- ما لفظه: وقد وردت فيه بمعناها على وجه أبلغ من لفظها، وهو قوله عليه السلام: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى)) فإن هذه الوزارة المستفادة من هذا أخص من مطلق الوزراة، ومن ثمة أخذ منها الشيعة أنها تفيد النص أنه الخليفة بعده، وهو كذلك، ثم ذكر ما يؤيد هذه الوزارة الخاصة من أن النبي آخاه دون غيره، وأرسله مؤدياً لبراءة، واستخلفه بمكة عند الهجرة، ثم ذكر الوجه الذي هو عنده مانع من النص على الخلافة، وهو موت هارون في حياة موسى..إلخ. وهو لا يفيد ما ذكره، إذ قد ثبت الإستحقاق، ولا يبطله موته قبله وذلك واضح، وكفى في الرد قوله: إلا أنه لا نبي بعدي.
ومن انقاد لحكم الضرورة، وسلم لقضاء الفطرة علم ما عنى الله ورسوله بهذه الآيات الربانية، والأخبار النبوية، وقد قرر الأئمة الهداة، الدلالات فيها بما لا مزيد عليه، وقد وردت النصوص المتطابقة على لسان سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم في أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، ويعسوب المؤمنين، وإمام المتقين، وأنه أخوه ووصيه ووزيره ووارثه، وولي كل مؤمن من بعده، وباب مدينة علمه، وعيبة علمه، ودار الحكمة، وراية الهدى، ومنار الإيمان، وإمام الأولياء.(1/489)
وأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنذر وهو الهادي، به يهتدي المهتدون من بعده، وأن أذنه الأذن الواعية، وأنه لو كان من بعده نبي لكان إياه، وأنه الأنزع البطين، وأنه لا يحبه إلا مؤمن ولا يبغضه إلا منافق، وأنه أبو ذريته، وأنه خلق من نوره ومن شجرته، وأنه أول من آمن به، وأول من يصافحه، وأنه المؤدي دينه ومنجز وعده، والمقاتل على سنته، والمقاتل على تأويل القرآن كما قاتل على تنزيله، وقاتِل الناكثين والقاسطين والمارقين، وباب علمه، وأن الحق معه، والحق على لسانه، والقرآن معه وهو مع القرآن، وأنه المسمع لهم صوته، والهادي لمن اتبعه، وأن من اعتصم به أخذ بحبل الله، ومن تركه مرق من دين الله، ومن تخلف عنه محقه الله، ومن ترك ولايته أضله الله، ومن أخذ بولايته هداه الله، ومن فارقه فارق الرسول، ومن فارقه فارق الله، وأن حربه حربه وسلمه سلمه، وسره سره وعلانيته علانيته، ومن أحبه أحبه، ومن أبغضه أبغضه، ومن سبه فقد سبه، وأن طاعة علي طاعة الرسول وطاعتَه طاعة الله، وأنه لا يرد عن هدى ولا يدل على ردى، وباب الرسول الذي يؤتى منه، والمبين للأمة ما اختلفوا فيه وما أرسل به، وأن الله يثبت لسانه ويهدي قلبه، وأن من أحب أن يحيا حياة رسول الله ويموت مماته ويدخل الجنة التي وعده ربه فليتول علياً وذريته من بعده، وأنه أولهم إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية، وابصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية، وأنه أقدمهم سلماً، وأعظمهم حلماً، وأكثرهم علماً، وأنه سيد العرب، وسيد في الدنيا وسيد في الآخرة، وأنه منه بمنزلة رأسه من بدنه، والرسول منه وهو منه وجبريل عليه السلام قال: وهو منهما، ولا يؤدي عنه إلا هو أو علي، وأنه كنفسه، وأنه ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حجة على الأمة يوم القيامة، وأنه إمام البررة وقاتل الفجرة، منصور من نصره مخذول من خذله، وأن الله جعله يحب(1/490)
المساكين ويرضى بهم أتباعاً ويرضون به إماماً.
