حدثني أحمد بن عيسى، قال: حدثنا الحسن بن نصر، قال: حدثنا زيد بن المعذل، عن يحيى بن شعيب، عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج، عن الأسود والكندي والأجلخ قالا: توفي أمير المؤمنين علي - عليه السلام - وهو ابن أربع وستين سنة، سنة أربعين في ليلة الأحد لإحدى وعشرين ليلة مضت من شهر رمضان، وولي غسله ابنه الحسن بن علي وعبد الله بن العباس، وكفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قميص. وصلى عليه ابنه الحسن وكبر خمس تكبيرات، ودفن في الرحبة مما يلي أبواب كندة عند صلاة الصبح.
ودعا الحسن بعد دفنه بابن ملجم - لعنه الله - فأتى به فأمر بضرب عنقه، فقال له: إن رأيت أن تأخذ على العهود أن أرجع إليك حتى أضع يدي في يدك بعد أن أمضي إلى الشام فأنظر ما صنع صاحبي بمعاوية فإن كان قتله وإلا قتلته ثم أعود إليك. تحكم في بحكمك، فقال له الحسن: هيهات. والله لا تشرب الماء البارد أو تلحق روحك بالنار، ثم ضرب عنقه فاستوهبت أم الهيثم بنت الأسود النخعية جيفته منه فوهبها لها فأحرقتها بالنار.
حدثني أحمد بن سعيد، قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا يعقوب بن زيد، قال: حدثني ابن أبي عمير، عن الحسن بن علي الخلال، عن جده، قال: قلت للحسن بن علي: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ قال: خرجنا به ليلاً من منزله حتى مررنا به على مسجد الأشعث، حتى خرجنا به إلى الظهر بجنب الغرى.
حدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، قال: حدثنا إسماعيل بن راشد بإسناده، قال: لما أتى عائشة نعى علي أمير المؤمنين - عليه السلام - تمثلت:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى ... كما قر عيناً بالأياب المسافر
ثم قالت: من قتله؟ فقيل: رجل من مراد، فقالت:
فإن يك نائباً فلقد بغاه ... غلام ليس في فيه التراب
فقالت لها زينب بنت أم سلمة: ألعلي تقولين هذا؟ فقالت: إذا نسيت فذكروني، قال: ثم تمثلت:
ما زال إهداء القصائد بيننا ... باسم الصديق وكثرة الألقاب
حتى تركت كأن قولك فيهم ... في كل مجتمع طنين ذباب
قال: وكان الذي جاءها بنعيه سفيان بن أبي أمية بن عبد شمس بن أبي وقاص هذا أو نحوه. حدثني محمد بن الحسين الأشناني، قال: حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا عاصم بن عامر، وعثمان بن أبي شيبة، قالا: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: لما أن جاء عائشة قتل علي عليه السلام سجدت. قال أبو مخنف: وقالت أم الهيثم بنت الأسود النخعية ترثي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - :
ألا يا عين ويحك فاسعدينا ... ألا تبكي أمير المؤمنينا
رزئنا خير من ركب المطايا ... وخيسها ومن ركب السفينا
ومن لبس النعال ومن حذاها ... ومن قرأ المثاني والمئينا
وكنا قبل مقتله بخيرٍ ... نرى مولى رسول الله فينا
يقيم الدين لا يرتاب فيه ... ويقضي بالفرائض مستبينا
ويدعوا للجماعة من عصاه ... وينهك قطع أيدي السارقينا
وليس بكاتم علماً لديه ... ولم يخلق من المتجبرينا
لعمر أبي لقد أصحاب مصر ... على طول الصحابة أوجعونا
وغرونا بأنهم عكوف ... وليس كذاك فعل العاكفينا
أفي شهر الصيام فجعتمونا ... بخير الناس طرا أجمعينا
ومن بعد النبي فخير نفسٍ ... أبو حسن وخير الصالحينا
كأن الناس إذ فقدوا عليا ... نعام جال في بلد سنينا
ولو أنا سئلنا المال فيه ... بذلنا المال فيه والبنينا
أشاب ذؤابتي وأطال حزني ... أمامة حين فارقت القرينا
