[خامساً: خبر شق الصدر]
فلم نزل بها حتى أذنت، فرجعنا به فأقمنا أشهراً ثلاثة أو أربعة، فبينما هو يلعب خلف البيوت هو وأخوه في بَهْم لهم إذ أتى أخوه يشُدُ.
قال ابن إسحاق: أخوه ضمرة.
قالت: وأنا وأبوه في البيت فقال: إن أخي القُرشِيّ أتاه رجلان عليهما ثياب بيض فأضْجَعَاه وشقا بطنه، فخرجت أنا وأبوه نشد، فوجدناه قائماً قد انْتَقَع لونه، فلما رأيناه جهش إلينا وبكى.
قالت: فالتزمته أنا وأبوه وضميناه إلينا وقلنا له: ما بالك بأبي أنت؟
قال: أتاني رجلان فأضجعاني وشقا بطني وصنعا بي شيئاً ثم رداه كما هو.
فقال أبوه: والله مَا أرى ابني إلاّ قد أصيب، ألحقيه بنا بأهله فنؤدّيه إليهم قبل أن يظهر مَا نتخوف. فاحتملناه فقدمنا به إلى أمه، فلما رأتنا أنكرت شأننا، وقالت: مَا أرجعكما به قبل أن أسألكما وقد كنتما حريصين على حبسه؟
قلنا: لا شيء إلاّ أن الله قد قضى الرضاعة، وسَرَّنا ما نرى، فقلنا نؤديه كما تحبون أحب إلينا.
قالت: إن لكما شأناً فأخبراني مَا هو.
فلم تدعنا حتى أخبرناها، فقالت: كلا والله لا يصنع الله ذلك به، إن لابني شأناً، أفلا أخبركما خبره؟ إني حملت به فوالله ما حملت حملاً قط كان أخف منه عليّ ولا أيسر، ثم رأيت حين حملته أنه خرج مني نور أضاء منه أعناق الإبل ببصرى، أو قالت: قصور بصرى، ثم وضعته حين وضعت فوالله مَا وقع كما يقع الصبيان، لقد وقع معتمداً بيده على الأرض رافعاً رأسه إلى السماء فدعاه عنكما، فقَبِضَته وانصرفنا.(1/111)
[سادساً: تبشير أهل الزبور بنبوته صلى الله عليه وآله وسلم]
[10] أخبرنا إسحاق بن يعقوب [بن إبراهيم قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سالم المكي، عن عبد الله بن محمد القرشي، قال: حدثنا الحسن بن شادان الواسطي، قال: حدثنا يعقوب بن محمد النهري، عن عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن جعفر المخزومي، عن عون مولى مسور بن مخرمة] عن مسور عن ابن عباس عن أبيه، قال عبد المطلب: قدمت الشام فنزلت على رجل من اليهود، فبصرني رجل من «أهل الديور» فجاءني، فقال:أتأذن لي أن أنظر إلى مكان منك؟
فقلت:إن لم يكن عورة فانظر.
فنظر في إحدى منْخَريّ ثم في الأخرى فقال:أرى في إحداهما نبوة وفي الأخرى ملكاً، وإنّا نجد ذلك في زهرة، فما هذا؟
قلت: لا أدري.
قال: ألك شاعة ؟
قلت: مَا الشاعة؟
قال: زوجة.
قلت: لا.
قال: فإذا قدمت بلدك فتزوج إلى زهرة.
قال: فعمد عبد المطلب فتزوج بِهَالَة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة، فولدت له حمزة، وصفية، ثم زوج ابنه عبد الله آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة.
قالت قريش: فولج عبد الله على آمنة فولدت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم قيضت له حليمة بنت أبي ذؤيبْ وذلك على عامة الناس.(1/112)
[سابعاً: حديث حليمة وما رأت في اليقظة والمنام]
فكانت حليمة تحدث بأن الناس كانوا زمن «مولد» رسول الله في شدة شديدة، وكنت أطوف البراري والجبال أطلب النبات وحشيش الأرض فكنت أقتنع وأصبر، فبينا أنا كذلك وقد خرجت إلى بطحان مكة جعلت لا أمر على شيء من الحشيش والنبات إلاّ استطال لي فأقمت أياماً، فبينا أنا ذات ليلة راقدة إذ أتاني آتٍ في المنام فحملني فقذف بي في نهر من ماء أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وأذكى من الزعفران.
فقال: أكثري من شربه ليكثر لبنك، فشربت.
فقال: ازدادي.
فازددت فرويت.
فانتبهت من المنام وأنا أحْفَل نساء بني سعد لا أطيق، «أن» أُقِل ثديي كأنه الجَرُّ العظيم، ومن حولي من رجال بني سعد ونسائهم بطونهم لاصِقة بالظهور وألوانهم متغيِّرة.
ثم صعدنا يوماً إلى بطحاء مكة نطلب النبات كعادتنا، فسمعنا منادياً ينادي: إن الله تبارك وتعالى ليخرج مولوداً من قريش هذه السنة هو شمس النهار وقمر الليل، طوبى لثدي أرضعته ألا فبادرْنَ إليه يا نساء بني سعد.
