[ثانياً: صفة حمله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر مولده]
فكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتاني آتٍ حين مرَّ لي من حملي ستة أشهر فوكزني في المنام برجله، وقال لي: يا آمنة إنك قد حملت بخير العالمين، فإذا ولدتيه فسميه محمداً واكتمي شأنك.
فكانت تقول: لقد أخذني مَا يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من قومي ذكر ولا أنثى، وإني لَوَحيدةٌ في المنزل.
قال: فبقي في بطن أمه صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر لا تشكو وجعاً ولا ريحاً ولا مَا يعرض للنساء ذوات الحمل.
قالت آمنة: فسمعت وجْبةً عظيمةً وأمراً شديداً، فهالني -وذلك يوم الإثنين- فرأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي، فذهب عني الرعب وكل وجع، ثم رأيت نسوة كالنخل طولاً كأنهن من بنات عبد مناف يحْدِقن بي؛ فبينا أنا أعجب وأقول: واغوثاه من أين علِمْن بي هؤلاء، فاشتد بي الأمر فأخذني المخاض فولدت محمداً صلى الله عليه وآله وسلم فلما خرج من بطني دُرْت فنظرت إليه، فإذا أنا به ساجدٌ قد رفع أصبعيه إلى السماء كالمتضرع المبتهل.(1/106)


[ثالثاً: اضطراب الأصنام ونداء الذئبِ]
قال: وكان عبد المطلب ليلة إذٍ في جوف الكعبة يرْم منها شيئاً، إذْ سمع تكبيراً عالياً: الله أكبر الله أكبر رب محمد المصطفى و إبراهيم المجتبى، ألا إن ابن آمنة الغراء قد ولد وقد انكشفت عنا سحائب الغمة إلى الرحمة، ثم اضطربت الأصنام وخرت على وجوهها.
فقال عبد المطلب: فدُهشت، ثم خرجت من الكعبة في ليلة مقمرة فإذا أنا بذئب قد وقف بأعلى مكة وهو ينادي بصوت له رفيع عربي فصيح:
يا آل غالب ألاَ فاسمعوا قد جاءكم النور الثاقب الذي به تستبهج الدنيا، فاتبعوه قبل أن تدنوا وتخذلوا، ثم مضى الذئبُ، وإذا بصوت رفيع من الجبل جبل أبي قبيس: يا آل غالب ألا فاسمعوا لهذا المولود فإنه خِيْرَة المَعْبُود، فطوبى لمن آزره وتبعه ونصره.
فأسرع عبد المطلب نحو منزل آمنة فإذا هو بطيور ساقطة على حيطان الدار وسحابة بيضاء قد أظلت الدار بأجمعها، فلما دنا من الباب لم يطق الدخول من لمعان النور، فقرع الباب قرعاً خفيفاً.
فقالت آمنة بخفي من صوتها: من هذا؟
قال: أنا عبد المطلب، افتحي واعجلي قبل أن تتفقأ مرارتي وتتصدع كبدي.
فوثبت آمنة وفتحت ودخل عبد المطلب فنظر إلى وجهها ففقد النور الذي بين عينيها فضرب بيده إلى ثوبه ليشقه، وقال:ويحك يا آمنة أنائم أنا أم يقضان؟(1/107)


قالت: بل يقضان، فما قصتك؟
قال: ويحك يا آمنة أنا منذ الليلة في خوف ورعب فَخَبريني مَا حال النور؟
قالت: قد وضعت غلاماً.
قال: وأين وضعتيه، ولَسْتُ أرى عليك أثر النفاس ؟
قالت: إن هذه الطيور التي ترى قد أطلت الدار لتنازعنيه منذ وضعته.
قال عبد المطلب: ويحك فهلمِّيه حتى أنظر إليه.
قالت: إنه حيل بينك وبينه.
فاشتد على عبد المطلب وقال: لئن لم تخرجيه لأقتلن نفسي، أتمنعيني من ولدي وولد ولدي.
قالت: هو في ذلك المخدَع فشأنك به.
فوثب عبد المطلب ليدخل فصاح به صائح بصوت هائل: ارجع لا سبيل لك، ولا لأحد من الآدميين إلى هذا المولود حتى تَنْقضي عنه زيارة الملائكة.
[8] «أخبرنا ابن جعفر الأنماطي، قال: حدثنا فرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة»
قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَا كان أول بدء أمرك؟
قال: ((دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت منه قصور الشام)).(1/108)


