لا معرفة للعلم وأبوابه إلا بالكشف عن حملته وأربابه
واعلم أيها الأخ وفقنا الله، وإياك أنه قد تساهل أهل هذا العصر، واغفلوا البحث والنظر، ولم يعلموا أنه لا معرفة للعلم وأبوابه إلا بالكشف عن حملته وأربابه، وأنه لولا معرفة الآثار التي أنفق فيها العلماء الأعلام نفائس الأعمار لما تميز لنا الموحد من الملحد، ولا الصادق من الكاذب، ولما عرف حملة السنة الشريفة رفع الله أحكامها، وأنار أعلامها، ولا نسدت على المكلف أبواب دينه التي كلفه الله معرفتها، والعلم دين فانظروا من تأخذون دينكم عنه، فلأجل هذا وجب البحث، ولا يكفيك أن تعرف مثلاً الباقر والصادق، وزيد بن علي، والهادي، والناصر، والأئمة الأربعة وأمثالهم الذين عرفانهم كالشمس، لاشك فيه ولا لبس فيه، بل لا بد من معرفة سائر الأئمة والمقتصدين، والمتحملين للعلم، والبحث عن إجماعاتهم لاتباع سبيلهم، وسلوك نهجهم، ومعرفة أرباب العدالة، وضدها من النقلة، سواء كنت ترى سلب الأهلية أو مظنة التهمة.
فإن قلت كما قال الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى: الإرسال أسقطه، وإنكار قبولهم إياه سفسطه؟
قيل له: ذاك فيما كان مرسلاً، لكن لا بد من معرفة المرسل، وحفظه وثقته، وكونه لا يرسل إلا عن عدل، مع اتفاق المذهب في العدالة، ولا طريق لمن جهل هذا الفن إلى ذلك، ولا إلى معرفة نزول الأحكام، وأسباب النزول، وما يتعلق بهما من التمييز بين الناسخ والمنسوخ، والخاص والعام، وغير ذلك من طرق الأحكام، فلم يكن أكثر الخلاف في الاجتهاديات إلا لهذا.
وقد تكلم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في أحوال الروايات، والرواة، بما يرشد الأمة إلى سبيل النجاة.
أما الإرسال فمذهب أهل البيت ومن تابعهم أنه إذا صح لهم الحديث ووثقوا بطرقه أرسلوه في كثير من الروايات في المؤلفات المختصرات.(1/6)
قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في سياق المراسيل بعد أن فصل أقسام الخبر: فمذهبنا أن ذلك يجوز، ولا نعلم خلافاً بين العترة عليهم السلام ، ومن قال بقولهم، وهو مذهب أبي حنيفة، وأصحابه، ومالك، والمتكلمين، بلا خلاف في ذلك بين من ذكرنا، إلا ما يحكي عن عيسى بن أبان، فإنه قال: تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، ومن نزل عن درجتهم لم تقبل مراسيله إلا أن يكون إماماً إلى أن قال: وخالف في ذلك الذين يتسمون بأصحاب الحديث، والظاهرية، وقد نسب ذلك إلى الشافعي، وتعليله هذه المقالة يقضي بأنه يجوز قبول المراسيل، لكن لا على الإطلاق.
قال عليه السلام: الدليل على صحة ما ذهبنا إليه أن العلة التي أوجبت قبول مسند الراوي هي قائمة في مرسله، وهي العدالة والضبط، إلى أن قال: والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه أن الصحابة اتفقوا على العمل بالمراسيل اتفاقهم على العمل بالمسانيد.
