بن جعفر
قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني: لما ولي المتوكل تفرق آل أبي طالب في النواحي، فغلب الحسن بن زيد بن محمد بن إسماعيل بن زيد على طبرستان ونواحي الديلم.
وخرج بالري: محمد بن جعفر بن الحسن بن عمر بن علي بن الحسين يدعو إلى الحسن بن زيد فأخذه عبد الله بن طاهر فحبسه بنيسابور، فلم يزل في حبسه حتى هلك. حدثني بذلك أحمد بن سعيد، قال: حدثني يحيى بن الحسن.
وأم محمد بن جعفر رقية بنت عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي: وكان ممن خرج معه عبد الله بن إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.
ثم خرج من بعده بالري أحمد بن عيسى بن علي بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، يدعو إلى الحسين بن زيد.
وخرج الكوكبي، وهو الحسين بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن محمد بن عبد الله الأرقط بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ولهؤلاء أخبار قد ذكرناها في الكتاب الكبير لم يحمل هذا الكتاب إعادتها لطولها، ولأنا شرطنا ذكر خبر من قتل منهم دون من خرج فلم يقتل.
القاسم بن عبد الله بن الحسين
والقاسم بن عبد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام
وأمه أم ولد.
كان عمر بن الفرج الرخجي حمله إلى سر من رأى، فأمر بلبس السواد فامتنع، فلم يزالوا به حتى لبس شيئاً يشبه السواد فرضي منه ذلك.
وكان القاسم رجلاً فاضلاً.
حدثني أحمد بن سعيد، قال حدثني يحيى بن الحسن، قال: سمعت أبا محمد إسماعيل بن محمد يقول: ما رأيت الطالبيين انقادوا لرياسة أحد كانقيادهم للقاسم بن عبد الله.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني محمد بن منصور، قال: حدثنا الحسن بن الحسين، قال: دخلت أنا، والقاسم بن عبد الله نغسل أبا الفوارس عبد الله بن إبراهيم بن الحسين وقد صلينا الظهر، فقال لي القاسم: هل نصلي العصر فإنا نخشى أن نبطئ في غسل الرجل، فصليت معه، فلما فرغنا من غسله خرجت أقيس الشمس فإذا ذلك أول وقت العصر، فأعدت الصلاة، فأتاني آت في النوم، فقال: أعدت الصلاة وقد صليت خلف القاسم؟ فقلت: صليت في غير الوقت. قال: قلب القاسم أهدى من قلبك.
وكان اعتل فيما أخبرني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسن، عن ذوب مولاة زينب بنت عبد الله بن الحسين، قال: اعتل مولاي القاسم بن عبد الله، فوجه إليه بطبيب يسأله عن خبره، وجهه إليه السلطان، فجس يده فحين وضع الطبيب يده عليها يبست من غير علة، وجعل وجعها يزيد عليه حتى قتله قال: سمعت أهله يقولون: إنه دس إليه السم مع الطبيب.
أحمد بن عيسى بن زيد
قال أبو الفرج: وممن توارى فمات في حال تواريه في تلك الأيام.
أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، عليه السلام.
ويكنى أبا عبد الله.
وأمه عاتكة بنت الفضل بن عبد الرحمن بن العباس بن ربيعة بن الحارث عبد المطلب.
وكان فاضلاً عالماً مقدماً في أهله، معروفاً فضله.
وقد كتب الحديث، وعمرو كتب عنه، وروى عنه الحسين بن علوان روايات كثيرة، وقد روى عنه محمد بن المنصور الراوي ونظراؤه.
وكان ابتداء تواريه في غير هذه الأيام، إلا أنه توفي بعد تواريه بمدة طويلة في أيام المتوكل، فذكرنا خبره في أيامه.
وقد ذكرنا بعض خبره في مجيء ابن علاق الصيرفي وصباح الزعفراني إلى المهدي بعد موت أبيه وإجرائه عليه الرزق ورده إلى الحجاز إلى أيام هارون الرشيد.
فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، قال: ونسخت من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: وحدثني هاشم بن أحمد البغوي، عن جعفر بن محمد بن إسماعيل:(1/158)


أنه وشى إلى هارون بأحمد بن عيسى، والقاسم بن علي بن عمر بن علي بن الحسين وأمه أم ولد، فأمر بإشخاصهما إليه من الحجاز، فلما وصلا إليه أمر بحبسهما، فحبسا في سعة عند الفضل بن الربيع فكانا عنده. قال: فاحتال بعض الزيدية فدس إليهما فالوذجاً في جامات أحدهما مبنج، فأطعما المبنج الموكلين فلما علما أن ذلك قد بلغ فيهم خرج.
هكذا قال النوفلي.
