وروي فيه خبراً ضعيفاً عن أهل الحديث: آل محمد كل تقي، وقد حمله من أنصف من المحدثين على أن المراد الأتقياء من أهل البيت، لإخراج غير الأتقياء على قوله تعالى: ?إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ?[هود:46] الآية، ذكره في الجامع الصغير، وإن دعوى أن المراد بآل محمد أتباعه لبمكان من البطلان لا يحوج معه إلى إقامة برهان، إذ المعلوم أن الله تعالى قد خص من يطلق عليهم هذا اللفظ بأحكام يستحيل أن يراد بها كل الأمة، منها تحريم الزكاة على آل محمد، أفتكون محرمة على كل المؤمنين، فمن مصرفها، ومنها: اختصاصهم بنصيبهم من الخمس، وقد بين الله تعالى الآل بالذرية بقوله تعالى: ?إِنَّ الله اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ، ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ?[آل عمران:33، 34]، وفي هذا كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد.
فإن قيل: إن أهل البيت الذين ذكرت قد صار في كل فرقة منهم طائفة فمن أين لكم التعين، وإنهم قد تجاوزوا الحصر فلا يحصون.
قلنا: والله ولي التوفيق:
أما أولاً: فالمعلوم أنها قد استقرت بين ظهراني الأمة دياناتهم، ومذاهبهم في التوحيد والعدل والإمامة، وغير ذلك، وهم إلى المائة دياناتهم ومذاهبهم على منهج واحد، وصراط مستقيم فمن فارق ذلك الهدى فهو من الظالم لنفسه، وقد فارق الحق، وما كان الله ليحتج به، ?وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا?[هود:113]، ?لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ?[البقرة:124]، ?وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا?[الكهف:51]، وقد صرحت الأدلة ببقاء الحجة فهم المستقيمون على الدين القويم.(1/36)
وأما ثانياً: فليس في الأمة فرقة تدعى بأهل البيت والعترة، وتدعي أن قولها وقول من فيها حجة إلا هؤلاء، وقد علم بالأدلة القاطعة نجاة هذه الفرقة الهادية، التي فيها شعار آل محمد وإظهار دينهم، فلا يعتد بمن خالفهم، ولو لم يكونوا هؤلاء لبطلت الأدلة القاطعة، ولم يبق لها معنى.
وأما ثالثاً: فمن كان في غير هذه الطائفة فهو خامل، تابع غير متبوع لم تظهر له دعوة ولم تقم به حجة، ولا ينتمى إليه، ولم يقل هو، ولا غيره: إنه يجب الاقتداء به، وعلى الجملة فإجماع الأمة على أنه لا يعتد به في إجماع أهل البيت، أما هذه الطائفة فلأن عندهم أن من خرج من فريقهم فهو غير معتد به، وأما غيرهم فلا يقولون به، ولا بغيره، فلو لم يعتد بهؤلاء الذين في طائفة الحق لبطلت الأدلة القاطعة على وجود الحجة والخليفة والسفينة المنجية والأمان.(1/37)
تعيين أهل السنة والجماعة، وبيان أهل البدعة والفرقة
اعلم أنه عظم الخطب، وعم الخبط، وكثرت المنازعة في هذه الأسماء الأربعة وصارت كل فرقة تدعي لها محمودها وتنفي عنها مذمومها، وترمي بها خصومها، والحق ما صح دليله واتضح سبيله، وقد سبق من أدلة الكتاب المبين، وسنة الرسول الأمين صلى الله وسلم عليه وآله المطهرين ما فيه بلاغ لقوم عابدين.
وقد أبان المراد بأبلغ البيان وأقام عليه أقوم البرهان باب مدينة علم أخيه المبين للأمة ما يختلفون فيه من ذلك ما أخرجه الإمام الناطق بالحق أبو طالب عليه السلام بسنده في أماليه قال: سأل ابن الكواء أمير المؤمنين عليه السلام عن السنة والبدعة، وعن الجماعة والفرقة، فقال عليه السلام: يابن الكواء حفظت المسألة فافهم الجواب:
السنة والله سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، والبدعة والله ما خالفها، والجماعة والله أهل الحق وإن قلّوا، والفُرْقَةُ والله متابعة أهل الباطل وإن كثروا.
