إلى قوله: فإن رأيت وفقك الله أن لا تعجل وتنظر فيما سألتك وتعرضه على قلبك فإنك إن كنت محتاجاً إلى رضى هارون، فإنك محتاج إلى رضى الرحمن، فانظر لنفسك قبل يوم الحسرة والندامة..إلى قوله: واحذر أن تلقى الله بدمي.
إلى قوله: ووقع كلامه في قلبه فلما كان في الليل أرسل رسله إلى يحيى، فقال: إن كلامك قد وقع في قلبي، وإن قبلي للناس مظالم، وإن لي من المظالم الكبار والذنوب العظام الموبقات ما لا أطمع في النجاة معها والمغفرة.
فقال له يحيى: لا تفعل فإنه لا ذنب أعظم من الشرك، وقد قال الله في محكم التنزيل للمشركين الذين أسرفوا في الشرك وفي معاداة النبي وقتل أصحابه: ?يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ? [الزمر:53]، فأمرهم بالإنابة والتوبة، والله تبارك وتعالى يغفر لمن تاب، وإن عظم جرمه.
قال: فتضمن لي المغفرة، إن أنا خليتك، قال له يحيى: نعم أضمن على شريطة، قال له جعفر: وما هي؟ قال: تتوب من كل ذنب أذنبته بينك وبين الله ثم لا تعود في ذنب أبداً، وأما الذنوب التي بينك وبين الناس فكل مظلوم ظلمته ترد ظلامته عليه، فإنك إذا فعلت ذلك وأديت الفرائض التي لله عليك غفر الله لك، وأنا الضامن لك ذلك.
قال: فعزم جعفر على تخليته، وأخذ على يحيى العهود والمواثيق بأن يمضي من فوره ذلك حتى يدخل إلى بلاد الروم.
إلى قوله: وكتب له جعفر بن يحيى منشوراً أن لا يعرض له، وأن يحتال هو بالدخول إلى بلاد الروم سراً وحده لأمر مهم وينفذ من يومه إذا وصل الشالية، وأخرجه ليلاً.(1/136)
قال: وكان عم جعفر بن محمد بن خالد بن برمك عاملاً على ثغور الروم، فمر يحيى من فوره حتى أتى ثغر المصيصة، فأخذا بها، وأتي به إلى محمد بن خالد بن برمك، فلما نظر إليه وتأمله، قال: أنت يحيى بن عبدالله، فأنكر ذلك، فتهدده وضربه، فأنكر وأخفى خبره، وقال: هذا يحيى دفعه هارون إلى جعفر ليقتله، فأطلقه، وإن بلغ هارون إطلاقه كان فيه هلاك آل برمك، فخرج به إلى هارون يطوي المننازل حتى وافاه بمكة، فدخلها ليلاً ومعه سبعة أبعرة، فمضى حتى صار إلى دار الفضل بن الربيع، فاستأذن عليه من ليله، فقال له الفضل: تركت عملك وجئت، فقال: إن الأمر الذي جئت له أعظم من أن أذكر معه عملاً، قال: ما هو؟ قال: هذا يحيى بن عبدالله معي.
فقال له الفضل: قد مات يحيى فقال: هذا يحيى معي، وكان الفضل عدواً للبرامكة، فقال محمد بن خالد بن برمك: اعلم يا أمير المؤمنين بمكاني، وانظر لا يعلم به أحد فإنه إن علم بي جعفر خفت أن يغتالني، قال: فأخبر الفضل هارون بأمر يحيى.