تطوف بها لحاجتها إليه ... فلما استيأست رفعت رنينا
وعبرة أم كلثومٍ إليها ... تجاوبها وقد رأت اليقينا
فلا تشمت معاوية بن صخر ... فإن بقية الخلفاء فينا
وأجمعنا الإمارة عن تراض ... إلى ابن نبينا وإلى أخينا
ولا نعطي زمام الأمر فينا ... سواه الدهر آخر ما بقينا(1/11)
وإن سراتنا وذوي حجانا ... تواصو أن نجيب إذا دعينا
بكل مهندٍ عضبٍ وجردٍ ... عليهن الكماة مسومينا
أخبرني عمي الحسن بن محمد، قال: أنشدني محمد بن سعد الكناني لبعض بني عبد المطلب يرثي أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يعرف اسمه:
يا قبر سيدنا المجن له ... صلى الإله عليك يا قبر
ما ضر قبراً أنت ساكنه ... أن لايحل بأرضه القطر
فليندين سماح كفك في الثرى ... وليورقن بجنبك الصخر
والله لو بك لم أجد أحداً ... إلا قتلت، لفاتني الوتر
الحسن بن علي
والحسن بن علي بي أبي طالب - عليهما السلام - ويكنى أبا محمد وأمه فاطمة بنت رسول الله " ص " ، وكانت فاطمة تكنى أم أبيها، ذكر ذلك قعنب ابن محرز الباهلي، حدثني به محمد بن زكريا الصحاف، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن الحسين بن زيد بن علي، عن جعفر بن محمد عن أبيه.
وأمها خديجة، تكنى أم هند بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي.
وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم بن هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي.
وأمها هالة بنت " عبد " مناف بن الحارث بن منقد بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي.
وأمها العرقة، وهي قلابة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي. وإنما سميت العرقة لطيب عرقها وعطرها، وكانت مبدنة، وكانت إذا عرقت فاحت رائحة الطيب منها فسميت العرقة.
وأمها عاتكة بنت عبد العزى بن قصي.
وأمها الحظيا وهي ريطة الصغرى بنت كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي.
وأمها مارية ويقال قيلة بنت حذافة بن جمح.
وأمها ليلى بنت عامر الخيار بن غيسان واسمه الحرث بن عبد عمرو بن عمرو بن قوي بن ملكان بن أفضى من خزاعة.
وأمها سلمى بنت سعد بن كعب بن عمرو من خزاعة.
وأمها ليلى بنت عابس بن الظرب بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
وأمها سلمى بنت لؤي بن غالب.
وأمها ليلى بنت محارب بن فهر.
وأمها عاتكة بنت مخلد بن النضر بن كنانة.
وأمها الوارثة بنت الحرث بن مالك بن كنانة.
وأمها مارية بنت سعد بن زيد مناة بن تميم واسمها أسماء بنت جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن ثعلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دغمى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.
وتزوجت خديجة - صلوات الله عليها - قبل رسول الله " ص " رجلين. يقال لأحدهما عتيق بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وولدت له بنتاً يقال لها هند. ثم توفي عنها. فخلف عليها أبو هالة بن النباش بن زرارة بن وقدان بن حبيب بن سلامة بن عدي بن حرزة بن أسيد بن عمرو بن تميم، فولدت له ابناً يقال له هند، وروى عن النبي " ص " ، روى عنه الحسن بن علي بن أبي طالب حديث صفة رسول الله " ص " المشهور، وقال فيه: سألت خالي هند بن أبي هالة عن صفة رسول الله " ص " وكان له وصافاً.
وتوفيت خديجة - رضي الله عنها - قبل الهجرة بثلاث سنين، ولها يومئذٍ خمس وستون سنة. حدثني بذلك الحسن بن علي، قال: حدثنا الحرث بن محمد، قال: حدثنا ابن سعد عن الواقدي. ودفنت بالحجون.
