قلت هات خاتمك، فأعطاني خاتمه، فأنفذته مع خاتمي إلى عبد الله بن طاهر مع رجل دفعت إليه فرساً من تلك الخيل يركبه، وجنيبة يجنبها مخافة أن يعثر فرسه، وأمرت بعض أصحابي بدخول الغرفة، فقال لي: ما تريد من دخول الغرفة وقد أخذتني وليس هناك أحد؟ فلم ألتفت إليه، وأمرت أصحابي فدخلوا الغرفة ففتشوها فوجدوا أبا تراب تحت نقير، والنقير شبيه بالحوض من خشب يعجن فيه الدقيق ويعصر فيه العنب، فأخذتهما واستوثقت منهما بالقيود الثقيلة، وكتبت إلى عبد الله بن طاهر بخبرهما، وسرت إلى نيسابور ستة أيام، فصيرت محمد بن القاسم في بيت في داري، ووكلت به من أثق به من أصحابي، ووكلت بأبي تراب عبد الشعراني، فوضع محمد كساءه وقام يصلي، وعبد الله يشرف من غرفة في الشادياج علينا، فلما فرغت من الاحتياط صرت إلى عبد الله بن طاهر فأخبرته الخبر وقصصته عليه شفاهاً، فقال لي: لا بد من أن أنظر إليه، فصار إلي مع المغرب وعليه قميص وسراويل ونعل وزداء، وهو متنكر، فلما نظر إلى محمد بن القاسم وثقل الحديد عليه قال لي: ويلك يا إبراهيم، أما خفت الله في فعلك؟ أتقيد هذا الرجل الصالح بمثل هذا القيد الثقيل؟ فقلت أيها الأمير خوفك أنساني خوف الله، ووعدك الذي قدمته إلي أذهل عقلي عما سواه.
فقال لي: خفف هذا الحديد كله عنه، وقيده بقيد خفيف في حلقته رطل بالنيسابوري - ووزن الرطل النيسابوري مائتا درهم - وليكن عموده طويلاً وحلقتاه واسعتين ليخطو فيه، ومضى وتركه.
فأقام بنيسابور ثلاثة أشهر يريد بذلك أن يعمي خبره على الناس كيلا يغلب عليه لكثرة من بايعه بكور خراسان.
وكان عبد الله بخرج من إصطبله بغالاً عليها القباب ليوهم الناس أنه قد أخرجه، ثم يردها حتى استتر بنيسابور سله في جوف الليل وخرج به مع إبراهيم بن غسان الذي أسره من نسا ووافى به الري، وقد أمره عبد الله بن طاهر أن يفعل به كما فعل هو، يخرج في كل ثلاث ليال ومعه بغل عليه قبة ومعه جيش حتى يجوز الري بفراسخ، ثم يعود، إلى أن يمكنه سله في ليلة مظلمة، ففعل ذلك خوفاً من أن يغلب عليه لكثرة من أجابه، حتى أخرجه من الري، ولم يعلم به أحد، ثم اتبعه حتى أورده بغداد على المعتصم.
قال إبراهيم بن غسان: فعرضوا على محمد بن القاسم كل شيء نفيس من مال وجوهر وغير ذلك، فلم يقبل إلا مصحفاً جامعاً كان لعبد الله بن طاهر، فلما قبله سر عبد الله بذلك وإنما قبله لأنه كان يدرس فيه.
قال: وما رأيت قط أشد اجتهاداً منه، ولا أعف ولا أكثر ذكر الله عز وجل مع شدة نفس، واجتماع قلب، ما ظهر منه جزع ولا انكسار، ولا خضوع في الشدائد التي مرت به، وأنهم ما رأوه قط مازحاً ولا هازلاً ولا ضاحكاً إلا مرة واحدة، فإنهم لما انحدروا من عقبة حلوان أراد الركوب، فجاء بعض أصحاب إبراهيم بن غسان فطأطأ له ظهره، حتى ركب في المحمل على البغل، فلما استوى على المحمل قال للذي حمله على ظهره مازحاً: أتأخذ أرزاق بني العباس وتخدم بني علي بن أبي طالب! وتبسم، وكان يقال للرجل محمد الشعراني، وكان من شيعة ولد العباس الخراسانية.