وقال هاشم بن أحمد، عن جعفر بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن رياح: أن أحمد بن عيسى كان قد خرج يوماً لبعض حاجته، فرأى الموكلين به نياماً فأخذ كوزاً فشرب فيه، ثم رمى به من يده ليعلم أنهم نيام أم متيقظون، فلم يتحرك منهم أحد، فرجع إلى القاسم فأخبره، فقال له: ويحك، لا تحدث نفسك بالخروج فأنا في دعة وعافية مما فيه أهل المحبوس.
فقال له: لست والله براجع، فإن شئت أن تخرج معي فافعل، فإني سأستظهر لك بشيء أفعله تطيب نفسك به، فاخرج فاتبعني فإنك إن لم تفعل لم تبق بعدي سليماً.
ثم خرج أحمد بن عيسى فأخذ جرة فشالها ليشرب منها، ثم رمى بها من قامته فما تحركوا، وخرج لوجهه.
وتبعه القاسم، فلما صارا خارج الدار خالف كل واحد منهما طريق صاحبه، وافترقا واتعدا لموضع يلتقيان فيه.
فلقي أحمد بن عيسى مولى للفضل بن الربيع، فدنا يتعرفه، فعارضه في الطريق. فصاح به: تنح يا ماص كذا وكذا، فخافه فتنحى وظن أنه أطلق، وجاء إلى الدار التي كان فيها محبوساً فنظر إلى الحرس وهم نيام فأنبهم وسألهم عن الخبر، فأيقنوا بالشر، ومضوا في طلب الرجلين، ففاتاهم فلم يقدروا عليهما.
ومضى أحمد بن عيسى حتى أتى منزل محمد بن إبراهيم الذي يقال له: إبراهيم الإمام، فقال لغلامه: قل له أحمد بن عيسى بن زيد. فدخل الغلام فأخبره، وعرف مولاه الخبر فقال له: ويحك هل رآه أحد؟ قال: لا، قال: أدخله، فدخل فسلم عليه وعرفه الخبر وقال له: لقد رأيتك موضعاً لدمي، فاتق الله في. فأدخله منزله وستره.
ولم يزل مدة ببغداد مستتراً، وقد بلغ الرشيد خبره، فوضع الرصد في كل موضع، وأمر بتفتيش كل دار يتهم صاحبها بالتشيع وطلب أحمد فيها، فلم يزل ذلك دأبه حتى أمكنه التخلص، فمضى إلى البصرة فأقام بها.
وقد اختلف أيضاً في تخلصه كيف كان، فلم نذكره كراهة الإطالة، إلا أن أقرب ذلك إلى الحق ما ذكره النوفلي من أن محمد بن إبراهيم كان له ابن منهوم بالصيد، فدفع إليه أحمد بن عيسى، وأقسم عليه أن يخرجه في جملة غلمانه متلثماً متنكراً، ولا يسأله عن شيء حتى يوافي به المدائن، ويخرجه عنها إلى نحو فرسخ من خارجها، وينتظر حتى يمر به زورق منحدر فيقعده فيه ويحدره إلى البصرة، ففعل ذلك، ونجا أحمد فمضى إلى البصرة.
رجع الحديث إلى حكاية هارون بن محمد: قال: ثم إن الرشيد دعا برجل من أصحابه يقال له: ابن الكردية، واسمه يحيى بن خالد فقال له: قد وليتك الضياع بالكوفة، فامض إليها وتول العمل بها، وأظهر أنك تتشيع، وفرق الأموال في الشيعة حتى تقف على خبر أحمد بن عيسى.
فمضى ابن الكردية هذا ففعل ما أمر به، وجعل يفيض الأموال في الشيعة ويفرقها عليهم ولا يسألهم عن شيء حتى ذكروا له رجلاً منهم يقال له: أبو غسان الخزاعي، فأطنبوا في وصفه، وأعرض عنهم ولم يكشفهم عنه إلى أن ذكروه مرة أخرى فقال: وما فعل هذا الرجل؟ إنا إليه لمشتاقون، قالوا: هو مع أحمد بن عيسى بالبصرة، فكتب بذلك إلى الرشيد، فأمره بالرجوع إلى بغداد، ثم ولاه البصرة مثل ما كان ولاه بالكوفة، فمضى إليها.
