وقد قلت في حاشية على قول الجنداري والعرشي وزبارة وغيرهم لما قالوا: ولم يقم بواجب الجهاد وقولهم في سيرة المنصور على أنه في آخر أعوام خلافته رجح ترك بعث جنوده وقواده إلى أمهات المدن اليمنية لمقاتلة الأتراك بعدما كان من القبائل في سنة 1316 من السلب والنهب في روضة صنعاء، وغيرها كما ذكر ذلك الوالد العلامة محمد بن محمد زبارة في كتابه (أئمة اليمن).
بالله عليك أيها الناظر المنصف انظر إلى كلام هؤلاء المؤرخين عملاء الدول، وعلماء القصور وأبناء الدنيا كيف جعلوا ترجيح الإمام المنصور بالله لترك الجهاد مع المفسدين صفة مدح وترجيح الإمام المهدي لترك الجهاد لتلك العلة صفة نقص مع أن الإمام الأعظم المهدي لدين الله محمد بن القاسم عليه السلام له الجهاد الأعظم منذ أن عرف يمينه من شماله، وهو مجاهد في سبيل الله من أيام الإمام المحسن بن أحمد، وعلم بذلك الخاص والعام، وهو الذي فتح صنعاء في أيام دولته وهو سيف خلافته وقد أسره الأتراك، ومعه أعلام اليمن منهم الإمام المنصور محمد بن يحيى حميد الدين الذي هو أحد تلامذته والذي هو حسنة من حسناته، ولم يخرج من صنعاء إلا لإحياء فريضة الجهاد وإرضاء رب العباد، ولم يستطع هؤلاء العلماء أن يتكلموا جانب الإمام المهدي بأي وصمة إلا بهذه الخصلة وهو توقفه عن الغيث والفساد فهو كالاستثناء من المدح بما يشبه الذم، كما قال الشاعر:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم .... بهن فلول من قراع الكتائب(1/419)


وقوله تعالى: ?وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ? [البروج:8]، ولقد أخبرني والدي رضي الله عنه أنه لم يحجز الإمام المهدي في آخر أيامه إلا الورع، ولو أراد الملك لملك الممالك العظيمة ؛ لأن علماء اليمن كانوا معه جميعاً وكذا حاشد وبكيل، وسائر القبائل اليمنية، ولقد كان يصل إلى مقامه الجيوش الكثيرة فيقولون: يا مولانا نريد الجهاد، فيقول لهم الإمام: من تجاهدون؟ لو كان في استطاعتي جهادكم لجاهدتكم لأنكم لا تريدون إلا نهب المسلمين، والفساد في الأرض.
وقد كان الإمام المهدي عليه السلام أخذ العهد على العلماء الذين خرجوا من السجن أن يقوموا بالجهاد ومن رسائل دعوته قوله عليه السلام:
يا أهل صنعاء إن الله سائلكم .... عن ملة الدين إذا لحدتم فيها
أنتم عيون بني الإمام قاطبة .... في النائبات ولكن القذى فيها
ما بالكم عن سماع الوعظ في شغل .... ولا استمعتم إلى الآيات نمليها
فقد ادعونا إلى بيضاء واضحة .... غراء لا يهتدي من كان ينفيها
نجري مع الذكر لا نبغي به بدلاً .... إذا بنا غيرنا لبساً وتمويها
شريعة الله نرعاها ونحفظها .... وملة الدين نبنيها ونحميها
فما اكتفيتم بخذلان لجانبنا .... حتى أعنتم علينا من أقاصيها
فراقبوا الله واخشوا سوط سطوته .... والموعد الصبح والأسرار نبديها
الحمد لله الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون الذي يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون، عالم اللفظات واللحظات والظنون، والصلاة والسلام على الذي ما نزل باباً من أبواب الخير إلا دلنا عليه ولا باباً من أبواب الشر إلا حذرنا عنه وعلى آله الذين حكم لهم بمصاحبة كتابه وجعلهم من كل الورى أدرى به فقال تعالى: ?ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا? وقال على لسان رسوله: ((إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)) لفظاً ومعنى.(1/420)