وكان مولد فاطمة - عليها السلام - قبل النبوة وقريش حينئذٍ تبني الكعبة وكان تزويج علي بن أبي طالب إياها في صفر بعد مقدم رسول الله " ص " المدينة، وبنى بها بعد رجوعه من غزوة بدر، ولها يومئذٍ ثماني عشرة سنة.
حدثني بذلك الحسن بن علي، قال: حدثنا الحرث، قال: حدثنا ابن سعد عن الواقدي، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن أبي جعفر بن محمد بن علي.
وكان مولد الحسن في سنة ثلاث من الهجرة.
وكانت وفاته - عليه السلام - بعد عشر سنين خلت من إمارة معاوية، وذلك في سنة خمسين من الهجرة.
وكانت وفاة فاطمة - عليها السلام - بعد وفاة النبي " ص " بمدة يختلف في مبلغها؛ فالمكثر يقول: بستة أشهر. والمقلل يقول: أربعين يوماً؛ إلا أن الثابت في ذلك ما روى عن أبي جعفر محمد بن علي أنها توفيت بعده بثلاثة أشهر.
حدثني بذلك الحسن بن عبد الله ، قال: حدثنا الحرث، عن ابن سعد، عن الواقدي، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر محمد بن علي.
وكان في لسان الحسن بن علي ثقل كالفأفأة.(1/12)
حدثني به محمد بن الحسين الأشناني، قال: حدثنا محمد بن اسماعيل الأحمسي، قال: حدثنا مفضل بن صالح عن جابر، قال: كانت في لسان الحسن رتة، فقال سلمان الفارسي. أتته " من " قبل عمه موسى " بن عمران " - عليه السلام - .
ودس معاوية إليه حين أراد أن يعهد إلى يزيد بعده، وإلى سعد بن أبي وقاص سماً فماتا منه في أيام متقاربة.
وكان الذي تولى ذلك من الحسن زوجته " جعدة " بنت الأشعث بن قيس لمال بذله لها معاوية.
وسنذكر الخبر في ذلك.
وقيل: اسمها سكينة، وقيل: شعثاء، وقيل: عائشة، والصحيح في ذلك جعدة.
بيعته بعد وفاة أمير المؤمنين علي
ذكر الخبر في بيعته بعد وفاة أمير المؤمنين علي " ع " وتسليمه الأمر إلى معاوية والسبب في وفاته حدثني أحمد بن عيسى العجلي، قال: حدثنا حسين بن نصر، قال: حدثنا زيد ين المعذل، عن يحيى شعيب، عن أبي مخنف، قال: حدثني أشعث بن سوار عن أبي إسحاق " السبيعي " عن سعيد بن رويم، وحدثني علي بن إسحاق المخرمي وأحمد بن الجعد، قالا: حدثنا عبد الله بن عمر شكدانه، قال: حدثنا وكيع عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن حبشي، وحدثني علي بن إسحاق، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، قال: حدثنا عمران بن عيينة عن الأشعث، عن أبي إسحاق موقوفاً، وحدثني محمد بن الحسين الخثعمي، قال: حدثنا عباد بن يعقوب، قال: حدثنا عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق، عن هبيرة بن بريم، قال: قال عمرو بن ثابت: كنت أختلف إلى أبي إسحاق " السبيعي " سنة أسأله عن خطبة الحسن بن علي، فلا يحدثني بها، فدخلت إليه في يوم شات وهو في الشمس وعليه برنسه كأنه غول، فقال لي: من أنت؟ فأخبرته، فبكى وقال: كيف أبوك؟ كيف أهلك؟ قلت: صالحون، قال: في أي شيء تردد منذ سنة؟ قلت: في خطبة الحسن بن علي بعد وفاة أبيه.
