فأجابه الدعام بهذا الشعر:
أتى كتاب إمام صادق لقن .... بالفرض يأمرنا منه وبالسنن
هذا أبوه رسول الله يتبعه .... خير البرايا إمام من بني الحسن
أبو الحسين الزكي الهاشمي فما .... خذلانه بحلال يا ذوي الفطن
وكيف ذاك وفي خم لطاعته .... فرض علينا به قد قام لم يهن
أنت المقدم يا ابن المصطفين فما .... لنا سواكم برغم الكاشح الضغن
أقدم على الرشد والتوفيق معتمداً .... على الإله فعندي النصر بالبدن
وبالبنين وبالأموال قاطبة .... وبالعشائر من همدان في سَنَن
تترى بنصرك يا ابن الطاهرين كما .... تترى من الماء أسبال من المزن
معي فوارس من همدان ناصحة .... لله صادقة في القول والدِّيَنِ
أنا سنانك أُوْهِي حد سَورَةِ من .... ناواك يا ابن رسول الله في اليمن
أقود خيلك أحمي عن مكارهها .... بذي كعوب وماض حده أرنِ
شفى الصدور كتاب أنت كاتبه .... هذا وأيقظنا من نومة الوسن
ذكرت سالف أجدادي الذين سعوا .... في نصر جدك في ماض من الزمن
أنا خليفتهم في نسل قائدهم .... يحيى الإمام بلا عجز ولا غَبَن
ما بعد قولك من قول فنتبعه .... يا ابن الحطيم ويا ابن الحجر والرُّكن
يا ابن الوصي أمير المؤمنين ويا .... نسل البتول ومن قد فاز بالمنن
حبلي بحبلك موصول بلا كذب .... والود مني لكم ينقاد بالرَّسن
إلى اتباعك فاحفظها منحلة .... من سامع لك لا ينساك في الوطن
إنا نرى من تنحى عن ولايتكم .... كجاحد مالَ من جَهْلٍ إلى وثن
ومنها:
واعزم على ما آراك الله من رشد .... حتى تميز عن كشف من المحن
وتستبين فعالي في مسيركم .... حقاً وليس مقالي فيك بالأفن
شيء من كلامه:
قال عليه السلام في تفسيره لآيات من كتاب الله: والقرآن، فإنما نزل على العرب بلغتهم، وخاطبهم الله فيه بكلامهم، والنفس تُدخِلها العرب في كلامها صلةً لجميع ما تأتي به من مقالها، وقد تزيد غير ذلك في مخاطبتها، وما تسطره من أخبارها، مثل: (ما) و (لا)، وغير ذلك مما ليس له عندها معنى، غير أنها تحسن به كلامها، وتصل به قيلها وقالها.(1/197)
إلى أن قال: وفي ذلك ما يقول الرحمن الرحيم - فيما أنزل على نبيه من الفرقان العظيم من قول موسى عليه السلام -: ?قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92)أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(93)? [طه:92- 93]، إلى أن قال: ومثل هذا كثير فيما نَزَّل ذو الجلال والإكرام.
ومن ذلك قوله سبحانه: ?فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ? [آل عمران:159]، وقوله: ?فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ? [النساء:155]،..إلى آخر كلامه.
وقال - مبيناً لما خاطب الله به الخلق - وسألت عن قول الله سبحانه: ?وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ? [الزمر:67]، وهذا رحمك الله فَمَثَلٌ ضربه الله لهم مما تعرفه العرب وتمثل به، وذلك أن العرب تقول لمالك الشيء: هو في يده وهو في يمينه، تريد بذلك تأكيد الملك له ؛ لأن كل ما كان في يد المالك فهو أقدر ما يكون عليه.
حتى قال: فأما قوله: ?مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ? فإخبار منه لهم بأن السماوات مطويات في ملكه، متصرفات في أمره، مجموعات في حكمه، كما يجمع الشيء المطوي جامعه، ويحوزه ويضم عليه طاويه، فمثل لهم أمر نفاذ حكمه في السماوات، وقدرته عليهم بما يعرفون من مقدرتهم على ما يطوونه وينشرونه..إلى تمام كلامه.
وقال عليه السلام في جواب مسألة النبوة والإمامة في الأنبياء: ثم أبان معهم العلم والدليل، الذي يدل على أنهم رسل مبعوثون برسالته إلى خلقه.
وأشار إلى معجزات الرسول، حتى قال في ذكر الأوصياء: والعلم والدليل فهو فضلهم على أهل دهرهم، وبيانهم على جميع أهل ملتهم.(1/198)
إلى أن قال: وعلمهم ودليلهم فهو العلم بغامض علم الأنبياء، والاطلاع على خفي أسرار الرسل. قال: من ذلك ما كان يوجد عند وصي موسى، وعن وصي عيسى عليهم السلام، مما لا يوجد عند غيرهم من أهل دهرهم، ومن ذلك ما يوجد عند وصي محمد صلى الله عليه وآله وسلم علي بن أبي طالب.
قال: ومن ذلك ما كان عنده من كتاب الجفر، وما كان عنده من علم ما يكون إلى يوم القيامة.
وقال في وصف المستحقين للإمامة من ذرية الرسول: بولادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وبمعرفتهم بذي الجلال والإكرام، والورع الذي جعله الله قواماً للإسلام، وبالمعرفة بالحلال عند الله والحرام، وبما يحتاج إليه في الدين جميع الأنام.
حتى قال: وبكشف الرؤوس، وتجريد السيوف، ورفع الرايات لله تعالى وفي الله عز وجل، والمنابذة لأعداء الله، وبإظهار الدعاء إلى الله.