فقال له: جعلت فداك، ولد علي وولد العباس عندي سواء، فما سمعناه مزح ولا رأيناه تبسم قبل ذلك ولا بعده، ولا رأيناه اغتم من شيء جرى عليه إلا يوم ورد عليه كتاب المعتصم وقد وردنا النهروان، فكتبنا إليه بالخبر واستأذناه في الدخول به، فورد علينا كتابه يأمرنا أن نأخذ جلال القبة ونسير به مكشوفاً، وإذا وردنا النهرين أن نأخذ عمامته وندخله بغداد حاسراً وذلك قبل أن يبني سر من رأى، فلما أردنا الرحيل به من النهروان نزعنا جلال القبة، فسأل عن السبب في ذلك فأخبرناه، فاغتم بذلك. ولما صرنا بالنهرين قلنا له يا أبا جعفر: انزع عمامتك فإن أمير المؤمنين أمر أن تدخل حاسراً، فرمى بها إلي ودخل الشماسية في يوم النيروز، وذلك في سنة تسع عشرة ومائتين، وهو في القبة وهي مكشوفة وهو حاسر، وعديله شيخ من أصحاب عبد الله بن طاهر، وأصحاب السماجة بين يديه يلعبون، والفراغنة يرقصون، فلما رآهم محمد بكى ثم قال: اللهم إنك تعلم إني لم أزل حريصاً على تغيير هذا وإنكاره.(1/151)


قال: وجعلت الفراغنة يحملون على العامة ويرمونهم بالقذر والميتة، والمعتصم يضحك، ومحمد بن القاسم يسبح ويستغفر الله ويحرك شفتيه يدعو عليهم، والمعتصم جالس في جوسق كان له بالشماسية ينظر إليهم، ومحمد واقف.
ولما فرغ من لعبه مروا بمحمد بن القاسم عليه، فأمر بدفعه إلى مسرور الكبير، فدفع إليه، فحبس في سرداب شبيه بالبئر فكاد أن يموت فيه، وانتهى ذلك إلى المعتصم فأمر بإخراجه منه، فأخرجه وحبس في قبة في بستان موسى مع المعتصم في داره، ووكل به مسرور عدة من غلمانه وثقاته، وكانت في القبة التي هو فيها محبوس عدة روازن وكوى وساعة الضوء، فطلب مقراضاً يكون عنده يقص به أظفاره، فدفع إليه، فعمد إلى لبد كان تحته فقطع نصفه بالمقراض وقصصه كهيئة السيور، وعمل منه مثل السلم، وطلب منهم سعفة ذكر أنه يريد أن يطرد بها الفأر؛ فإنه يأكل خبزه فينجسه عليه، فأعطوه فقطعها، وخرز حواليها بالمقراض حتى كسرها ثلاث قطع، وقرنها بمسواكه وجعلها في رأس السلم، وحلق به في أقرب روزنة من تلك الروازن إليه فعلق فيها، وتسلق عليه، وجذبه إليه لما صعد فنجا، وكانت ليلة الفطر من سنة تسع عشرة ومائتين، وقد أدخلت الفواكه والرياحين وآلة العيد على رؤوس الحمالين إلى البستان، وصار الحمالون جميعاً إلى القبة التي فيها محمد بن القاسم، فباتوا حولها، ورموا بناتيجهم وناموا، فرمى بنفسه من القبة إلى أسفل، ونام بين الحمالين، وتحركت خرزة من فقار ظهره ولم تنفك، فنام بين الحمالين ثم عجل فأخذ بنتيجة أحدهم وذهب ليخرج فقال أحد البوابين: من أنت؟ فقال: أحد الحمالين أردت الانصراف إلى أهلي فقال له: نم عندي مكانك لا يأخذك العسس، فنام عنده. فلما طلع الفجر خرج الحمالون، وخرج معهم وأفلت، فلما أصبحوا فتحوا الباب فلم يجدوه، فأعلموا مسروراً بخبره، فدخل على المعتصم، حافياً مستسلماً للقتل وأعلمه الخبر، فقال له المعتصم: لا بأس عليك، إن كان ذهب فلن يفوت، إن ظهر أخذناه، وإن آثر السلامة واستتر تركناه.
