[صفة منطقه صلى الله عليه وآله وسلم]
قلت: صف لي منطقه.
قال: كان رسول الله متواصل الأحزان، دائم الفكر ليست له راحة، لا يتكلم في غير حاجة، طويل السكوت، يفتتح الكلام ويختمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلم، فصل لافضول ولا تقصير، دمث ليس بالجافي ولا المَهِيْن، يعظم النعمة وإن دَقَّت، ولايذم منها شيئاً، لايذم ذواقاً ولايمدحه، ولا تغضبه الدنيا ومَا كان لها، فإذا تعوطي الحق لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له، و لا يغضب لنفسه، ولا ينتصر لها، إذا أشار أشار بكفه كلها، و إذا تعجب قلبها، و إذا تحدث اتصل بها فضرب براحته اليمنى باطن إبهامه اليسرى، و إذا غضب أعرض وأشاح، وإذا فرح غض طرفه، جُلُّ ضحكه التبَسم، ويفتر عن شيء مثل حب الغمام، فكتمتها الحسين عليه السلام زماناً، ثم حدثته فوجدته قد سبقني إليه وسألته عمَا سألت عنه.(1/158)
[صفة مدخله ومجلسه ومخرجه صلى الله عليه وآله وسلم]
[أولاً: مدخله صلى الله عليه وآله وسلم]
وسأل أباه عن مدخله ومجلسه ومخرجه وشكله، فلم يدع منه شيئاً.
قال الحسين بن علي عليه السلام: سألت أبي عن دخول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كان دخوله صلى الله عليه وآله وسلم مأذوناً له في ذلك، فكان إذا آوى إلى منزله جَزأ دخوله ثلاثة أجزاء: جزءاً لله وجزءاً لأهله، وجزءاً لنفسه، ثم جَزأ جُزْءَه بينه وبين الناس، فيرد ذلك على العامة بالخاصة، ولا يدخر عنهم شيئاً.
قال أبو غسان أو قال أبو جعفر: فشككت، فكان من سيرته في جزء الأمة: إيثار أهل الفضل بإذنه، وقسمته على قدر فضلهم في الدين، فمنهم ذو الحاجة، ومنهم ذو الحاجتين، ومنهم ذو الحوائج، يتشاغل بهم ويشغلهم فيما أصلحهم والأمة من مسألتهم عنه، وإخبارهم بالذي ينبغي لهم ويقول: ((ليبلغ الشاهد الغائب، وأبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته فإنه من أبلغ سلطاناً حاجة من لا يستطيع إبلاغه ثبت الله قدميه يوم القيامة)).
لا يذكر عنده إلاّ ذلك، ولايقبل من أحدٍ غيره، فيدخلون رُوَّاداً ولايفترقون إلاّ عن ذواق، ويخرجون أذلة.(1/159)
[ثانياً: صفة مخرجه صلى الله عليه وآله وسلم]
قال: فسألته عن مخرجه كيف كان يصنع فيه؟
فقال: كان رسو ل لله صلى الله عليه وآله وسلم يخزن لسانه إلاّ مما يعنيهم، ويؤلفهم لا يفرقهم، أو قال: لا ينفرهم، كل كريم آل يضعفه ويسأل بكل حال عنده، ويكرم كريم كل قوم، ويوليه عليهم، ويحذر ا لناس بأن يحترسهم من غير أن يطوي عن أحد بسره ولا خُلُقِه، ويتفقد أصحابه، ويسأل الناس عما في الناس، ويحسِّن الحسن ويقويه، ويقبح القبيح ويوهيه، معتدل الأمر غير مختلف، لا يغفل مخافة أن يغفلوا أو يميلوا، ولا يقصر عن الحق ولا يجوزه، الذين يلونه من الناس خيارهم، وأفضلهم عنده أعمهم نصيحة، وأعظمهم عنده منزلة أحسنهم مواساة ومؤازرة.(1/160)
[ثالثاً: صفة مجلسه صلى الله عليه وآله وسلم]
قال: فسألته عن مجلسه؟
فقال: كان رسول الله لا يجلس ولا يقوم إلاّ عن ذكر، لايوطن الأماكن، وينهى عن إيطانها، وإذا انتهى إلى قوم جلس حيث ينتهي المجلس، ويأمر بذلك، ويعطي كل جلسائه نصيبه، ولا يحسب أن أحداً أكرم عليه من جلسائه منه، من جالسه أو أقامه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف، ومن سأله حاجة لم ينصرف إلاّ بها أو بميسور من القول، قد وسع الناس منه قسطه وخلقه، فصار لهم أباً وصاروا عنده في الحق سواء، مجلسه مجلس حكم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الأصوات، ولا يُؤَبن فيه الحرم ولا تثنى فلتاته، متعادلين يتفاضلون بالتقوى، متواضعين، يوقرون فيه الكبير، ويرحمون فيه الصغير، ويؤثرون ذا الحاجة، ويحفظون الغريب.(1/161)
[رابعاً: صفة سيرته صلى الله عليه وآله وسلم]
قال: قلت: كيف كانت سيرته في جلسائه؟
فقال: كان رسو ل لله صلى الله عليه وآله وسلم دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخّاب ولا فحّاش ولا غياب ولا مزّاح، يتغافل عمَا يشتهي، فلا يؤيس منه ولا يجيب فيه، قد منع نفسه من ثلاث: من المراء، والإكثار، ومَا لا يعنيه، وترك الناس من ثلاث: كان لا يذم أحداً ولايعيّره، ولا يطلب عثراته.
لا يتكلم إلاّ في رجاء ثوابه، إذا تكلم أطرق جلساؤه كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يتنازعون عنده، من تكلم أنصتوا له حتى يفرغ من حديثه، حديثهم عنده حديث أولهم، يضحك مما يضحكون منه ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة في منطقه ومسألته حتى كان أصحابه يستجلبونهم.
ويقول: إذا رأيتم طالب الحاجة يطلبها فأرشدوه إليّ.
ولا يقبل الثناء إلاّ من مكافئ، ولا يقطع على أحد حديثه حتى يجوزه فيقطعه بنهي أو قيام.(1/162)