أما بعد فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وقد سبق منا ومن العلماء الأمناء ما يكفي ويشفي ولسان الحال أقوى ودين الله ما فيه من لبس ولا ريب ولا مري لمن الضيف ولم يتمحل لكنه قد قيل في المثل أن الألفاظ في الكتب أجسام في أرواحها عن العلماء فكيف يرجا الحياة عند من تأخر وتعلل وقيل أيضاً أنه لا ينتفع بمؤلف ولا كتاب ولا شيخ إلا أن أحسن الظن فتأمل وهو مراد القائل:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة .... ولكن عين السخط تبدي المساويا(1/421)


وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((حبك للشيء يعمي ويصم)) أي يصد من معرفة الحق ولما كانت حجة الله العظيمة على العلماء أوكد وألزم وعذابهم أشد وأقدم ولهذا جاء في الحديث أنهم يدخلون النار قبل الجهال بأربعين عاماً فيقولون: ربنا سورع إلينا بدئ بنا فيقول: ليس من يعلم كمن لا يعلم، وقد بينا من الحق أوجهاً عديدة مع أنه لا يلزمنا إلى الدعوة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرن الوعيد في عدم الإجابة بحصولها من صاحب المنصب، فقال: ((من سمع واعيتنا أهل البيت فلم يجبها كبه الله على منخريه في نار جهنم)) من غير فرق ولا اختيار ومعرفة حجته تكون من بعد الإجابة والنهوض ولهذا أوجبوا النهوض على من تواترت له دعوته دون كماله من غير فرق وهو معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم من مات ولم يعرف إمام زمان مات ميتة جاهلية، وذكر أئمتنا عليهم السلام أن المراد هل يحق فيتبعه أو مبطل يجتنبه، والأخذ بمجرد الحواصل والظنون في هذا الأمر من قبل معرفة طريقته وما عنده من حجة خطر عظيم وإهمال لما ورد به الشرع الشريف على التعميم، فكيف ونحن ندعوا إلى الكتاب والسنة، وما جاء به الله ورسوله، وإحياء معالم الدين والجهاد في سبيل رب العالمين، والذب عن المسلمين نور الشريعة المطهرة، ونبذ لها لمن نازع أو شاقق، ولو طلبنا إياها أدنى الناس لم يمتنع منها فإنها المرجع، وفي كتاب الله لكل شيء، وقد كتبنا بهذا إلى الجهات مع أنا إذا كنا على بصيرة من أمرنا لا نبالي بعفاف من وافق ولا شقاق من شاقق ؛ لن الله تعالى قد واعده بإعزاز الدين وبيانه ونصرة الحق وأعوانه، وقد شاهدنا عنوان ذلك، هرع الجم الغفير إلى ما هنالك، ولبوا ونشرت أعلام الجهاد، وظهر الصلاح على العباد، وإنما حدانا على الأئمة والمرسلين من قبلهم، ثم الحرص والشفقة على أصحابنا إلى قوله: ثم الإبلاغ بالحجة والبيان لواضح الحجة وكان الأخف إثماً والأقل عند الله جرماً أن لم يعينونا فلا يعينوا(1/422)


علينا فإني أخشى عليهم نزول العذاب وحلول العقاب، وقد جاء في الحديث أن معظم الذنوب عند الله ما تهاون به صاحبه كيف وهو إعانة على خذلان الدعاء إلى الله والجهاد في سبيل الله وإبطال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المخوف وتقوية الظالمين وتوهين لجانب أهل الدين وغمص لحقوق الأئمة الراشدين وخطأ في حق أهل البيت المطهرين وقد قال تعالى: ?يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ?[التوبة:119]، ومن أصدق ممن قام على الشريعة وبذلها إن كنتم تعقلون ?وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ? [المائدة:50]، ?وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ? [هود:88]، و?حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ? [آل عمران:173].(1/423)

84 / 101
ع
En
A+
A-