قال صلوات الله عليه وآله: ((فطوبى لمن اتبعك، وصدقَ فيك، وويل لمن أبغضك، وكذب عليك)). وقال صلى الله عليه وآله وسلم مقسماً برب هذه البنية: إن هذا وشيعته الفائزون يوم القيامة، وأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، كرار غير فرار، وأنه أحب الخلق إلى الله وإليه، وأن الله جعل ذرية كل نبي في صلبه، وجعل ذريته في صلب علي، وأنه يكسى إذا كسي، ويحيا إذا حيي، وأنه عانقه صلى الله عليه وآله وسلم وقبل ما بين عينيه، فقال العباس: أتحبه؟ فقال له: ((يا عم، والله للهُ أشد حباً له مني))، وأنه يقدم على الله وشيعته راضين مرضيين ويقدم عدوه غضاباً مقمحين، وأن من مات على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو في كنز الله، ومن مات على عهد علي فقد قضى نحبه، ومن مات يحبه بعد موته ختم الله له بالأمن والإيمان)).
فهذه قطرة من أمطار، ومجة من بحار، ولمعة من أنوار، مما نقلته الأمة عمن لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، ولكل واحد منها طرق، وشواهد يضيق البحث عنها، وقد رواها الولي والعدو، والحق ما شهدت به الأعداء.(1/491)
وقد أخرج الله من بين الكاتِمِين ما ملأ الخافقين، وقد قال حفاظ محدثي العامة لما بهرهم ما رووه، كأحمد بن حنبل، وإسماعيل القاضي، والنسائي، والنيسابوري: ما جاء لأحد من الفضائل ما جاء لعلي، ولم يرد في حق أحد من الصحابة ما ورد فيه. رواه عنهم الحافظ ابن حجر في فتح الباري في صفحة 71 بمعناه، ولفظه في الجزء السابع: لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الجياد أكثر مما جاء لعلي..إلخ. وقال في صفحة 74: وقد روينا عن الإمام أحمد بن حنبل، قال: ما بلغنا عن أحد من الصحابة ما بلغنا عن علي بن أبي طالب. وقال البيهقي في سياق الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم: وأما أن علي بن أبي طالب كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب كان على الحق، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((اللهم أدر الحق معه حيث دار)). وقال: ((من اتخذ علياً إماماً لدينه فقد استمسك بالعروة الوثقى في دينه ونفسه)). ومثل كلامه بلفظه قاله الرازي في مفاتيح الغيب.
وروى ابن الجوزي في تاريخه أن الإمام أحمد بن حنبل قال: إن علياً لم تزنه الخلافة ولكنه زانها..إلى آخره. وقال في شرح النهج: واعلم أن أمير المؤمنين لو فخر بنفسه وبالغ في تعديد مناقبه وفضائله بفصاحته التي آتاه الله إياها، واختصه بها وساعدته فصحاء العرب كافة لم يبلغوا معشار ما نطق به الرسول الصادق صلى الله عليه وآله وسلم في أمره، ولست أعني بذلك الأخبار العامة الشائعة كخبر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة، وخبر المناجاة، وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك، بل الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث، انتهى.(1/492)
والوارد فيه عن الله ورسوله منه ما يفيد الولاية والإمامة، ومنه ما يفيد الوصاية، كما أخرج ذلك علماء الأمة، وقد ألف القاضي محمد الشوكاني كتاباً في إثبات الوصاية العقد الثمين وغيره، ومنه ما يفيد أن الحق معه. جعلنا الله ممن اعتصم بحبل الله، والتزم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في كل قول وعمل.
ومن حجج الله المنيرة فيه وفي العترة المطهرة من الآيات الكريمة: آية المباهلة، وهي قوله تعالى: ?فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ? [آل عمران:61]، وقد أجمعت الأمة على أنه لم يدع غير الوصي وابنيه وفاطمة (ص)، فقد جعل الله علياً نفس الرسول بنص القرآن، والحسنين ولدي نبيئه بمحكم الفرقان، وحكم ذريتهم حكمهم، ?وَالَّذِينَ ءَامَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ? [الطور:21]، ?وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ? [الأنفال:75]، وأبان الله تعالى فضلهم على كافة البرية إذ خصهم سبحانه من بين أهل الأرض ذات الطول والعرض.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في هذا الموضع: فكيف يجوز لنفس أن تتقدم على نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم...إلى أن قال: وكم من آية يمرون عليها وهم عنها معرضون، ?وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ? [العنكبوت:43]، انتهى.(1/493)