قالت: وعزم الناس على الخروج إلى مكة فخرجت على أتان لي تمشى على المجهود منا، فكنت لا أَمُرُ بشيء إلاّ استطال لي، ونوديت: هنيئاً لك يا حليمة.(1/113)
فبينا أنا كذلك إذ برز إليّ من الشعب «من بين الجبلين» من الشعب رجل كالنخلة الباسقة، وبيده حَرْبة تلوح لمعاناً، فرفع يده اليمنى فضرب بطن الحمارة، وقال:يا حليمة مُرّي فقد أمرني الرحمن أن أدفع عنك اليوم، فجعلت أسير حتى نزلنا على فرسخين من مكة، فلما أصبحت دخلت فإذا بعبد المطلب وجمته تضرب منكبيه، فقال لي:من أنت؟
فقلت: امرأة من بني سعد.
قال: مَا اسمك؟
قلت: حليمة.
فضحك، وقال: بخٍ بخٍ حلمٌ وسعد، وقال: هل لك أن ترضعي غلاماً صغيراً يتيماً تسعَدِين به؟
وكأن الله قذف في قلبي أنْ قولي نعم.
فأخذته حتى ركبت أتاني، وحملت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديّ، وكنت أنظر إلى الأتان فَسَجَدَت ثلاث سجدات نحو الكعبة، ورَفَعَتْ رأسها إلى السماء، ومرت تشق دواب القوم، فلم أكن أنزل منزلاً إلاّ أنبت الله فيه عشباً، وأثمر الله لنا ولمواشينا وأغنامنا.
فما زلنا نغرف البركات عندنا وفي بيتنا حتى كنا نفيض على قومنا ويعيشون في أكنافنا، فلما ترعرع كان يخرج وينظر إلى الصبيان يلعبون فيجتنبهم.
فقال لي يوماً: مالي لا أرى إخوتي بالنهار؟
قلت: فدتك نفسي يرعون أغنامناً.
فقال: ابعثي بي غداً معهم.
فلما أصبح دَهَنْتُه وكحلْته وقمّصته، وعمدت إلى جَزَعَة يمانية علقتها في عنقه من العين، وخرج مع إخوته.(1/114)
[رواية أخرى في شق صدره صلى الله عليه وآله وسلم]
فلما كان يوماً آخر إذْ أنا بابني ضمرة يعدو باكياً ينادي: أدركا.. أدركا محمداً.
قالت: قلت: وما قصته؟
قال: مَا أراكما تلحقانه إلاَّ ميتاً.
فأقبلت أنا وأبوه نسعى، فإذا به على ذرْوَة الجبل شاخصاً بعينيه نحو السماء.
فقلت:فدتك نفسي مالذي دهاك؟
فقال: يا أماه خير، بينا أنا قائم مع أخوتي إذ أتاني رَهْط ثلاثة في يد أحدهم إبريق من فضة، وفي يد الثاني طشت من زمردة خضراء، فانطلقوا بي إلى ذروة الجبل فشقوا من صدري إلى عانتي فلم أجد ألماً ولا حساً، وأخرجوا أحشائي وقلبي وغسلوها ثم أعادوها مكانها ثم جاء أحدهم فأَمَرَّ يده من مفرقي إلى منتهى عانتي فالْتَأم، وانكبوا عليّ يقبلوني ويقبلون رأسي وما بين عيني.
«قالت حليمة»: فاحتملته إلى كاهِنٍ، فنظر إلى كفه وقال بأعلى صوته: يا للعرب ياللعرب أبشروا بشر قد اقترب، اقتلوا هذا الغلام واقتلوني معه، فإنه إن أدرك ليسفِّهنّ أحلامكم وليكذِّبنّ أدْيَانَكم. فانتزعته من يده وأتيت به إلى منزلي. فقال الناس: ردِّيه إلى عبد المطلب.
فعزمت عليه، فسمعت منادياً ينادي: هنيئاً لك يا بطحاء مكة وردك نور الأرض وبهاؤها وزينتها، فركبت وحملت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين يديّ حتى أتيت باب مكة، فوضعته لأقضي حاجة، فسمعت هَدَّةً شديدة، فالتفت فلم أره فقلت: معاشر الناس أين صبيي، فواللات والعزى لئن لم أره لأرميّن بنفسي من شاهق هذا الجبل.
فقالوا: ما رأينا شيئاً.
فقال لي شيخ: لا تبكي أنا أدلُّك على من يعلم علمه، ادخلي على هُبَل فاطلبي إليه.
قلت: ثكلتك أمك كأنك لم تر مانزل باللاّت والعزى ليلة ميلاده.
قالت: فدخل على هبل وأنا أنظر إليه، فطاف بهبل أسبوعاً ثم رفعت حاجتي، فما كان إلاّ أن انكب هبل على وجهه وتساقطت الأصنام، وسُمِع صوتات: هلكت الأصنام ومن يعبدها.(1/115)