إلى أن قال: وإحياء الكتاب والسنة، وإقامة الحق والعدل في الرعية، والإطلاع على غامض كتاب الله ووحيه، الذي لا يطلع عليه إلا من قلده الله السياسة، وحكم له بالإمامة..إلى تمام كلامه.
عبادته:
روى سليم الذي كان يتولى خدمته: أنه تبعه في بعض الليالي، وكان يسير مع الإمام إلى الموضع الذي يبيت فيه ثم ينصرف، وفي تلك الليلة رأى أن يبيت على الباب - ولم يعلم به الإمام - لينظر ما يصنع، قال: فسهر الليل أجمع ركوعاً وسجوداً، وكنت أسمع وقع دموعه، ونشيجاً في حلقه (ع).(1/199)
مؤلفاته:
كان عليه السلام لا يتمكن من إملاء مسألة إلا وهو على ظهر فرسه في أغلب الأوقات، ومن مؤلفاته: كتاب الأحكام، والمنتخب، وكتاب الفنون، وكتاب المسائل، ومسائل محمد بن سعيد، وكتاب التوحيد، وكتاب القياس، وكتاب المسترشد، وكتاب الرد على أهل الزيغ، وكتاب الإرادة والمشيئة، وكتاب الرضاع، وكتاب المزارعة، وكتاب أمهات الأولاد، وكتاب العهد، وكتاب تفسير القرآن ستة أجزاء، ومعاني القرآن تسعة أجزاء، وكتاب الفوائد جزآن، وكتاب مسائل الرازي جزآن، ,كتاب السنة، وكتاب الرد على ابن الحنفية، وكتاب تفسير خطايا الأنبياء، وكتاب أبناء الدنيا، وكتاب الولاء، وكتاب مسائل الحسين بن عبدالله (الطبري)، ومسائل ابن أسعد، وكتاب جواب مسائل نصارى نجران، وكتاب بوار القرامطة، وكتاب أصول الدين، وكتاب الإمامة وإثبات النبوة والوصاية، وكتاب مسائل أبي الحسين، وكتاب الرد على الإمامية، وكتاب الرد على أهل صنعاء، والرد على سليمان بن جرير، وكتاب البالغ المدرك في الأصول شرحه الإمام أبو طالب، وكتاب المنزلة بين المنزلتين.
قال الإمام المنصور بالله عليه السلام: وقد تركنا قدر ثلاثة عشر كتاباً كراهة التطويل، وهي عندنا معروفة موجودة. انتهى كلام الإمام عليه السلام.
قلت: فانظر إلى هذا مع اشتغاله بإظهار الدين الحنيف، وضربه بذي الفقار رؤوس أهل الزيغ والتحريف، وقد كان ابتداؤهم في التأليف من عصر الوصي عليه السلام، فقد كانوا يكتبون ما يمليه عليهم من العلوم الربانية، والحكم البالغة، التي خص الله بها أهل هذا البيت الشريف، ومؤلفاتهم بين ظهراني الأمة قد ملؤوها بحجج العقول، وأكدوها بصحة المنقول.
أما التوحيد والعدل، فإمامهم فيه والدهم الوصي، الذي خطب به، وبلغ الخلق على رؤوس المنابر، ولقنه أولاده الوارثين له كابراً عن كابر.(1/200)
وأما سنة جدهم فمن باب المدينة دخلوا، وصاحب البيت أدرى بالذي فيه، ولقد حفظ بعضهم عن باقر علم الأنبياء محمد بن علي سبعين ألف حديث.
وأما علوم اللغة فمنها ارتضعوا، وفيها دبوا ودرجوا، ومن زلالها كرعوا، يتلقونها أباً عن أب، لم تدنسها السنة العجم، ولا غيرتها تحاريف المولدين، بل تربوا في حجور آبائهم الطاهرين، ليس لهم هم إلا تعريفهم ما أنزل الله من الفرائض، وتبيين ما ضل عن الخلق من الغوامض، لم يكن بينهم وبين أبيهم أمير المؤمنين وأخي سيد المرسلين - مَنْ كلامه فوق كلام المخلوق، ودون كلام الخالق، من احتذت على آثاره فصحاء الأمة، واقتبست من أنواره بلغاء الأئمة - إلا إمامٌ سابق، ومقتصد لاحق، وهم العرب الصميم، وأرباب زمزم والأباطح والحطيم، فلولا أن ما نقلته النقلة من أهل اللغة موافق لكلام الله وكلام رسوله وأهل بيته لما قبلناه منهم، ولما أخذناه عنهم، فهو معروض على هذه الأصول الحكيمة، والقواعد الراسخة القويمة، ومن له عناية في اقتفاء آثار أهل بيت نبيه، أمكنه أن يأخذ من كلامهم متون اللغة وإعرابها وتصريفها، ومعانيها وبيانها وبديعها وتأليفها، وحقائق التأويل، وطرائق التنزيل، فلم يأتمنهم الله على دينه، إلا وهم أهل لحمله وتلقينه، ?اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ? [الأنعام:124].
وفاته: قبضه الله إليه شهيداً بالسم، وهو في ثلاث وخمسين سنة، ليلة الأحد لعشر بقين من ذي الحجة سنة ثمان وتسعين ومائتين، ودفن يوم الاثنين في قبره الشريف المقابل لمحراب جامعه الذي أسسه بصعدة، وروى السيد أبو العباس عليه السلام أنه نعي إلى الإمام الناصر الأطروش فبكى بنحيب ونشيج، وقال: اليوم انهد ركن الإسلام.(1/201)