ولن يعبر عنها معبر أبلغ مما عبر وحذر ربنا الذي أحاط بكل شيء علماً، نحو قوله تعالى: ?إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ? [لقمان:33]، ولولا ما أراد الله بها من إقامة حجته، وإبانة حكمته، لقضائه العدل، وحكمه الفصل، أن لا يثيب ولا يعاقب على مجرد العلم منه سبحانه، وإنما يجازي جل وعلا على الأعمال بعد التمكين والإختيار، والإعذار والإنذار، قال تعالى: ?اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ? [فصلت:40].(1/474)
وقال تعالى: ?إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا(2)إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)? [الإنسان:2]، ?وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا(7)فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(8)? [الشمس:7ـ8]، ?وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ? [البلد:10]، ولأجل هذا مثل لهم أمره تعالى بالابتلاء والاختبار، وهو العليم الخبير، قال: ?تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ(2)? [الملك:1ـ2]، لولا مناقضته الحكمة الربانية لكان إيجادها وجميع ما فيها والحال هذه عبثاً ولعباً، وعناء على أهلها وتعباً، ولهذا قال جل سلطانه، وتعالى عن كل شأن شأنه: ?أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ? [المؤمنون:115]، ?فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ? [المؤمنون:116]، ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(16)لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(17)? [الأنبياء:16ـ17]، ?وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(38)مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(39)? [الدخان:38]، ولكنه جل شأنه وعلا على كل سلطان سلطانه رتب عليها دارين دائمين، لا زوال لهما ولا انقطاع، ولا نفاد لما فيهما ولا ارتفاع، إما نعيماً وملكاً لا يبلى، وإما عذاباً وحميماً لا يفنى، نعوذ برحمته من عذابه، ونرجوه بمغفرته حسن ثوابه، فيحق والله المعبود بكل عاقل أن يرتاد لنفسه طريق النجاة، ويجتنب كل ما(1/475)
يقطعه عما أراده به مولاه، وإذا نظر علم أن الضلال لم يكن في هذه الأمة والأمم الخالية إلا من طريق اتباع الهوى، وهو الأصل في الإعراض عن الحق، والركون إلى الدنيا، ومجانبة الإنصاف، ومطاوعة الكبراء والأسلاف، قال الله تعالى لرسوله داود صلوات الله عليه: ?وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ? [ص:26]، وقال تعالى: ?فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ? [القصص:50]، ?فَأَمَّا مَنْ طَغَى(37)وَءَاثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(38)فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى(39)وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40)فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)? [النازعات:37ـ41].
وقال جل اسمه: ?وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(20)أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ(21)بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ(22)? [الزخرف:20ـ22].(1/476)
واعلم أن الله جل جلاله لم يرتض لعباده كما علمت إلا ديناً قويماً، وصراطاً مستقيماً، وسبيلاً واحداً وطريقاً قاسطاً، وكفى بقوله عز وجل: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [الأنعام:153]، ونهى أشد النهي عن التفرق بهذه الآية، وأمثالها من الكتاب العزيز، وعن القول عليه سبحانه بغير علم، والجدال بالباطل، قال ذو الجلال: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ? [الشورى:13]، وقد تقدم الاستدلال علىهذا كله في شرح قولنا:
ويعلم ما قد كان أو هو كائن .... مصورنا سبحانه جل صانع
فلا حاجة إلى الإعادة.
هذا، وقد علم قطعاً وقوع الإفتراق في الدين، وقد تقدمت الإشارة إلى أحاديث افتراق الأمة، ويصدقها الواقع، وقد قال تعالى: ?وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ(118)إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? [هود:118].
قال نجم آل الرسول القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليهم في تفسيره: قال الله: ?مُخْتَلِفِينَ? لأن الاختلاف لا يزال أبداً بين المحقين، والمبطلين، وهو خبر من الله تعالى عما يكون، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون، فالاختلاف منهم وفيهم، ولذلك نسبه الله إليهم.
وقوله: ?إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ?: يريد المؤمنين، فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين، وقوله تبارك وتعالى: ?وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ? يقول سبحانه: للمُكْنَةِ مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة، ولولا خلقه لهم كذلك وعلى ما فطرهم من ذلك لما اختلفوا في شيء، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي، ولما كان فيهم مسيء ولا محسن، ولا كافر ولا مؤمن..إلخ...(1/477)
وكلام حفيده الهادي إلى الحق مثل كلامه عليهما السلام، وبمعنى ما ذكراه فسر الآية صاحب الكشاف، وقد قابلت عباراته في تفسيره للآيات فوجدته كثير الملاءمة لكلام من سبقه من الأئمة عليهم السلام، لا سيما في تخريج الآيات القرآنية على المعاني البيانة، وأصل ذلك أنه معتمد على تفسير الحاكم الجشمي، التهذيب، وطريقة الحاكم رضي الله عنه في الإقتداء بمنارهم، والإهتداء بأنوارهم معلومة، وهذا عارض.
وقد خاض بعض أئمتنا المتأخرون وغيرهم في تعداد الفرق الثلاث والسبعين، منهم: الإمام يحيى، والإمام المهدي عليهما السلام، والقرشي صاحب المنهاج.
وما أحسن ما قال إمام التحقيق الإمام عز الدين بن الحسن عليهم السلام في المعراج ما نصه: وأقول وبالله التوفيق: أما تعيين الثلاث والسبعين فمما لا ينبغي أن يحاوله أحد منا إلا بتوقيف، فإنه لا يمكن القطع به وبت الإعتقاد..إلى قوله: وأما معرفة الفرقة الناجية فالطريق إليها حاصلة.
إلى آخر كلامه.
وقد علمت أن دين الله لا يكون تابعاً للأهواء: ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ? [المؤمنون:71]، ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ? [يونس:32]، ?شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ? [الشورى:21].
نعم، وقد صار كل فريق يدعي أن الحق معه، والنجاة لمن اتبعه:
وكل يدعي وصلاً لليلى .... وليلى لا تقر لهم بذاك(1/478)