بحث في قيام إمامين
ومهما كان المتعاصران قد بلغا رتبة الإمامة، وتحليا بجلباب الزعامة، فالأحق والأولى الحمل على السلامة، لأن كل واحد منهما يريد إصلاح الأمة، ولتحتم وجوب القيام عليه عنده، ولا شك أن الإمام في نفس الأمر واحد، ولكن الله يقول: ?وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ? [الأحزاب:5]، وإنما قلنا إنه واحد في نفس الأمر لقيام الأدلة عقلاً ونقلاً.
أما العقل: فلأن قيام إمامين موجب للإضطراب والفساد، واختلال نظام العباد، إذ النظر إلى الإمام فيما مرجعه إلى مصالح المسلمين والإسلام، ومن المعلوم اختلاف الأنظار وتغاير الآراء، فقد يرجح أحدهما أمراً والآخر خلافه، ويظن أحدهما الصلاح في شيء والآخر عكسه، وأما النقل فلو لم يكن إلا الإجماع على جواز الإمام الواحد، والخلاف في غيره، والإمامة مشتملة على أمور شرعية لا يجوز تناولها إلا بدلالة قطعية، ولا دليل على ما عدا الواحد، أما القياس على الأنبياء ففاسد، لوجود الفارق وهو الوحي والعصمة، ولكونه ظنياً والمسألة قطعية، إذ هي من مسائل الاعتقاد، وأما حكاية الإجماع على الجواز فمعارضة بحكايته على المنع، مع كونها ظنية على أن هذه أشهر وأظهر.
وأيضاً فقد ورد في السنة ما يقتضي المنع، نحو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من دعا إلى نفسه أو إلى غيره وهناك إمام فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)).
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام في الشافي: والأمة تروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا بويع لخليفتين قتل الآخِر منهما))، ولم يشتهر عن قدماء العترة صلوات الله عليهم إلا المنع، ومن اطلع على أحوالهم، وتصفح صرائح أقوالهم، صح له ذلك، وليس هذا موضع البسط والتبيين، وإنما أتينا بطرف من ذلك لجلالة هذه المسألة وعظم موقعها في الدين ولا بأس ببيان حجة، وإيضاح محجة، والله الموفق.(1/334)
فأما من أقدم على ثلم أعراض أئمة الآل الهداة، فقد تسربل بسربال الوبال، وانتظم في سلك أرباب الضلال، وحق عليه غضب الملك المتعال، وحظه أخطأ، وعلى نفسه أساء، ?وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ? [الشعراء:227]، وأعجب من هذا إن كان من خلطاء الجهل، وأسراء التقليد، من جعلهم الله أقرب شبهاً بالأنعام، المنهمكين على جمع الحطام، الذي لا يفرقون بين الحلال والحرام، قد تسموا بأهل المعرفة، وتزيوا بشيء من تلك الصفة، ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، لا يكلون النظر إلى أربابه، ولا يقفون على ما هم أحق وأولى به.
فتصاهلت عرج الحمير .... فقلتُ من عدم السوابق
ضلوا وأضلوا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا إنهم هم الكاذبون.
هذا، وأما من طهرهم الله عن الأرجاس، واصطفاهم على كافة الناس، فليس بضارهم شيئاً، فقد ألحقهم الله بآبائهم من النبيين، وقدس أرواحهم في عليين، وقد أوذي النبي، وعصي الوصي، فما زادهم الله إلا علواً وارتفاعاً، ولا تجد ذلك إلا في همج الدنيا، وأتباع الهوى، وأما أولياء الله فلو ضربوا بالسيوف ما زادهم إلا حباً، كيف وقد أنزلهم الله في منزلتهم واصطفاهم من شجرتهم، وخالطهم الإيمان، ووقفوا على حقيقة العرفان، ورسخت أقدامهم على هدي السنة ومحكم القرآن، جزاهم الله عن أهل بيت نبيهم أفضل الجزاء.(1/335)
الإمام مجد الدين بن الناصر
الزلف:
62- وسبطُ الإمامِ الناصرِ المجدُ بعدهُ .... فمُدَّتْ على الإسلامِ منهُ صنائِعُ
التحف: في هذا البيت:
الإمام الداعي إلى الله مجد الدين بن الإمام الناصر لدين الله الحسن بن الإمام الهادي إلى الحق عز الدين بن الحسن بن الإمام الهادي إلى الحق علي بن المؤيد عليهم السلام.
دعا إلى الله بعد وفاة أبيه، وألحقه الله بآبائه الأبرار المنتجبين الأخيار سنة اثنتين وأربعين وتسعمائة، عمره ست وخمسون سنة.
