إلا أن نابغة ممن لا مبالاة عندهم بالدين، ومخالفة العقل والكتاب المبين، ذهبوا إلى تصويب جميع الناظرين، وأغلب هذه الفئة ليس لها مأرب إلا مساعدة أهل السياسة، والتألف للمفترقين، ولقد جمعوا بين الضلالات، وقالوا بجميع الجهالات، أما علموا أن الله سبحانه أحكم الحاكمين، وأنه يحكم لا معقب لحكمه، وأنه لا هوادة عنده لأحد من خلقه، وأنها لا تزيد طاعتهم واجتماعهم في ملكه، ولا ينقص تفرقهم وعصيانهم من سلطانه، ?يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ? [فاطر:15]، وقد خاطب سيد رسله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم بقوله عز وجل: ?فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(112)وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ(113)? [هود:112ـ113]، مع أنه صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم ومن معه من أهل بدر، فتدبر واعتبر إن كنت من ذوي الاعتبار، فإذا أحطت علماً بذلك، وعقلت عن الله وعن رسوله ما ألزمك في تلك المسالك، علمت أنه يتحتم عليك عرفان الحق واتباعه، وموالاة أهله، والكون معهم، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ? [التوبة:119].(1/479)


ومفارقة الباطل وأتباعه، ومباينتهم ?وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ? [المائدة:51]، ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ? [المجادلة:22]، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ? [الممتحنة:1]، في آيات تتلى، وأخبار تملى، ولن تتمكن من معرفة الحق وأهله إلا بالإعتماد على حجج الله الواضحة، وبراهينه البينة اللائحة، التي هدى الخلق بها إلى الحق، غير معرج على هوى ولا ملتفت إلى جدال ولا مراء، ولا مبال بمذهب، ولا محام عن منصب، ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ? [النساء:135].
وقد سمعت الله ينعى على المتخذين أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، وما حكى من تبري بعضهم من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، وتقطع الأسباب عند رؤية العذاب، ولا يروعنك احتدام الباطل وكثرة أهله، ولا يوحشنك اهتضام الحق وقلة حزبه، فإن ربك جل شأنه يقول: ?وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ? [يوسف:103]، ?وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ? [سبأ:13]، ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ? [الأنعام:116].(1/480)


واعلم - كما أسلفت لك - أن الدعاوى مشتركة بين جميع الفرق، وكلهم يدعي أنه أولى بالحق، وأن ساداته وكبراءه أولوا الطاعة، وأهل السنة والجماعة، ومن المعلوم أنه لا يقبل قول إلا ببرهان، كما وضح به البيان من أدلة الألباب، ومحكم السنة والكتاب، وقد علم الله تعالى وهو بكل شيء عليهم أنا لم نبن أمرنا كله إلا على الإنصاف والتسليم لحكم الرب الجليل، بمقتضى الدليل: ?فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ? [الروم:30].
وأقول: قسماً بالله العلي الكبير، قسماً يعلم صدقه العليم الخبير أن لا غرض ولا هوى لنا غير النزول عند حكم الله، والوقوف على مقتضى أمره، وأنا لو علمنا الحق في جانب أقصى الخلق من عربي أو عجمي أو قرشي أو حبشي لقبلناه منه، وتقبلناه عنه، ولما أنفنا من اتباعه، ولكنا من أعوانه عليه وأتباعه، فليقل الناظر ما شاء ولا يراقب إلا ربه، ولا يخشى إلا ذنبه، فالحكم الله والموعد القيامة، وإلى الله ترجع الأمور.
هذا، وأنت أيها الناظر لدينه الناصح لنفسه، الباحث في كتاب ربه وسنة نبيه، إذا أخلصت النظر في الدليل، ومحضت الفكر لمعرفة السبيل، واقتفيت حجج الله وبيناته، واهتديت بهدي الله ونير آياته، علمت أنها لم تقم الشهادة العادلة من كتاب رب العالمين، وسنة الرسول الأمين، بإجماع جميع المختلفين، لطائفة على التعيين، ولا لفرقة معلومة من المسلمين إلا لأهل بيت الرسول، وعترته وورثته صلوات الله عليهم، فقد علم في حقهم ما وضحت به الحجة على ذوي الأبصار، واشتهر اشتهار الشمس رابعة النهار، وامتلأت به دواوين الإسلام، وشهد به الخاص والعام من الأنام، ونطقت به ألسنة المعاندين، وأخرج الله به الحق من أفواه الجاحدين، لإقامة حجته، وإبانة محجته، على كافة بريته ?لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ? [الأنفال:42].(1/481)