فقال مسرور بعد ذلك: هذا من تفضل أمير المؤمنين علي، ولو جرى هذا في أيام الرشيد لقتلني.
فقيل: إنه رجع إلى الطالقان فمات بها.
وقيل: إنه انحدر إلى واسط، وذلك الصحيح.
قال محمد بن الأزهر في خبره: فرأيت محمد بن القاسم يوم أدخل إلى بغداد، كان ربعة من الرجال أسمر، في وجهه أثر جدري، قد أثر السجود في وجهه.
قال: وحدثني علي بن محمد الأزدي، والحسين بن موسى بن منير: أن محمد بن القاسم لما هرب صار إلى قطيعة الربيع إلى منزل منير بن موسى بن منير، فنقله إلى منزل إبراهيم بن قيس، فاجتمعا إليه وقالا له: إن الطلب لك سيشتد، وليست بغداد لك بمنزل فارحل من وقتك قبل أن يشتد عليك الطلب إلى واسط فانحدر إلى واسط، وقد شد وسطه للوهن الذي أصاب فقار ظهره، فلما صار بواسط مات رحمة الله عليه.
قال علي بن محمد الأزدي: فحدثني ابنه علي بن محمد بن القاسم الصوفي: أنه لما صار إلى واسط عبر بها دجلة إلى الجانب الغربي، فنزل إلى أم ابن عمه، علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين، وكانت عجوزاً مقعدة، فلما نظرت إليه وثبت فرحاً به وقالت: محمد والله، فدتك نفسي وأهلي، الحمد لله على سلامتك، فقامت على رجلها، وما قامت قبل ذلك بسنين، فأقام عندها مديدة، ومرضته من الوهن الذي أصاب ظهره حتى مات بواسط.
وذكر أحمد بن الحرث الخراز: أن محمد بن القاسم لما هرب عبر من الجانب الغربي، فلما حصل في دجلة نظر فإذا معه في المعبر شيخ من الرجالة الموكلين به، كان محمد يراه من خلف الباب فعرفه محمد ولم يعرفه الشيخ، فلما أراد الخروج قال له الملاح: أعطني أجري، فحلف له ما معي شيء، ولا يملك غير الجبة الصوف التي عليه، فرق له الشيخ الموكل فأعطى الملاح أجرته من عنده.
قال أحمد: وتوارى محمد بن القاسم أيام المعتصم، وأيام الواثق، ثم أخذ في أيام المتوكل، فحمل إليه فحبس حتى مات في محبسه.
قال: ويقال إنه دس إليه سماً فمات منه.
حدثني أحمد بن سعيد، قال: حدثني عبيد بن حمدون، قال: سمعت عباد بن يعقوب، يقول:(1/152)


كنت أنا ويحيى بن الحسن بن الفرات الفراز، مع محمد بن القاسم في زورق نريد الرقة، ومعنا جماعة من أهل هذه الطبقة، فظهرنا من مذهبه إلى أنه يقول بالاعتزال، فخرجنا وتركناه، فجعل يبكي ويسألنا الرجوع، فلم نفعل.
عبد الله بن الحسين بن عبد الله
وعبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام امتنع من لبس السواد، وخرقه لما طولب بلبسه، فحبس بسر من رأى حتى مات في حبسه، رضوان الله عليه.
أيام الواثق
أيام الواثق بن المعتصم
قال أبو الفرج علي بن الحسين: لا نعلم أحداً قتل في أيامه، إلا أن علي بن محمد بن حمزة ذكر أن عمرو بن منيع، قتل علي بن محمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين، ولم يذكر السبب في ذلك، فحكيناه عنه على ما ذكر، فقتل في الواقعة التي كانت بين محمد بن ميكال ومحمد بن جعفر هذا بالري.