عقبه من ولده: شمس الدين مشهده ببلاد الحرجة بقرب مسجده المشهور هناك، ومن ذريته السيد العلامة الورع الزاهد العابد صفي الدين والإسلام أحمد بن محمد بن أحمد بن علي بن محسن بن أحمد بن محمد بن يحيى بن حسن بن شمس الدين بن محمد بن شمس الدين بن الإمام مجد الدين المتوفى يوم السبت السابع من ربيع الثاني سنة (1410هـ)، وقد نوه العلماء بالقصيدة الفريدة التي جمعت بين تهنئة الإمام مجد الدين بن الحسن بالقيام، وترثية والده الإمام عليه السلام، في نصف بيت وهي للسيد العلامة البليغ الحسن بن عبدالله بن قاسم القطابري بن محمد بن الهادي بن إبراهيم بن الأمير المؤيد بن أحمد المهدي بن الأمير شمس الدين يحيى بن أحمد بن يحيى بن يحيى، رضي الله عنهم، مطلعها:
الأمس يبكي وهذا اليوم قد ضحكا .... وصار يضحك من بالأمس كان بكا
ومنها:
بالأمس غُيِّب في بطن الثرى قمر .... واليوم لاح هلال زين الفلكا
كذا الزمان وفي أفعاله عبر .... والشر والخير في أيامه اشتركا
لئن فقدنا إمامً كان عمدتنا .... فقد وجدنا إماماً للفقيد حكا
ومنها:
جَلَّت خلافة مجد الدين كربتنا .... حتى كأن أباه اليوم ما هلكا
ومنها:
واستبشرت مكةٌ عند القيام به .... وطَيبةٌ طاب منها القلب إذ ملكا
وساق على هذا، قال السيد العلامة داود بن الهادي في تتمة البسامة:
ثم الخليفة مجد الدين قائمنا .... أجل داع دعا حقاً من البشر
لكنه رفض الدنيا وزهرتها .... فقابلته صروف الدهر والقدر(1/336)
قال القاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال رضي الله عنه في مطلع البدور ومجمع البحور - عند ذكرها -: قلت: وهذا الإمام الممدوح، حري بأن تمدحه الملائكة والروح، كان من العلم بمحل لا يلحق، ومن الهداية في فَلَك لا يغيب نوره ولا يمحق، وأما علوم العربية فكان نسيج وحده، وله شرح على الموشح، وكان من الزهد والورع بمحل عظيم، وكانت بسطته على أكثر الأقاليم المتوسطة من اليمن، وكانت الحصون بيده فلما اطلع على أمور من الأمراء تقضي بها السياسة منع منها، فكان بها انحلال الحال، وأعظمها مسألة الرهائن، فإنه لم يرض بهم، وقال: ?تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى? [الأنعام:146]، وكان له كرامات.
وحكى قصة الظالم الذي اعترضه في طريق الحجاز، وأراد أخذ الحصان الذي يركب عليه الإمام، وكان مع الإمام جماعة من أصحابه الفضلاء، فرتبوا، فانتقم الله من ذلك الباغي وأخذه الورم فهلك.
قال: ولما حضرت الوفاة الإمام مجد الدين جعل وصيه الإمام شرف الدين، وأرسلوا للإمام شرف الدين بسجادته وشيئاً من أعمال عبادته، فبكى الإمام شرف الدين كثيراً، وقال: لو علمت حال مجد الدين ما قمت هذا المقام، وكان للإمام مجد الدين في الأدب مع كمال رجاحته وفكرته حظ عجيب، وهذا ديدن أهل البيت المؤيدي عليهم السلام، انتهى كلامه.
وفي الدامغة قال السيد داود بن الهادي من شعره عليه السلام - أي الإمام شرف الدين - لأنيسه وجليسه السيد يحيى بن الحسن عليهم السلام، وقد توهم فيه الميل إلى ولده المطهر بن شرف الدين، وذلك في آخر مدته عليه السلام، وهي:
هذا العجاب وذاك العجب .... وذا الظرف يزهو وحسن الأدب
فأين شفاء كلام الكلام .... فخل المدام وخل الطرب
فواهٍ لفعل أفاد السرور .... وفعل وترك أثار الكرب
فيا رب عجل بجمع القلوب .... على اللَّذ ترضاه يا رب رب(1/337)
فأجاب عليه السيد عماد الدين بقصيدة فصيحة أبان فيها تأكد مودة الإمام عليه السلام، أولها:
أتانا نظام شريف النسب .... حميد الفعال صريح الحسب
أجل الورى كلهم عن يد .... وأرفعهم في العلا والرتب
ثمال المساكين والمرملين .... وملجؤنا في اخطوب النوب
وحجة ربي على خلقه .... ومحيي الهدى بالقنا واليلب
فيا لك نظماً يوفوق اللآل .... ويزري بهاء عقود الذهب
ويحكي الأنابي في نشره .... ورشف المدام وظلم الشنب
ويحكي الرياض وما في الحياض .... وطيب البياض بياض العنب
فما ابن المراغة أو جرول .... وما الصاحب الندب مهما خطب
وما ابن العميد ونسل الحميد .... وما هو لبيد فصيح العرب
إلى أن قال:
أفاد السرور وأهدى الحبورَ .... مقال الخليفة يا رب رب
فطبنا نفوساً بذاك الدعا .... ونلنا المنى وبلغنا الأرب
وطيبة نفس إمام الهدى .... تُجَلِّي حنادس ليل الكرب
هجبتك لا عن قلى في القلوب .... أُقلب إن زرت بين اللهب
ولكن وجدت بقاء الوداد .... مع الهجر والصد لا عن غضب
وصفحاً عن العبد يا سيدي .... إذا كان للذنب منه ارتكب
وأحسن فديتك فيَّ الظنون .... وأكذب أكاذيب من قد كذب
فشلت يدا من وشى بيننا .... وتبت يداه يدا ابي لهب(1/338)