[خامساً: صفة سكوته صلى الله عليه وآله وسلم عند جواز الكلام]
قال: فسألته كيف كان سكوته ؟
قال: كان رسول الله على أربع: على الحلم والحذر والتقدير والتفكر ؛ فأما تقديره: فهي تسوية النظر، والاستماع بين الناس؛ وأما تفكره ففيما يبقى ويفنى.
وجُمع له الصبر في الحلم، فكان لا يغضبه شيء ولا يستفزه.
وجمع له الحذر في أربعة: أخذه، واجتهاده الرأي فيما أصلح أمته، والقيام فيما جمع لهم الدنيا والآخرة.(1/163)
[قصته مع أم معبد وشاتها]
[44] أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الجديدي إملاءً بإسناده عن خالد أخي أم معبد أن رسول الله حين خرج مهاجراً من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر ومولى أبي بكر عامر بن فهيرة ودليلهم عبد الله بن الأريقط الليثي، فمروا على خيمتي أم معبد الخزاعية وكانت امرأة برزة، جلدة تحتبي وتجلس بفناء القبة ثم تسقي وتطعم.
فسألوها لحماً وتمراً يشترونه منها، فلم يصيبوا عندها شيئاً من ذلك، وكان القوم مرملين مسنتين، فنظر رسول الله إلى شاة في كسر الخيمة.
فقال: ((ماهذه الشاة يا أم معبد))؟
قالت: شاة خلفها الجهد عن الغنم.
قال: ((هل بها من لبن))؟
قالت: هي أجهد من ذلك.
قال: ((أتأذنين لي أن أحلبها))؟
قالت: بأبي أنت وأمي، إن رأيت بها من لبن حلباً فاحلبها.
فدعا بها رسول الله فمسح بيده ضرعها وسمّى الله، فتفاجت عليه ودرت فاجترت، فدعا بإناء يربض الرهط، فحلب فيه ثجاً حتى علاه، ثم رفعه إليها فسقاها حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، ثم شرب آخرهم، ثم قال: ((ساقي القوم آخرهم شرباً)).(1/164)
فشربوا جميعاً عَلَلاً بعد نهل، ثم أراضوا ثم حلب فيه ثانياً بعد بدء حتى ملأ الإناء، ثم غادره عندها وارتحلوا.
فما لَبثتْ حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعْنُزاً له حيلاً عجافاً هزلاً، وزحَامهن قليل، فلما رأى أبو معبد اللبن عجب، وقال: من أين لك هذا يا أم معبد والشاة عازب حيال ولا حلوب في البيت؟
قالت: لا والله، إلاّ أنه مرَّ بنا رجل مبارك من حاله كذا وكذا.
قال: صفيه لي يا أم معبد.
قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخلق، لم يَعِبْه نحله، ولم يُزْرِ به صُقْله، وَسِيْم قَسِيْم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وَطف، وفي صهوته صهل، وفي عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، أزج، أقرن، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سماه وعلاه البهاء، أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، أجلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطِق، فصل لا نزر ولا هذر، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، ربعة، لا يُشْنَأ من طول، ولاتقحمه عين من قصر، غصن بين غصنين، وهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره، محفود محشود، لاعابس ولامعتد.
قال أبو معبد: فهو والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ماذكر، ولقد هممت أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.(1/165)
[سماعه صوت خفي بمكة]
وأصبح صوت بمكة عالياً، يسمعون الصوت ولا يرون من صاحبه:
جزى الله ربّ الناس خير جزائهِ .... رفيقيْن قالاَ خيْمتي أم معبدِ
هما نزلاها بالهدى فاهتدت بهِ .... وقد فازَ من أمسى رفيق محمدِ
فيا آل قصي ما زوى الله عنكم .... به من فعالٍ لا يجارى وسؤددِ
ليهن بني كعب مكان فتاتهم .... ومقعدها للمؤمنين بمرصدِ
سَلوا أختكم عن شأْنها وإنائها .... فإنكم إن تسألوا الشاةَ تشهد
دعاها بشاةٍ حائل فتحلبت .... عليه صريحاً ضرّة الشاة مزبد
فغادرها رهْناً لديها كَحالب .... ترددها في مصدرٍ ثم موْردِ(1/166)
[ما قاله حسان بن ثابت بعد سماعه للصوت]
فلما سمع ذلك حسان بن ثابت شبَّب يجاوب الهاتف يقول:
لقد خاب قومٌ زال عنهم نبيهم .... وقدس من يعزى إليه ويغتدي
ترحَّل عن قومٍ فضلت عقولُهم .... وحَل على قومٍ بنور مجددِ
هداهم به بعد الضلالة ربّهم .... وأرشدهم من يتبع الحق يرشدِ
وهل يستوي ضُلال قوم تسفهوا .... عمايتهم هادية كل مهتدي
وقد نزلت منه على أهل يثرب .... فكان هدى حلت عليهم بأسعدِ
نبي يرى مالا يرى الناس كلهم .... ويتلو كتاب الله في كل مسجد
وإن قال في يوم مقالة غائب .... فتصديقها في اليوم أوفي ضحى غدِ
ليهن بني كعب مقام فتاتهم .... ومقعدها للمؤمنين بمرصدِ(1/167)