وكان آل أبي طالب مجتمعين بسر من رأى في أيامه تدور الأرزاق عليهم حتى تفرقوا في أيام المتوكل.
أيام المتوكل ومن ظهر فيها فقتل أو حبس
ذكر أيام المتوكل جعفر بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد، ومن ظهر فيها فقتل أو حبس من آل أبي طالب عليهم السلام وكان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب، غليظاً على جماعتهم مهتماً بأمورهم شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق له أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزيره يسيء الرأي فيهم، فحسن له القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله، وكان من ذلك أن كرب قبر الحسين وعفى آثاره؛ ووضع على سائر الطرق مسالح له لا يجدون أحداً زاره إلا أتوه به فقتله أو أنهكه عقوبة.
فحدثني أحمد بن الجعد الوشاء، وقد شاهد ذلك، قال: كان السبب في كرب قبر الحسين أن بعض المغنيات كانت تبعث بجواريها إليه قبل الخلافة يغنين له إذا شرب، فلما وليها بعث إلى تلك المغنية فعرف أنها غائبة، وكانت قد زارت قبر الحسين، وبلغها خبره، فأسرعت الرجوع، وبعثت إليه بجارية من جواريها كان يألفها، فقال لها: أين كنتم؟ قالت: خرجت مولاتي إلى الحج وأخرجتنا معها، وكان ذلك في شعبان. فقال: إلى أين حججتم في شعبان؟ قالت: إلى قبر الحسين، فاستطير غضباً، وأمر بمولاتها فحبست، واستصفى أملاكها، وبعث برجل من أصحابه يقال له: الديزج، وكان يهودياً فأسلم، إلى قبر الحسين، وأمره بكرب قبره ومحوه وإخراب كل ما حوله، فمضى لذلك وخرب ما حوله، وهدم البناء وكرب ما حوله نحو مائتي جريب، فلما بلغ إلى قبره لم يتقدم إليه أحد، فأحضر قوماً من اليهود فكربوه، وأجرى الماء حوله، ووكل به مسالح بين كل مسلحتين ميل، لا يزوره إلا أخذوه ووجهوا به إليه.
فحدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: بعد عهدي بالزيارة في تلك الأيام خوفاً، ثم عملت على المخاطرة بنفسي فيها وساعدني رجل من العطارين على ذلك، فخرجنا زائرين نكمن النهار ونسير الليل حتى أتينا نواحي الغاضرية، وخرجنا منها نصف الليل فسرنا بين مسلحتين وقد ناموا حتى أتينا القبر فخفي علينا، فجعلنا نشمه ونتحرى جهته حتى أتيناه، وقد قلع الصندوق الذي كان حواليه وأحرق، وأجرى الماء عليه فانخسف موضع اللبن وصار كالخندق، فزرناه وأكببنا عليه فشممنا منه رائحة ما شممت مثلها قط كشيء من الطيب، فقلت للعطار الذي كان معي: أي رائحة هذه؟ فقال: لا والله ما شممت مثلها كشيء من العطر، فودعناه وجعلنا حول القبر علامات في عدة مواضع.
فلما قتل المتوكل اجتمعنا مع جماعة من الطالبيين والشيعة حتى صرنا إلى القبر فأخرجنا تلك العلامات وأعدناه إلى ما كان عليه.
واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس، ومنع الناس من البر بهم، وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشيء وإن قل إلا أنهكه عقوبة، وأثقله غرماً، حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة، ثم يرقعنه ويجلسن على معازلهن عواري حواسر، إلى أن قتل المتوكل، فعطف المنتصر عليهم أحسن إليهم، ووجه بمال فرقه فيهم، وكان يؤثر مخالفة أبيه في جميع أحواله ومضادة مذهبه طعناً عليه ونصرة لفعله.
محمد بن صالح بن عبد الله(1/153)


فممن خرج في أيامه وأخذ فحبس أبو عبد الله محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وكان من فتيان آل أبي طالب وفتاكهم وشجعانهم وظرفائهم وشعرائهم.