قال: فأقلقه ذلك، فوجه إلى هرثمة فأحضر وإلى محمد بن خالد وغيرهما فشاورهم، فقال له هرثمة: يا أمير المؤمنين، إنك في موسم مثل هذا ولا آمن إن أحس جعفر بأمر يحيى وخيانته فيه استقبل وعمل في صرف الخلافة، قال: فما الرأي؟ قال: أن تضرب عنق هذا القادم عليك، وكل من معه من الغلمان والحشم حتى لا يخرج خبره، وتأمر بيحيى تطوى به المنازل طياً إلى بغداد، وتظهر لجعفر من اللين والكرامة أضعاف ما كان منك، فإذا دخلت بغداد قتلت جعفراً وجميع البرامكة، واستبدلت بهم.(1/137)
قال: ففعل هارون كل ما أشار عليه هرثمة إلا قتل محمد بن خالد، فإنه استبقاه وقدم بغدد فقتل جعفر أو الفضل وحبس يحيى بن خالد، واستصفيت أموالهم، وقتلت رجالهم، وأحضر يحيى بن عبدالله، فقال: يا يحيى لم يكفك ما عملت بي حتى أفسدت علي وزرائي، والله لأقتلنك قتلة تحول بينك وبين إفساد أحد علي، فقال له يحيى: اتق الله يا هارون وراقبه، فإنك عن قليل لاقيه، وهو سائلك عن نقض ما أعطيتني من العهود والمواثيق المأخوذة لي عليك، فلا تك ساهياً عن عقاب الله غافلاً عن وعده ووعيده، فإنك لا ترجوا من الله ثواباً ولا تخشى عقاباً، تعمل أعمال الفراعنة، وتبطش بطش الجبابرة، خليلك ووزيرك من اتبع هواك في معصية الله، وعدوك من دعاك إلى طاعة الله، حسبك يا مغرور ما احتملت من الأوزار، وارجع إلى الله فإنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، ويعلم ما في الصدور.(1/138)
قال: فدفعه الرشيد إلى مسرور، فقال: يكون عندك حتى أسألك عنه، فلما خرج إلى خراسان الخرجة الأولى نزل بقرية من قرى الري يقال لها (رينويه) أمر أن يحفر قبر من ناحية المقابر، ويترك فسمعت جماعة من ناحية أرينويه منهم أحمد بن حمزة، والحسين بن علي بن بسطام، وغيرهم من أهل مدينة الري، والحسن بن إبراهيم بن يونس كلهم يقول ويخبر عن الحفارين الذين حفروا القبر، قالوا: أمرنا أن نحفر قبراً طوله كذا وعرضه كذا، ولا نجعل له لحداً وظننا أنهم يدفنون فيها مالاً فصعدنا على شجر كان في المقبرة لننظر ما يدفن، فلما مضى من الليل نصفه إذ بنفر عليهم ثياب بيض وفارس يركض وهو يصيح: خذوه خذوه ويوهم من كان هناك أنه قد راه فسكنا حتى وقفوا على القبر فإذا رجل مكبل بالحديد على بغل ومعهم تابوت على بغل آخر، فوضع التابوت في القبر، وجاء القوم فانزل الرجل من البغل وادخلوه التابوت وهو يقول: يا هارون اتق الله ما يشفيكم قتلي دون عذابي أي درك لك في عذابي، فيقول الملك عظيم هبيته: اطرحوه الآن في التابوت، فما زال يناشده الله والرحم حتى واروه في التابوت فلما انصرفوا، قلنا: والله لو لم نحضر ما كان علينا من دمه، وإن أغفلناه كنا شركاء في دمه، وأخذنا المساحي ثم عالجنا حتى أخرجنا التابوت، فاستخرجناه منه، وبه أدنى رمق، فذهبنا به إلى النهر، فغسلناه بالماء حتى عادت إليه نفسه.
إلى قوله: وصرنا بيحيى إلى منزلنا، فكتب لنا رقعة إلى يحيى بن مالك الخزاعي فوقفنا له حتى ركب ثم دفعنا إليه الرقعة، فقال: قفوا حتى أعود، ثم مضى ساعة يتصيد ثم عاد فقال: أخبروني كيف كانت قصته، فأخبرناه، فبكى، ثم دعا ببدرة دنانير، فقال: ادفعوها إليه وقولوا له: قال يحيى يا مولاي أطو الأرض ولا تعترف إلى أحد من الناس، والحق ببلاد الشرك.(1/139)
قال: فأتينا بالبدرة فأخذ منها دينارين ودفع الباقي إلينا ومضى، قال بعضهم يقول: مضى إلى بلاد الشرك، وبعضهم يقول أنه أعقب في بلاد الإسلام بعد هذا، وكان رجل يعرف بعبدالله الله بن منصور، وكان حَبراً فاضلاً كثير العلم كتب عن الناس من أهل البيت وغيرهم، قال: إنه من ولد يحيى بن عبدالله، وذاك أن جده منصور البخاري أبا أمه كان من أصحاب يحيى فلما طلبوا وأخذ أصحاب يحيى فر من بخارى ونزل قومس، فلما خرج يحيى من القبر لقيه منصور وهو خارج من الجبال بقومس، قال: أين تريد؟ قال: أريد أن أدخل بلاد الشرك تبت أو الترك، قال له منصور: لا تفعل ولكن أقم عندي ولا تعلم أحداً من خلق الله من أنت.
أولاده عليه السلام: محمد - وله العقب -، وعيسى، وإبراهيم درجا، وعبدالله، وصالح درجا، انتهى باختصار.(1/140)