وكان مع أحمد بن عيسى بن زيد رجل من أصحاب يحيى بن عبد الله يقال له: حاضر، وكان ينقله من موضع إلى موضع، حتى أنزله في دار يقال لها: دار عاقب في العتيك، وكان لا يظهره لأحد، ويقول: إنما نزل في تلك الناحية هرباً من دين عليه. قال: فحدثني يزيد بن عيينة أنه كان يخرج إليهم فيقول لهم: علي دين ويسألهم. قال: فيقولون له: لو طلبك السلطان لم يقدر عليك فكيف لمن له عليك دين.(1/159)


قال: وجاء ابن الكردية هذا إلى البصرة ففعل ما فعله بالكوفة، وجعل يفرق الأموال في الشيعة حتى ذكروا له حاضراً وأحمد بن عيسى، فتغافل عنهم، ثم أعادوا ذكره بعد ذلك فتعرض لهم بذكره ولم يستقصه، ثم عاودوه فقال لهم: إني أحب أن ألقى هذا الرجل، فقالوا له: لا سبيل إلى ذلك. قال: فاحملوا إليه مالاً يستعين به، وأعلموه أني لو قدرت على أن أعطيه جميع مال السلطان لفعلت، فأخذوا المال وحملوه إلى حاضر فقبله، وجعل ابن الكردية يتابع الأموال إلى حاضر بعضها ببعض حتى أنسوا به واطمأنوا إليه، فقال لهم يوماً: ألا يجيئنا هذا الشيخ؟ فقالوا له: لا يمكن ذلك. قال: فليأذن لنا نأته نحن. قالوا: نسأله ذلك، فأتوه وسألوه إياه فقال: لا والله لا آذن له أبداً، ويحكم ألا تنتهون؟ هذا والله محتال: فقالوا له: لا والله ما هو بمحتال. فلم يزالوا به حتى أجابهم إلى أن تلقاه، فلما كان الليل قال لأحمد بن عيسى: قم فاخرج إلى موضع آخر، فإن ابتليت سلمت أنت، فخرج أحمد، وبعث ابن الكردية إلى أحمد بن الحرث الهلالي، وكان أمير البصرة يأمره أن يبعث بالرجال إليه ليهجموا عليه حيث يدخل، ومضى هو حتى أتى الدار، وبعث بغلامه حتى جاء معه بالرجال فهجموا على حاضر، فقال لابن الكردية: ويلك غررتني بالله. قال: ما فعلت، ولعل السلطان أن يكون قد بلغه خبرك. فأخذ فأتى به محمد بن الحارث فحبسه ليلته، فلما كان من غد اجتمع الناس إليه، وأمر من أتاه بحاضر فجيء به فقال له: اتق الله في دمي، فوالله ما قتلت نفساً، ولا أخفت السبيل، فسمعته يقول: جاءوا بحاضر ولا أعلمه صاحبي الذي كان يجالسني، ويذكر أنه مستتر من غرمائه، فأدخل عليه، فخشيت أن يلحقني ما لا أحب، فنظر إلي نظرة فتوقعت أن يكلمني أو يستشهدني كما يفعل المستغيث فما فعل من ذلك شيئاً، إنما لحظني لحظة ثم حول وجهه عني كأنه لم يعرفني قط، فقال له محمد بن الحرث: إن أمير المؤمنين غير متهم عليك، فحمله إليه. فأتى به هارون الرشيد وهو في الشماسية، فأحضره وأحضر الحازمي رجلاً من ولد عبد الله بن حازم، وكان قد أخذ له بيعة ببغداد فوقعت في يد الرشيد فبدأ به، ثم قال: جئت من خراسان إلى دار مملكتي تفسد علي أمري وتأخذ بيعة؟.
قال: ما فعلت يا أمير المؤمنين.
قال: بلى والله قد فعلت، وهذه بيعتك عندي، والله لا تبايع أحداً بعدها. ثم أمر به فأعقد في النطع وضرب عنقه.
ثم أقبل على حاضر فقال: هيه صاحب يحيى بن عبد الله بالحيل، عفوت عنك وأمنتك، ثم صرت تسعى علي مع أحمد بن عيسى تنقله من مصر إلى مصر، ومن دار إلى دار كما تنقل السنور أولادها، والله لتجيئني به أو لأقتلنك.
قال يا أمير المؤمنين، بلغك عني غير الحق.
قال: والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك.
قال: إذاً أخاصمك بين يدي الله.
قال: والله لتجيئني به أو لأقتلنك وإلا فأنا نفي من المهدي.
قال: والله لو كان تحت قدمي ما رفعتها لك عنه، أنا أجيئك بابن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تقتله؟ افعل ما بدا لك.
فأمر هرثمة فضربت عنقه، وصلب مع الحازمي ببغداد.
هذه رواية النوفلي.
والصحيح الذي ذكرته متقدماً أن المهدي قتله لأنه طالبه بعيسى بن زيد فقتله ولكن ذكرت كل ما روى في ذلك.
وأخبرني علي بن الحسين بن علي بن حمزة العلوي، عن عمه محمد بن علي بن حمزة، عن المدائني، عن الهيثم، ويونس بن مرزوق: أن رجلاً رفع إلى صاحب البريد بأصبهان، أن أحمد بن عيسى وحاضراً بالبصرة وكور الأهواز يترددان، فكتب الرشيد في حملهما والقدوم بهما عليه، وكتب إلى أبي الساج وهو على البحرين، وإلى خالد بن الأزهر، وهو على الأهواز، وإلى خالد طرشت وكان على بريد طريق السند، بالسمع والطاعة لصاحب بريد أصبهان، وأمر له بثلاثين ألف، وأمره بالمصير إلى هذه النواحي، وطلب أحمد بن عيسى.(1/160)

32 / 36
ع
En
A+
A-