قال: " حدثني هبيرة بن بريم " ، وحدثني محمد بن محمد الباغندي، ومحمد بن حمدان الصيدلاني، قالا: حدثنا إسماعيل بن محمد العلوي، قال: حدثني عمي علي بن جعفر بن محمد، عن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن زيد بن الحسن، عن أبيه، دخل حديث بعضهم في حديث بعض، والمعنى قريب، قالوا: خطب الحسن بن علي بعد وفاة أمير المؤمنين علي عليه السلام، فقال: لقد قبض في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون بعمل، ولا يدركه الآخرون بعمل ولقد كان يجاهد مع رسول الله " ص " فيقيه بنفسه، ولقد كان يوجهه برايته فيكتنفه جبرئيل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فلا يرجع حتى يفتح الله عليه، ولقد توفي في هذه الليلة التي عرج فيها بعيسى بن مريم، ولقد توفي فيها يوشع بن نون وصي موسى، وما خلف صفراء ولا بيصاء إلا سبعمائة درهم بقيت من عطائه أراد أن يبتاع بها خادماً لأهله.
ثم خنقته العبرة، فبكى وبكى الناس معه.
ثم قال: أيها الناس، من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن محمد " ص " ، أنا ابن البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله عز وجل بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، والذين افترض الله مودتهم في كتابه إذ يقول: " ومن يقترف حسنة نزد فيها حسناً " . فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت.
قال أبو مخنف عن رجاله: ثم قام ابن عباس بين يديه، فدعا الناس إلى بيعته، فاستجابوا له، وقالوا: ما أحبه إلينا وأحقه بالخلافة فبايعوه.
ثم نزل عن المنبر.
قال: ودس معاوية رجلاً من بني حمير إلى الكوفة، ورجلاً من بني القين إلى البصرة يكتبان إليه بالأخبار، فدل على الحميري عند لحام جرير ودل على القيني بالبصرة في بني سليم، فأخذا وقتلا.
وكتب الحسن إلى معاوية: أما بعد، فإنك دسست إلي الرجال كأنك تحب اللقاء، وما أشك في ذلك، فتوقعه إن شاء الله، وقد بلغني أنك شمت بما لا يشمت به ذوو الحجى، وإنما مثلك في ذلك كما قال الأول:
وقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تجهز لأخرى مثلها فكأن قد
وإنا ومن قد مات منا لكالذي ... يروح ويمسي في المبيت ليغتدي
فأجابه معاوية: أما بعد، فقد وصل كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، ولقد علمت بما حدث فلم أفرح ولم أحزن ولم أشمت ولم آس، وإن علي بن أبي طالب كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وأنت الجواد وأنت الذي ... إذا ما القلوب ملأن الصدورا(1/13)
جدير بطعنة يوم اللقا ... ء تضرب منها النساء النحورا
وما مزبدُ من خليج البحا ... ر يعلو الإكام ويعلو الجسورا
بأجود منه بما عنده ... فيعطي الألوف ويعطى البدورا
قال: وكتب عبد الله بن العباس من البصرة إلى معاوية: أما بعد، فإنك ودسك أخا بني قين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال أمية بن الأسكر:
لعمرك إني والخزاعي طارقاً ... كنعجة عاد حتفها تتحفر
أثارت عليها شفرةً بكراعها ... فظلت بها من آخر الليل تنحر
شمت بقوم من صديقك أهلكوا ... أصابهم يوم من الدهر أصفر
فأجابه معاوية: أما بعد، فإن الحسن بن علي قد كتب إلي بنحو ما كتبت به، وأنبأني بما لم أجز ظناً وسوء رأي، وإنك لم تصب مثلكم ومثلي ولكن مثلنا ما قاله طارق الخزاعي يجيب أمية عن هذا الشعر:
فوالله ما أدري وإني لصادق ... إلى أي من يظنني أتعذر
أعنف أن كانت زبينة أهلكت ... ونال بني لحيان شر فأنفروا
قال أبو الفرج: وكان أول شيء أحدث الحسن أنه زاد المقاتلة مائة مائة، وقد كان علي فعل ذلك يوم الجمل، والحسن فعله على حال الاستخلاف، فتبعه الخلفاء من بعد ذلك.
