واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمت إلا ديناً قويماً، وصراطاً مستقيماً، وسبيلاً واحداً وطريقاً قاسطاً، وكفى بقوله عز وجل: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ?[الأنعام: 153]، ونهى أشد النهي عن التفرق بهذه الآية، وأمثالها من الكتاب العزيز، وعن القول عليه سبحانه بغير علم، والجدال بالباطل، قال ذو الجلال: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ?[الشورى:13].(1/11)


افتراق الأمة
هذا وقد وقع علم قطعاً وقوع الافتراق في الدين، وأحاديث افتراق الأمة يصدقها الواقع، وقد قال تعالى: ?وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ?[هود:118، 119] قال نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم في تفسيره: قال الله: ?مُخْتَلِفِينَ? لأن الاختلاف لا يزال أبداً بين المحقين والمبطلين، وهو خبر من الله تعالى عما يكون، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون، فالاختلاف منهم وفيهم، ولذلك نسبه الله إليهم.
وقوله: ?إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ?: يريد المؤمنين فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين، وقوله تبارك وتعالى: ?وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? يقول سبحانه: للمُكْنة مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة، ولولا خلقه لهم كذلك وعلى ما فطرهم من ذلك لما اختلفوا في شيء، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي، ولما كان فيهم مسيء، ولا محسن، ولا كافر، ولا مؤمن... إلخ.
وكلام حفيده الهادي إلى الحق مثل كلامه عليهما السلام، وبمعنى ما ذكراه فسر الآية صاحب الكشاف، وقد قابلت عباراته في تفسيره للآيات فوجدته كثير الملاءمة لكلام من سبقه من الأئمة عليهم السلام ، لا سيما في تخريج الآيات القرآنية على المعاني البيانية، وأصل ذلك أنه معتمد على تفسير الحاكم الجشمي التهذيب، وطريقة الحاكم رضي الله عنه في الإقتداء بمنارهم، والاهتداء بأنوارهم معلومة، وهذا عارض.(1/12)


قد خاض بعض أئمتنا المتأخرون وغيرهم في تعداد الفرق الثلاث والسبعين، منهم: الإمام يحيى، والإمام المهدي عليهما السلام، والقرشي صاحب المنهاج، وما أحسن ما قاله إمام التحقيق الإمام عز الدين بن الحسن عليه السلام في المعراج ما نصه: أقول وبالله التوفيق: أما تعيين الثلاث والسبعين فمما لا ينبغي أن يحاوله أحد منا إلا بتوقيف، فإنه لا يمكن القطع به وبت الاعتقاد. إلى قوله، وأما معرفة الفرقة الناجية فالطريق إليها حاصلة إلى آخر كلامه.
وقد علمت أن دين الله لا يكون تابعاً للأهواء: ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ?[المؤمنين:71]، ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّا تُصْرَفُونَ?[يونس:32]، ?شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ?[الشورى:21]، نعم وقد صار كل فريق يدعي أن الحق معه، والنجاة لمن اتبعه:
وكل يدعي وصلاً لليلى .... وليلى لا تقر لهم بوصل(1/13)


إلا أن نابغة ممن لا مبالاة عندهم بالدين، ومخالفة العقل، والكتاب المبين، ذهبوا إلى تصويب جميع الناظرين، وأغلب هذه الفئة ليس لها مأرب إلا مساعدة أهل السياسة، والتأليف للمفترقين، ولقد جمعوا بين الضلالات، وقالوا بجميع الجهالات، أما علموا أن الله سبحانه أحكم الحاكمين، وأنه يحكم لا معقب لحكمه، وأنه لا هوادة عنده لأحد من خلقه، وأنها لا تزيد طاعتهم واجتماعهم في ملكه، ولا ينقص تفرقهم وعصيانهم من سلطانه: ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ?[فاطر:15]، وقد خاطب سيد رسله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله عز وجل: ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ?[هود:112، 113] مع أنه صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من أهل بدر، فتدبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار، فإذا أحطت علماً بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمت أنه يتحتم عليك عرفان الحق واتباعه، وموالاة أهله والكون معهم، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، ومفارقة الباطل وأتباعه، ومباينتهم ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ?[المائدة:51]، ?لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ?[المجادلة:22]، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ?[الممتحنة:1] في آيات تتلى، وأخبار تملى، ولن تتمكن من(1/14)


معرفة الحق، وأهله إلا بالاعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البينة اللائحة، التي هدي الخلق بها إلى الحق، غير معرج على هوى ولا ملتفت إلى جدال، ولا مراء، ولا مبال بمذهب ولا محام عن منصب، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ?[النساء:135]، وقد سمعت الله ينعي على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وما حكى من تبري بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، وتقطع الأسباب عندهم رؤية العذاب، ولا يروعنك احتدام الباطل وكثرة أهله، ولا يوحشنك اهتضام الحق وقلة حزبه، فإن ربك جلّ شأنه يقول: ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ?[يوسف:103]، ?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ?[سبأ:13]، ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأََرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ?[الأنعام:116].
واعلم - كما أسلفت لك - أن الدعاوى مشتركة بين جميع الفرق، وكلهم يدعي أنه أولى بالحق، وأن سادته وكبراءه أولوا الطاعة، وأهل السنة، والجماعة، ومن المعلوم أنه لا يقبل قول إلاببرهان كما وضح به البيان من أدلة الألباب، ومحكم السنة والكتاب.
وقد علم الله تعالى وهو بكل شيئ عليم أنا لم نبن ما أمرنا كله إلا على الإنصاف، والتسليم لحكم الرب الجليل، بمقتضى الدليل: ?فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ?[الروم:30].(1/15)

3 / 118
ع
En
A+
A-