كان خرج بسويقة وجمع الناس للخروج، وحج بالناس في تلك السنة أبو الساج فخافه عمه على نفسه وولده وأهله، فسلمه إليه، وهو لذلك من عمه آمن على أمان استوثق لمحمد بن صالح، فحمله إلى سر من رأى، فحبس بها مدة ثم أطلق وأقام بها سنين حتى مات رحمة الله عليه.
حدثني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن أبي خيثمة، قال: كان محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى خرج بسويقة واجتمع له، وحج بالناس أبو الساج فقصده، وخاف عمه موسى بن عبد الله أبا الساج على نفسه وولده وأهله، فضمن لأبي الساج تسليمه، وتوثق له بالأيمان والأمان، وجاء عمه إليه فأعلمه ذلك، وأقسم عليه ليلقين سلاحه، ففعل، وخرج إلى أبي الساج فقيده وحمله إلى سر من رأى مع جماعة من أهله، فلم يزل محبوساً بها ثلاث سنين ثم أطلق، وأقام بها إلى أن مات، وكان سبب منيته أنه جدر فمات في الجدري. قال: وهو الذي يقول في الحبس:
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه ... وتشعبت شعباً به أشجانه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى ... برق تألق موهناً لمعانه
يبدو كحاشية الرداء ودونه ... صعب الذرا متمنع أركانه
فدنا لينظر أين لاح فلم يطق ... نظراً إليه ورده سجانه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعه ... والماء ما سحت به أجفانه
ثم استعاذ من القبيح ورده ... نحو العزاء عن الصبا إيقانه
وبدا له أن الذي قد ناله ... ما كان قدره له ديانه
حتى استقر ضميره وكأنما ... هتك العلائق عاملٌ وسنانه
يا قلب لا يذهب بحلمك باخل ... بالنيل باذل تافه منانه
يعد القضاء وليس ينجز موعداً ... ويكون قبل قضائه ليانه
خدل الشوى حسن القوام مخصر ... عذب لماه طيب أردانه
واقنع بما قسم الإله فأمره ... ما لا يزال عن الفتى إتيانه
والبؤس فإن لا يدوم كما مضى ... عصر النعيم وزال عنك أوانه
فحدثني عمي الحسين بن محمد، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: كنت مع أبي عبد الله محمد بن علي بن صالح بن علي الحسني في منزل بعض أصحابنا، فأقام عندنا حتى انتصف الليل، وأنا أظنه يبيت بمكانه، فإذا هو قد قام فتقلد سيفه وخرج، فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت، وسألته المقام والمبيت، وأعلمته خوفي عليه، فالتفت إلي مبتسماً وقال:
إذا ما اشتملت السيف والليل لم أهل ... بشيء ولم تقرع فؤادي القوارع
أخبرني عمي الحسين بن محمد، والحسين بن قاسم، قالا: حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال: مر محمد بن صالح بقبر لبعض بني المتوكل، فرأى الجواري يلطمن عنده فأنشدني لنفسه:
رأيت بسامرا صبيحة جمعة ... عيوناً يروق الناظرين فتورها
تزور العظام الباليات لدى الثرى ... تجاوز عن تلك العظام غفورها
فلولا قضاء الله أن تعمر الثرى ... إلى أن ينادي يوم ينفخ صورها
لقلت عساها أن تعيش وأنها ... ستنشر من جرا عيون تزورها
أسيلات مجرى الدمع إما تهللت ... شؤون الأماقي ثم سح مطيرها
بوبل كأتوام الجمان تفيضه ... على نحرها أنفاسها وزفيرها
فيا رحمة ما قد رحمت بواكياً ... ثقالاً تواليها لطفاً خصورها
حدثني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني إبراهيم بن المدبر، قال:(1/154)