قلت: وهذه حجة لازمة بينه وقائمة، قال السيد العلامة البدر محمد ابن إسماعيل الأمير، المتوفى سنة اثنين وثمانين ومائة وألف، صاحب: سبل السلام، والروضة، والعدة، وغيرها، جواباً على السيوطي لما تكلم على رواية فيها الإرسال ما لفظه: قلت لا يضر ذلك فإنه من قسم المرسل الذي أجمع السلف على قبوله، كما ذكر العلامة محمد بن إبراهيم الوزير، عن العلامة الكبير محمد بن جرير، وقال إنه إجماع السلف، ولم يظهر الخلاف إلا بعد المائتين، ذكر ذلك في شرح التحفة العلوية.(1/7)
لا ثمرة لأي قول وعمل لا يقصد بهما مطابقة أوامر الله ونواهيه
واعلم أيها الأخ أمدنا الله وإياك بتأييده، وبصرنا بألطافه وتسديده، أن من تفكر في المبدأ والمعاد، ونظر بعين التحقيق إلى ما تنتهي إليه أحوال العباد، يعلم علماً لا ريب فيه أنه لا طائل ولا ثمرة لأي قول وعمل لا يقصد بهما مطابقة أوامر الله ونواهيه، وموافقة مراده من عباده ومراضيه، وما يضطر إليه فله حكم الضرورة، وذلك لأن المعلوم الذي لا يتردد فيه عاقل، أنه لا بقاء لهذه الدار، ولا لجميع ما فيها ولاقرار، وإنما هي ظل زائل، وسناد مائل، وغرور حائل، ولله القائل:
منافسة الفتى فيما يزول .... على نقصان همته دليل
ومختار القليل أقل منه .... وكل فوائد الدنيا قليل
فكيف وبعد ذلك دار غير هذا الدار:
تفنى اللذاذة ممن نال بغيته .... من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى مغبة سوء في عواقبها .... لا خير في لذة من بعدها النار
ولن يعبر عنها معبر أبلغ مما عبر وحذر ربنا الذي أحاط بكل شيء علماً، نحو قوله تعالى: ?إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ?[لقمان: 33] ولولا ما أراد الله بها من إقامة حجته، وإبانة حكمته لقضائه العدل وحكمه الفصل أن لا يثيب ولا يعاقب على مجرد العلم منه سبحانه، وإنما يجازي جل وعلا على الأعمال بعد التمكين، والاختيار، والإعذار، والإنذار، قال تعالى: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ?[فصلت:40].(1/8)
وقال تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا، إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا?[الدهر:2، 3]، ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا?[الشمس:7، 8]، ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ?[البلد:10] ولأجل هذا مثل لهم أمره تعالى بالابتلاء، والاختبار، وهو العليم الخبير، قال تعالى: ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور?[الملك:1، 2]، لولا ما قضته الحكمة الربانية لكان إيجادها وجميع ما فيها والحال هذه عبثاً ولعباً، وعناء على أهلها وتعباً، ولهذا قال جل سلطانه، وتعالى عن كل شأن شأنه: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ?[المؤمنون: 115]، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم: ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ?[الأنبياء:16، 17]، ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ?[الدخان:38، 39] ولكنه جل شأنه وعلا على كل سلطان سلطانه رتب عليها دارين دائمين، لا زوال لهما ولا انقطاع، ولا نفاذ لما فيهما ولا ارتفاع، إما نعيماً وملكاً لا يبلى، وإما عذاباً وحميماً لا يفنى، نعوذ برحمته من عذابه، ونرجوه بمغفرته حسن ثوابه، فيحق والله المعبود بكل عاقل أن يرتاد لنفسه طريق النجاة، ويجتنب كل ما يقطعه عما أراده به مولاه، وإذا نظر علم أن الضلال لم يكن في هذه الأمة، والأمم(1/9)
الخالية إلا من طريق اتباع الهوى، وهو الأصل في الإعراض عن الحق، والركون إلى الدنيا، ومجانبة الإنصاف، ومطاوعة الكبراء، والأسلاف، قال الله تعالى لرسوله داود صلوات الله عليه: ?وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ?[ص: 26]، وقال تعالى: ?فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ?[القصص:50]، ?فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى، وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى?[النازعات:37-41].
وقال جل اسمه: ?وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ، أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ، بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ?[الزخرف:20-22].(1/10)