والرويات مفيدة لوقوع ذلك، وتكرر نزول الآية في مقامات عديدة، ومدد مديدة، بل لم يزل صلى الله عليه وآله وسلم يكرر تلاوتها عليهم ودعاءهم بها أشهراً كثيرة، وفي بعضها: ثمانية عشر شهراً، بياناً لكونهم أهل بيته قائلاً صلى الله عليه وآله وسلم : الصلاة يا أهل البيت إنما يريد الله...الآية.
وقد أخبر الله جل جلاله - مؤكداً بالحصر والقصر مبالغة بـ(إنما) حتى كأنه تعالى لا يريد شيئاً سواه - بإذهاب الرجس عنهم، وتطهيرهم تطهيراً تاماً، فأفاد العصمة في الاعتقاد والأقوال، والأفعال لأن ما يتنزه منه غير ذلك ليس بمراد قطعاً.
فإن قيل: لا يلزم من وقوع الإرادة وقوع المراد.(1/31)
قلنا: إدارته تعالى لا تخلو إما أن تتعلق بأفعال عباده أو بأفعاله، إن كان الأول فمسلم عدم الملازمة، لأنه لم يردها منهم إلا على سبيل الاختيار، وقد بنى أمره تعالى على الابتلاء، فهي واقفة على وجود دواعيهم وانتفاء صوارفهم ضرورة، وإن كان الثاني وهو تعلقها بأفعاله تعالى فلا محالة من وقوع المراد إذ لا صارف حينئذٍ إلا ما الله منزه عنه من العجز والبداء، تعالى الله سبحانه: ?إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ?[يس:82]، ?فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ?[هود:107]، وقد أسند الفعلين عزوجل إليه في قوله ليذهب ويطهر صريحاً حقيقة، كما في قوله تعالى: ?يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ?[النساء:26]، ?يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ?[النساء:28]، ?يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ?[البقرة:185]، فكل هذه قد أرادها تعالى وهي واقعة، بخلاف ما أراد وهو موقوف على الاختيار، كقوله تعالى: ?وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ?[النساء:27]، فقد أراد التوبة عليهم - وهي واقفة على اختيارهم - بفعل التوبة قطعاً، عقلاً وسمعاً: ?إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ?[النساء:17]، ?وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ...?الآية[طه:82].
فإن قيل: إذا كان الإذهاب والتطهير فعله عز وجل لزم الجبر وارتفاع التكليف.
قلنا: ليس فعله في ذلك إلا الألطاف والتوفيق، وعلى الجملة هي على معنى العصمة في الأنبياء صلوات الله عليهم، وجماعة الأمة، فما قيل فيها قيل فيها، وكل على أصله، فظهر بهذا انحلال ما ذكره الشيخ ابن تيمية في منهاجه، وتبعه على ذلك محمد بن إسماعيل الأمير، حيث قال بعد إيراد كلامه: قلت وهذا البحث لازم على قواعد الاعتزال بلا ريب. انتهى.(1/32)
هذا وقد علم من صيغة العموم - التي هي الجنس المعرف باللام في الرجس الذي هو ما يستقبح ويستخبث، ومن التطهير المؤكد المطلق عن المتعلق - إذهاب جميع ما يتنزه عنه، فثبت بذلك العصمة على مقتضى الدليل: ?وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ?[الأحزاب:4].
فإن قيل: يدخل في مسمى أهل البيت غيرهم من أهل بيت السكنى، وأهل بيت النسب، وأيضاً الآية واقعة في سياق ذكر الزوجات، فالمقام يقتضي أن يكن مرادات.
قلنا: الأحاديث المتواترة القاطعة معينة للمراد، سواء كانت صارفة من الحقيقة إلى المجاز أو من معينة للمقصود من معاني المشترك، وسواء كان باعتبار وضع لغوي أو شرعي، وأما السياق فالسياق في الأصل ذكره الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وما ذكرن إلا من أجله، فلا بعد في توسيط من هو أخص منهن وأقرب، وقد أبان تعالى تحويل الخطاب، بتذكير الضمير بلا ارتياب، والآية كلام مستقل لا يحتاج إلى ما قبله ولا ما بعده، وبعد هذا كله فدلالة السياق ظنية، والأخبار قطعية، والمظنون يبطل بالقاطع المعلوم، وهي دالة على تعيينهم، وقصرها عليهم من وجوه:
الأول: أنه صلى الله عليه وآله وسلم دعاهم دون غيرهم، ولو شاركهم غيرهم لدعاه إذ هو في مقام البيان.
الثاني: اشتماله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بالكساء ليكون بياناً بالفعل مع القول.
الثالث: أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((اللهم هؤلاء أهل بيتي)). مؤكداً للخبر.
الرابع: تعريف المسند إليه بالإشارة المفيدة لتمييزه أكمل تمييز، كما ذكره أهل المعاني.