جاءنس محمد بن صالح الحسيني وسألني أن أخطب عليه بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحربي أو قال أخته، شك ابن مهرويه، ففعلت ذلك، وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه، فأبى وقال لي: لا أكذبك والله، إني لا أرده لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره، ولكني أخاف المتوكل وولده بعده على نعمتي ونفسي، فرجعت إليه فأخبرته بذلك، فأضرب عنه مدة، ثم عاودني بعد ذلك وسألني معاودته فعاودته ورفقت به حتى أجاب وزوجه، فأنشدني محمد بعد ذلك لنفسه:
خطبت إلى عيسى بن موسى فردني ... فلله وإلى مرة وعتيقها
لقد ردني عيسى ويعلم أنني ... سليل بنات المصطفى وعريقها
وأن لنا بعد الولادة بيعةٍ ... بني الإله صنوها وشقيقها
فلما أبى بخلاً بها وتمنعاً ... وصيرني ذا خلة لا أطيقها
تداركني المرء الذي لم يزل له ... من المكرمات رحبها وطريقها
سمي خليل الله وابن وليه ... وحمال أعباء العلا وطريقها
تزوجها والمن عندي لغيره ... فيبايعه وفتني الربح سوقها
ويا نعمة لابن المدبر عندنا ... يجد على كر الزمان أنيقها
قال ابن مهرويه: قال ابن المدبر: وكان اسم المرأة حمدونة، فلما نقلت إليه وكانت امرأة جميلة عاقلة كاملة من النساء، أنشدني لنفسه فيها قوله:
لعمر حمدونة إني بها ... لمغرم القلب طويل السقام
مجاوز للقدر في حبها ... مباين فيها لأهل الملام
مطرح للعذل ماض على ... مخافة النفس وهول المقام
مشايعي قلب يعاف الخنا ... وصارم يقطع صم العظام
جشمني ذلك وجدي بها ... وفضلها بين النساء الوسام
ممكورة الساق ردينية ... مع الشوي الخدل وحسن القوام
صامتة الحجل خفوق الحشا ... مائرة الساق ثقال القيام
ساجية الطرف نؤوم الضحى ... منيرة الوجه كبرق الغمام
زينها الله وما شانها ... وأعطيت منيتها من تمام
تلك التي لولا غرامي بها ... كنت بسامرا قليل المقام
قال أبو الفرج: وقد حدثني بخبره على أتم من هذه الحكاية عمي الحسين بن محمد قال: حدثنا أبو جعفر بن الدهقانة النديم، قال: حدثني إبراهيم بن المدبر، قال: جاءني يوماً محمد بن صالح الحسني بعد أن أطلق من الحبس فقال لي: إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئاً لا يصلح أن يسمعه أحد غيرنا، فقلت: افعل. فصرفت من كان بحضرتي وخلوت معه وأمرت برد دابته، فلما اطمأن وأكلنا واضطجعنا قال لي: أعلمك أني خرجت في سنة كذا وكذا ومعي أصحابي على القافلة الفلانية، فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم وملكنا القافلة، فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال، إذ طلعت على امرأة من عمارية ما رأيت قط أحسن منها وجهاً، ولا أحلى منطقاً، فقالت لي: يا فتى، إن رأيت أن تدعو الشريف المتولي أمر الجيش فإن له عندي حاجة.
فقلت: قد رأيته وسمع كلامك.
فقالت لي: سألتك بالله وبحق رسوله أنت هو؟.
قلت: نعم والله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم إني لهو.
فقالت: أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحربي، ولأبي محل من سلطانه، ولنا نعمة إن كنت سمعت بها فقد كفاك ما سمعت، وإن كنت لم تسمع بها فاسأل عنها غيري، ووالله لا استأثرت عليك بشيء أملكه، ولك علي بذلك عهد الله جل وعز ميثاقه، وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني، وهذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالاً، وهذا حلي علي من خمسمائة دينار فخذه وأضمن لك بعد أخذك إياه ما شئت على حكمك، آخذه لك من تجار مكة والمدينة، ومن أهل الموسم العراقيين؛ فليس منهم أحد يمنعني شيئاً أطلبه وادفع عني واحمني من أصحابك ومن عار يلحقني.(1/155)

31 / 36
ع
En
A+
A-