وكتب الحسن إلى معاوية مع جندب بن عبد الله الأزدي: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله الحسن أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الله تعالى عز وجل بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، ومنةً على المؤمنين، وكافة إلى الناس أجمعين " لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين " فبلغ رسالات الله، وقام على أمر الله حتى توفاه الله غير مقصر ولا وان، حتى أظهر الله به الحق، ومحق به الشرك، ونصر به المؤمنين، وأعز به العرب، وشرف به قريشاً خاصة، فقال تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك " فلما توفي صلى الله عليه وسلم تنازعت سلطانه العرب فقالت قريش: نحن قبيلته وأسرته وأولياؤه، ولا يحل لكم أن تنازعونا سلطان محمد في الناس وحقه، فرأت العرب أن القول كما قالت قريش، وأن الحجة لهم في ذلك على من نازعهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم فأنعمت لهم العرب وسلمت ذلك، ثم حاججنا نحن قريشاً بمثل ما حاجت به العرب، فلم تنصفنا قريش إنصاف العرب لها، إنهم أخذوا هذا الأمر دون العرب بالانتصاف والاحتجاج فلما صرنا أهل بيت محمد وأوليائه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا، واستولوا بالاجتماع على ظلمنا ومراغمتنا، والعنت منهم لنا، فالموعد الله، وهو الولي النصير.
وقد تعجبنا لتوثب المتوثبين علينا في حقنا، وسلطان نبينا صلى الله عليه وسلم وإن كانوا ذوي فضيلةٍ وسابقةٍ في الإسلام، فأمسكنا عن منازعتهم مخافةً على الدين أن يجد المنافقون والأحزاب بذلك مغمزاً يثلمونه به، أو يكون لهم بذلك سبب لما أرادوا به من فساده، فاليوم فليعجب المتعجب من توثبك يا معاوية على أمر لست من أهله، لا بفضلٍ في الدين معروف، ولا أثرٍ في الإسلام محمود، وأنت ابن حزب من الأحزاب، وابن أعدى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن الله خيبك وسترد فتعلم لمن عقبى الدار، تالله لتلقين عن قليلٍ ربك، ثم ليجزينك بما قدمت يداك، وما الله بظلام للعبيد.
إن علياً - رضوان الله عليه - لما مضى لسبيله - رمة الله عليه - يوم قبض، ويوم من الله عليه بالإسلام، ويوم يبعث حياً - ولأني المسلمون الأمر بعده، فأسأل الله أن لا يزيدنا في الدنيا الزائلة شيئاً ينقصنا به في الآخرة مما عنده من كرامته، وإنما حملني على الكتاب إليك الإعذار فيما بيني وبين الله سبحانه وتعالى في أمرك، ولك في ذلك إن فعلت الحظ الجسيم، وللمسلمين فيه صلاح، فدع التمادي في الباطل وادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي، فإنك تعلم أني أحق لهذا منك عند الله وعند كل أواب حفيظ، ومن له قلب منيب، واتق الله، ودع البغي، واحقن دماء المسلمين، ما دخل في السلم والطاعة، ولا تنازع الأمر أهله، ومن هو أحق به منك، ليطفئ الله النائرة بذلك، وتجمع الكلمة، وتصلح ذات البين، وإن أنت أبيت إلا التمادي في غيك نهدت إليك بالمسلمين، فحاكمتك حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين.(1/14)
فكتب إليه معاوية: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله أمير المؤمنين إلى الحسن بن علي، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد، فقد بلغني كتابك، وفهمت ما ذكرت به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفضل، وهو أحق الأولين والآخرين بالفضل، كله، قديمه وحديثه، وصغيره وكبيره، فقد والله بلغ فأدى، ونصح وهدى، حتى أنقذ الله به من التهلكة، وأنار به من العمى، وهدى به من الظلالة، فجزاه الله أفضل ما جزى نبياً عن أمته، وصلوات الله عليه يوم ولد ويوم قبض ويوم يبعث حياً.