الخامس: دفعه لغيرهم كأم سلمة رضي الله عنها، وقال لها: مكانك أنت إلى خير، وفي بعضها: لست من أهل البيت، أنت من أزواج النبي. وفي بعضها: أنت ممن أنت منه، فدل على إخراجها وجميع الأزواج ما تقدم.
فإن قيل في بعض الأخبار، قالت: يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ قال: بلى فادخلي في الكساء فدخلت.(1/33)
قلنا: روايات دفعها أكثر وأصرح، فكانت أرجح وأوضح، مع أنه لم يشر إليها معهم، فلذا قالت: بعد ما قضى دعاءه لابن عمه وابنيه وفاطمة، وقد بين لها ولغيرها أنهم غير داخلين في معنى الآية والدعاء، فكان ذلك على فرض صحته إيناساً، وتطييباً للخاطر، وكذلك ما روي لواثلة بن الأسقع، ولا يضر ذلك بعد البيان القاطع، فليس إلا كقوله تعالى: ?فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي?[إبراهيم:36]، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ((سلمان منا أهل البيت))، ((وشيعتنا منا))، مما علم أن ليس المراد في أحكامهم الخاصة قطعاً وإجماعاً، وإنما هم من جانبهم، ومن المتصلين بهم، والأمر في ذلك جلي، والأمة مجمعة على اختلاف طرائفها على دخولهم، وسواهم يحتاج إلى دليل، ولا دليل بل البرهان القاطع قائم على خلافه، وأيضاً الآية دالة على العصمة قطعاً، ولا قائل من الأمة بعصمة غيرهم، فبان عدم دخول الغير وإلا خرج الحق عن أيدي الأمة قطعاً.
فإن قيل: ورد في لفظ بعض الرواة تفسير الرجس بالشك في دين الله.
قلنا: تفسيره به لا ينفي ما عداه مما علم أنه موضوع له قطعاً لغة وشرعاً، فهو تنصيص على بعض أفراد العام، لعظم التطهير منه ومزيد الاهتمام، مع أنه تفسير للرجس لا غير، والتطهير المؤكد الذي أخبر الله به وحذف متعلقه يقتضي العموم لكل ما يتنزه عنه، ويطلق على إذهابه أنه تطهير كما هو معلوم، ثم إن تلك رواية آحاد فلا تعارض ما علم من معناه الموضوع له.
فإن قيل: الحصر على الأربعة يقتضي أن لا تدخل ذريتهم في الحكم معهم.(1/34)
قلنا: إنما أراد صلى الله عليه وآله وسلم إخراج من يتوهم دخوله ممن عداهم من الموجودين من الأقارب، والأزواج، لقيام القاطع على ذلك، فأما ذريتهم فهم يدخلون في لفظ أهل البيت والعترة، كما يدخل من يوجد من الأمة في مسمى الأمة، وأيضاً أجمعت الأمة على كونهم أهل البيت والعترة، وإنما الخلاف في دخول غيرهم معهم، فتحصل الإجماع عليهم قطعاً، ومن خولف في إدخاله من غيرهم قد قامت تلك البراهين على إخراجه.
هذا ولنا أيضاً على إدخال ذرية الخمسة وبقائهم إلى قيام الساعة، وأن أهل البيت الحجة على الأمة، أخبار التمسك، والسفينة، وأنهم أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان أهل السماء فإذا ذهبوا من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون، وأخبار الإمام المهدي الموعود به لإظهار دين الله، وغير ذلك من الأحاديث المتواترة المعلومة لجميع الأمة، لا تخبوا أنوارها، ولا تأفل شموسها وأقمارها، وهي صريحة في وجوب التمسك بهم، والدخول في سفينتهم، وفي جميع الأحكام، وكونهم الأمان على مرور الأزمان، فهي أصح وأصرح وأقطع للحجة من أدلة إجماع الأمة قطعاً، بل ليس للإجماع العام معهم ثمرة، بل لم يظهر أن المراد بما ورد في الإجماع إلا جماعة العترة، ولذا قال قائلهم:
إجماعنا حجة الإجماع وهو له .... أقوى دليل على ما العلم ينبيه
فإن قيل: المراد بآل محمد فيما ورد بلفظه: أتباعه.
فالجواب: لا شك أنه قد أبلغ المعارضون مستطاعهم في رد ما فضل الله به أهل البيت، فنقول: أما لفظ العترة والذرية فلم يستطع أي معارض المنازعة في اختصاصهم بهما، وكذا أهل البيت، لم يمكن لمدع أن يدعي فيه، غاية الأمر أن يدخل معهم الزوجات، أو يقول: هم آل علي وآل جعفر وآل عقيل، وآل العباس، وأخبار الكساء المعلومة بصيغة الحصر، ورد أم سلمة، وغيرها مانعة من دخول غيرهم، كما أوضحناه، وأما لفظ آل محمد فقد ادعى البعض ذلك.(1/35)