[رابعاً: حديث الرضاع]
[9] أخبرنا عبد الرزاق بن محمد عن أبيه، عن ابن إسحاق يرفعه بإسناده، عن عبد الله بن جعفر، قال: لما ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قدِمت حليمة بنت [أبي ذويبْ- عبد الله بن] الحارث في نسوة من بني سعد بن بكر يلتمسن الرضاع بمكة.
قالت حليمة: فخرجت في أولئك النسوة على أتَانْ لي قَمْراء، ومعي زوجي الحارث بن عبد العزى أحد بني سعد بن بكر، قد أُرزمت أتاننا بالركب، ومعي شارف والله ماتبض بقطرة من لبن، «ونحن» في سنة شهباء، قد جاع الناس فيها حتى خلص النهم الجهد، ومعي ابن لي والله مَا ينام ليلنا، ولا أجد في ثدييّ شيئاً أعَلِّلُه به، إلاّ أنا نرجوا الغيث، وكانت لنا غنم فنحن نرجوها، فلما قدمنا مكة مَا بقي منا أحد إلاّ عُرِض عليها رسول الله فكرهناه وقلنا: إنه يتيم، وإنما يكرم الظئر، ويحسن الوالد، فقلنا: مَا عسى أن تصنع لنا أمه أو عمه أو جده فكلّ صواحبي أخذت رضيعاً، ولم أجد شيئاً.
فقلت لصاحبي: إني والله آخذ هذا اليتيم من بني عبد المطلب فعسى الله أن ينفعنا به، ولا أرجع من بين صواحبي لا آخذ شيئاً.
قال: أصبت، فأخذته.
قال ابن إسحاق في حديث غيره: فجاءني عبد المطلب بن هاشم يخطر في حلته، فقال: معاشر المراضع هل بقي منكن أحد «من الركب لم تأخذ رضيعاً»؟
فقلت: أنا.(1/109)


«فقال: تأخذي ولدي هذا»!
فقلت: نعم، فأخذته، فوالله ما هو إلاّ أن حملته على تلك الأتان الرزوم، فلقد كنت لا أقدر على لزمها من النهوض حتى أن النِّسوة ليقلنَ: أمسكي علينا، هذه أتانك التي خرجت عليها؟
فقلت: نعم.
فقلنَ: إنها كانت أرْزَمَت حين أقبلنا فما شأنها ؟
فقلت: حملت عليها غلاماً مباركاً.
فخرجنا، فما زال يزيدنا الله في كل يوم خيراً حتى قدمنا والبلاد سنهة، فلقد كان رعاؤنا يسرحون ثم يروحون فتروح أغنام بني سعد جياعاً، وتروح غنمي شباعاً حُفْلاً، فنحتلب ونشرب، فيقولون: مَا شأن غنم الحارث بن عبد العزى وغنم حليمة تروح شباعاً بطاناً حُقلاً، وتروح غنمكم بشرٍ جياعاً؟! ويلكم اسرحوا حيث تسرح رعاتهم فيسرحون معهم فما ترجع إلاَّ جياعاً كما كانت.
قالت: وكان «رسول الله» صلى الله عليه وآله وسلم يشب شباباً مَا يشبهه أحد من الغلمان، يشب في اليوم شباب الغلام في الشهر وفي الشهر شبابه في السنة.
فلما استكمل سنتين أقدمناه مكة أنا وأبوه وكنا والله لا نفارقه أبداً ونحن نستطيع، فلما أتينا أمه قلت لها: إني ظئر، والله ما رأينا صبياً قط أعظم بركة منه، وإناَّ نتخوّف عليه وباء مكة وأسقامها فدعينا نرجع به حتى ترين من رأيك.(1/110)

22 / 118
ع
En
A+
A-