ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي كتاب الله وعترتي))، الخبر المروي في دواوين الإسلام، عن بضع وعشرين صحابياً، و((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح))، وغيرها من الأخبار المعلومة، إنما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن اتباع الباطل، والرجوع إلى من لم يأمر الله بالرجوع إليه، والطاعة لمن لم يجعل الله له ولاية من الظالمين، ومتابعة الأهواء، ومحبة الترؤس والإخلاد إلى الدنيا، وبيع الآخرة بالأولى، كما علم من حال هؤلاء المضلين، الذين لا يفقهون الخطاب، ولا يفهمون فرقاً بين خطأ وصواب.
ومن البلية عذل من لا يرعوي .... عن غيره وخطاب من لا يفهمُ
وتالله لقد غرست في صدور المتمردين شجرات، تجتنى من زيغها وضلالها ثمرات، ولله حكمة بالغة، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون، فهذا الذي يلزمنا وندين الله به من البيان، والخروج عن عهدة الكتمان، موجهاً إلى ذوي العرفان، وأما غيرهم فنقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
إذا عرفت هذا فاعلم أن الله جل جلاله، قال: ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ? [يونس:32]، وقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: ((افترقت أمة أخي موسى إلى إحدى وسبعين فرقة منها فرقة ناجية والباقون في النار، وافترقت أمة أخي عيسى إلى اثنتين وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون في النار، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة، منها فرقة ناجية والباقون في النار))، وهذا الخبر متلقى بالقبول، فكلام من شكك فيه غير مقبول...(1/454)


وقال وصيه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: (ما وحده من كيفه، ولا حقيقته أصاب من مثله، وإلا إياه عنى من شبهه، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه)، وغير ذلك مما هو معلوم بين الأمة، ثم إنه معلوم بضروريات العقول، عدم صدق المتناقضات وما إليه تؤول، وقد قال جل ذكره: ?فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ? [الزمر:32]، فكيف تكون هذه الفرق كلها ناجية على اختلاف أهوائها، وتباين آرائها؟ ?وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ? [المؤمنون:71].
وقد أوضح لهم الدليل، وأنهج لهم السبيل، بما ركب فيهم من العقول، وأتاهم به الرسول، فلم يكن خلاف من خالف، وشقاق من شاقق فيما هذا حاله إلا إخلالاً بما كلفه الله من معرفته، أو عناداً لما احتج به عليه من حجته، ألم ينههم عن التفرق في الدين، والإكتفاء بالظن فيما لا بد فيه من اليقين؟ قال جل ذكره: ?وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ? [الأنعام:153]، وقال عز قائلاً: ?شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ? [الشورى:13]، وقال تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ? [الأنعام:159]، وقال جل وعلا: ?وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ? [آل عمران:105].(1/455)


وقال تعالى في الزجر لعباده عن التقولات عليه بغير علم: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)? [الحج:8ـ9]، وقال تعالى: ?وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ? [الأنعام:116]، وقال عز وجل: ?وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ? [يونس:36]، وقال سبحانه: ?بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ? [يونس:39]، وقال تعالى: ?إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ? [يونس:68]، وغير ذلك مما احتج الله به على الخلق، وأرشدهم به إلى الحق، ?أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ ءَايَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ? [الأنعام:157].(1/456)


وقد طرحت هذه الفرق حجة الله الكبرى عليها، وهي العقول التي ميز الله بينها وبين البهائم بها، فألهمها فجورها وتقواها، فمنهم من شبه الله بخلقه، ومن من أثبت قدماء مع الله، ولو شابهها لشاركها فيما لأجله قضت العقول بحدوثها، واستدلت به على موجدها، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وقد قال تعالى نفياً للمِثْل، بطريق الكناية أو مجاز الزيادة في الذكر المنير: ?لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ? [الشورى:11]، وقال تعالى - فيما أفاد عموم السلب من الإخبار -: ?لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ? [الأنعام:103]، وقال تعالى: ?وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ? [الإخلاص:5]، فانحط صاحب عليهم السلام المقالة عن دائرة التوحيد، وتفكر في خالقه وهو لا يعرف ماهية نفسه وتركيب حقائقه التي هي مخلوقة موضوعة مقدرة مصنوعة، وكيف يطمح بجهله إلى التفكر في رب العالمين المتعالي بجلال العزة والعظمة عن المخلوقين: ?قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ(17)مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ(18)مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ(19)ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ(20)ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ(21)ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ(22)كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ(23)فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ(24)أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا(25)ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا(26)? [عبس:17ـ26]، سبحان الله الملك الحق المبين، ما أوضح آياته واصرح بيناته، وأبلغ نعمائه وأسبغ آلائه.(1/457)


(تنبيه)
العم أن بعض أهل العربية يحكمون على أدوات العموم إذا كانت في حيز النفي بسلب العموم، أي توجه النفي إلى الشمول وغثبات بعض الأفراد ويحملون نحو قوله تعالى: ?ءَاتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٌ? [الحديد:23]، مما انتقضت به القاعدة على خلاف الأغلب ؛ لقيام الدليل الخارجي، ولهم في ذلك كلام معروف، وقاعدتهم هذه فيها نزاع طويل، وقد قال سيبويه والشلوبين وابن مالك - في قول أبي النجم: كله لم أصنع -: لا فرق بين نصب كل ورفعه.
وقال سيبويه: رفع كل قبيح، مثله في غير الشعر، إذ النصب لا يكسر النظم، ولا يخل المعنى، ووجه قبح الرفع أن فيه تهيئة العامل - وهو هنا أصنع - للعمل، وقطعه عنه بالرفع، على أنه في كثير من موارده يؤخذ العموم من العلة، لتعليق الحكم على الوصف، فلا وجه للانتقاد على الإمام الأعظم المنصور بالله عبدالله بن حمزة عليه السلام في استدلاله بنحو قوله تعالى: ?لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ? [الأنعام:103]، على عموم السلب، وقد أريناك خلاف القوم، وهو مستوفى في مظانه من البيان مع أن الآية وردت للتمدح، فلو خصت بعض الأحوال لانتقض التمدح، ثم إن الإمام من لا يشق له غبار، ولا يلحق له آثار، إمام العلوم، وتيار المنطوق والمفهوم، أما اللسان العربي فهو لسانه، وذلك الميدان ميدانه، وعند جهينة الخبر اليقين.
عليم رست للعلم في أرض صدره .... جبال جبال الأرض في جنبها قُفُّ
ولا يحسن بنا أن نقول في حقه إلا ما قال في نفسه:
وأنا ابن معتلج البطاح تضمني .... كالدر في أصداف بحر زاخر
ينشق عني ركنها وحطيمها .... كالجفن يفتح عن سواد الناظر
كجبالها شرفي ومثل سهولها .... خلقي ومثل المرهفات خواطري
ولم نرد التعريف بحقه، فهو أجل من أن يُعَرَّف، وصفات ضوء الشمس تذهب باطلاً.
وإنما هو من باب قوله:
أسامياً لم يزدن معرفة .... إنما لذة ذكرناها
فما يكون وشلُهم عند بحره، وخزفهم عند دره.(1/458)

91 / 101
ع
En
A+
A-