ونشير بإعانة الله وتسديده إلى طرف يسير مما سطع من ذلك الفلق النوار، واللج الزخار، على سبيل الاختصار، مع تضمن ذلك المقصد الأهم حل الأسئلة الواردة على الاستدلال بخصوص آية التطهير، وبعموم إجماع آل محمد عليهم الصلاة والسلام، وبعضها نذكره وإن كان قد أجيب عنه، كالذي قد تكلم فيه الإمام الناصر الأخير عبدالله بن الحسن في الأنموذج الخطير، إما لبعد الجواب عن الإنتوال، أو لزيادة التقرير في كشف الإشكال.
واعلم أن الوارد فيهم صلوات الله عليهم لا نَفِيْ بحصره، ولا نحيط بذكره، وقد قال الإمام عز الدين بن الحسن في المعراج ناقلاً عن الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام ما لفظه: قال عليه السلام: وأعدل الشهادات شهادة الخصم لخصمه، إذ هي لاحقة بالإقرار الذي لا ينسخه تعقب إنكار، وقد أكثرت الشيعة في روايتها بالأسانيد الصحيحة إلى حد لم يدخل تحت إمكاننا حصره في وقتنا هذا، إلا أنه الجم الغفير.
إلى أن قال: وتركنا ما ترويه الشيعة بطرقها الصحيحة التي لا يمكن عالماً نقضها، إلا بما يقدح في أصول الإسلام الشريف، وكذلك ما اختص آباؤنا عليهم السلام.
إلى أن قال بعد ذكره لبعض كتب العامة: وفصول ما تناولته هذه الكتب مما يختص بالعترة الطاهرة خمسة وأربعون فصلاً، تشتمل على تسعمائة وعشرين حديثاً، منها من مسند أحمد بن حنبل مائة وأربعة وتسعون حديثاً، ومن صحيح البخاري تسعة وسبعون حديثاً، ومن صحيح مسلم خمسة وتسعون حديثاً، ثم ساق ذلك حتى تم عليه السلام.
قلت: ولله السيد الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير حيث يقول:
والقوم والقرآن فاعرف قدرهم .... ثقلان للثقلين نص محمد
ولهم فضائل لست أحصي عدها .... من رام عد الشهب لم تتعدد(1/482)


هذا، فأقول وبالله التوفيق: قد سبقت الإشارة في صدر الكتاب إلى خبر التمسك، وهو قوله صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي)) الخبر المتواتر المروي في كتب الإسلام، عن بضع وعشرين صحابياً، منهم: أمير المؤمنين، وأبو ذر، وجابر، وحذيفة، وزيد بن أرقم، وأبو رافع، وهو بلفظ: عترتي، وبلفظ: أهل بيتي. مجمع على روايته، وقد أخرجه أحمد، ومسلم في صحيحه، وأبو داود، وعبد بن حميد، وغيرهم بلفظ: ((وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً)).
وقد حاول البعض معارضة هذا الخبر بما روي مرسلاً في الموطأ، وفي المستدرك، من طريق واحدة عن أبي هريرة بلفظ: ((وسنتي)) مع أنه في المستدرك نفسه بلفظ: وعترتي من ثلاث طرق، وعلى فرض ثبوت هذه الرواية الشاذة فلا معارضة، فالكتاب والسنة مؤداهما واحد، ولذا اكتفى بذكر الكتاب والعترة في الخبر المتواتر، فكيف يعرضون عنه. ?أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا ءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَا ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا? [النساء:54].
وإلى آية الولاية وهي قوله عز وجل: ?إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ? [المائدة:55]، أجمع آل الرسول صلَّى الله عليه وآله وسَلَّم على نزولها في الوصي عليه السلام، قال الإمام الأعظم الهادي إلى الحق الأقوم عليه السلام في الأحكام في سياق الآية: فكان ذلك أمير المؤمنين دون جميع المسلمين. وقال الإمام أبو طالب عليه السلام في زيادات شرح الأصول: ومنها النقل المتواتر القاطع للعذر أن الآية نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام.(1/483)

96 / 101
ع
En
A+
A-