وأخرج السيوطي في جمع الجوامع في مسند أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. قال: أخرجه وكيع من رواية الإمام المظلوم النفس التقية يحيى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام . ولفظه عن يحيى بن عبد الله بن الحسن عن أبيه قال: كان علي يخطب فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرني من أهل الجماعة ومن أهل الفرقة؟ ومن أهل البدعة؟ فقال: (ويحك أما إذا سألتني فافهم عني ولا عليك ألا تسأل عنها أحداً بعدي، فأما أهل الجماعة فأنا ومن اتبعني وإن قلو وذلك الحق عن أمر الله، وأمر رسوله، وأما أهل الفرقة فالمخالفون لي ولمن اتبعني وإن كثروا، وأما أهل السنة فالمستمسكون بما سنه الله ورسوله وإن قلوا، وأما أهل البدعة فالمخالفون لأمر الله ولكتابه، ولرسوله العاملون برأيهم، وأهوائهم، وإن كثروا وقد مضى منهم الفوج الأول، وبقيت أفواج وعلى الله قصمها عن حدبة الأرض.(1/38)
فقام إليه عمار فقال: يا أمير المؤمنين إن الناس يذكرون الفيء، ويزعمون أن من قاتلنا فهو وماله وأهله فيء لنا وولده، فقام إليه رجل من بكر بن وائل يدعى عباد بن قيس وكان ذا عارضة، ولسان شديد فقال: والله يا أمير المؤمنين: ما قسمت بالسوية، ولا عدلت، وساق إلى قوله: فقال علي عليه السلام إن كنتَ كاذباً فلا أماتك الله حتى تلقى غلام ثقيف، فقال رجل من القوم: ومن غلام ثقيف يا أمير المؤمنين فقال: رجل لا يدع لله حرمة إلا انتهكها، قال: فيموت أو يقتل، قال: بل يقصمه قاصم الجبارين قبله بموت فاحش يحرق منه دبره لكثرة ما يجري من بطنه، يا أخا بكر أنت امرؤ ضعيف الرأي، أو ما علمت أنا لا نأخذ الصغير بذنب الكبير، وأن الأموال كانت لهم قبل الفرقة، وتزوجوا على رشدة، وولدوا على الفطرة، وإنما لكم ما حوى عسكرهم، وما كان في دورهم فهو لهم ميراث وإن عدا علينا أحد منهم أخذناه بذنبه ومن كف عنا لم نحمل عليه ذنب غيره إلى قوله صلوات الله عليه: يا أخا بكر أما علمت أن دار الحرب يحل ما فيها، وأن دار الهجرة يحرم ما فيها إلا بحق فمهلاً مهلاً إلى قوله:(1/39)
فقام عمار فقال: يا أيها الناس إنكم والله إن اتبعتموه وأطعتموه لم يضل بكم عن منهاج قيد شعرة، وكيف يكون ذلك، وقد استودعه رسول الله المنايا، والوصايا، وفصل الخطاب على منهاج هارون بن عمران إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ((أنت مني بمنزلة هارن من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) فضلاً خصه الله به وإكراماً منه لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم حيث أعطاه مالم يعط أحداً من خلقه، ثم قال علي: انظروا رحمكم الله ما تؤمرون فامضوا له فإن العالم أعلم بما يأتي به من الجاهل الخسيس الأخس، فإني حاملكم إن شاء الله إن أطعتموني على سبيل الجنة، وإن كانت ذا مشقة شديدة، ومرارة عتيدة، والدنيا حلوة، والحلاوة لمن اغتر بها من الشقوة، والندامة عما قليل، ثم إني مخبركم أن جيلاً من بني إسرائيل أمرهم نبيهم ألايشربوا من النهر فلجوا في ترك أمره فشربوا منه إلا قليلاً منهم، فكونوا رحمكم الله من أولئك الذين أطاعوا ربهم ولم يعصوا ربهم.
وأما عائشة فأدركها رأي النساء، وشيء كان في نفسها عليّ يغلي في جوفها كالمرجل، ولو دعيت لتنال من غيري ما أتت إلي، لم تفعل، ولها بعد ذلك حرمتها الأولى، والحساب على الله إلى آخر كلامه صلوات الله عليه، وقد ساق السيد الإمام علي بن عبد الله بن القاسم في الدلائل، رواية السيوطي إلى قوله: من حدبة الأرض، قال: فهذه رواية أهل الحديث لها.
وأما رواية الشيعة لها فما أخرجه الحجوري في روضته بإسناده إلى معاذ البصري من طريق العبدي عن أبيه عن جده أن علياً لما فرغ من أهل الجمل نادى بالصلاة جامعة، ثم ساق الحديث إلى أن قال: وصلى بالناس في المسجد الأعظم، وساق لفظ الخطبة، من جملتها الحديث الذي رواه السيوطي عن الإمام يحيى بن عبد الله بلفظه. انتهى.(1/40)