وذكرت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتنازع المسلمين من بعده، فرأيتك صرحت بتهمة أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وأبي عبيدة الأمين، وحواري الرسول صلى الله عليه وسلم، وصلحاء المهاجرين والأنصار، فكرهت ذلك لك، فإنك امرؤ عندنا وعند الناس غير ظنين، ولا المسيء ولا اللئيم، وأنا أحب لك القول السديد والذكر الجميل.
إن هذه الأمة لما اختلفت بعد نبيها لم تجهل فضلكم، ولا سابقتكم ولا قرابتكم من النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مكانتكم في الإسلام وأهله، فرأت الأمة أن تخرج من هذا الأمر لقريش لمكانها من نبيها، ورأى صلحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم من سائر الناس وعامتهم أن يولوا هذا الأمر من قريش أقدمها إسلاماً وأعلمها بالله وأحبها له وأقواها على أمر الله، واختاروا أبا بكر، وكان ذلك رأي ذوي الحجى والدين والفضيلة والناظرين للأمة، فأوقع ذلك في صدوركم لهم التهمة، ولم يكونوا بمتهمين، ولا فيما أتوا بمخطئين، ولو رأى المسلمون فيكم من يغني غناءه أو يقوم مقامه، أو يذب عن حريم المسلمين ذبه، ما عدولا بذلك الأمر إلى غيره رغبةً عنه، ولكنهم عملوا في ذلك بما رأوه صلاحاً للإسلام وأهله، فالله يجزيهم عن الإسلام وأهله وخيراً.
وقد فهمت الذي دعوتني إليه من الصلح، والحال فيما بيني وبينك اليوم مثل الحال التي كنتم عليها أنتم وأبو بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ولو علمت أنك أضبط مني للرعية، وأحوط على هذه الأمة، وأحسن سياسة، وأقوى على جمع الأموال وأكيد للعدو، لأجبتك إلى ما دعوتني إليه، ورأيتك لذلك أهلاً، ولكني قد علمت أني أطول منك ولاية، وأقدم منك لهذه الأمة تجربة، وأكثر منك سياسة، وأكبر منك سناً، فأنت أحق أن تجيبني إلى هذه المنزلة التي سألتني، فأدخل في طاعتي ولك الأمر من بعدي، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغاً ما بلغ تحمله إلى حيث أحببت ولك خراج أي كور العراق شئت، معونة لك على نفقتك، يجبيها لك أمينك، ويحملها إليك في كل سنة، ولك إلا ستولى عليك بالإساءة ولا تقضي دونك الأمور، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله عز وجل، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام.
قال جندب: فلما أتيت الحسن بن علي بكتاب معاوية قلت له: إن الرجل سائر إليك، فابدأ أنت بالمسير حتى تقاتله في أرضه وبلاده وعمله، فأما أن تقدر أنه يتناولك فلا والله حتى يرى يوماً أعظم من يوم صفين، فقال: أفعل، ثم قعد عن مشورتي وتناسى قولي.
قال: وكتب معاوية إلى الحسن بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله عز وجل يفعل في عباده ما يشاء، " لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب " فاحذر أن تكون منيتك على يد رعاع من الناس، وايئس من أن تجد فينا غميزة، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه وبايعتني وفيت لك بما وعدت، وأجزت لك ما شرطت، وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة:
وإن أحد أسدى إليك أمانة ... فأوف بها تدعى إذا مت وافيا
ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى ... ولا تجفه إن كان في المال فانيا
ثم الخلافة لك من بعدي، فأنت أولى الناس بها، والسلام.
فأجابه الحسن بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، وصل إلي كتابك تذكر فيه ما ذكرت، فتركت جوابك خشية البغي عليك، وبالله أعوذ من ذلك، فاتبع الحق تعلم أني من أهله، وعلي إثم أن أقول فأكذب، والسلام.
فلما وصل كتاب الحسن إلى معاوية قرأه، ثم كتب إلى عماله على النواحي نسخةً واحدة: بسم الله الرحمن الرحيم(1/15)