إلى قوله: وكان يقال: لو ادعى أحد لأحد بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نبوة لأمكن أهل يحيى ادعاؤها لما ظهر في أمره من الآيات في شيء بعد شيء مدة حبسه، وقد كان هارون يفرج عنه ثم ينكص فيعيده، وقد أخرجه مرة من الحبس وأعطاه مائة ألف دينار، واعتذر إليه، ثم رده، والخلاف في أمره واقع مع الإجماع على هلاكه في السجن بأي سبب كان ذلك، أبسُمٍّ أم بالجوع أم خنقوه، أم بنوا عليه، أم كيف كانت القضية، أم دفن حياً في الأرض، والله المنتصف له من ظالمه، وقد كان كتب رقعة وسلمها إلى يحيى بن خالد، وقال: يا أبا الفضل إن لصاحبك فينا إرادة فإذا أمضاها فأعطه هذه الرقعة، وكان فيها: (يا هارون إن المستْعدي قد تقدم، والخصم على الأثر، والحاكم لا يحتاج إلى بينة)، فلما ظهر موت يحيى أعطاه الكتاب، قال: فما منعك أن تعطيني إياه في حياته، قال: كان عهدَ إليَّ بهذا المشتكي.
وقال في كتاب أخبار فخ لأحمد بن سهل الرازي رضي الله عنه ص232 الطبعة الولى عام 1995م: أخبرني محمد بن القاسم بن إبراهيم رحمه الله عن أبيه، قال: لما بعث يحيى بالأمان كتب إلى هارون أن يجمع الفقهاء والعلماء، ويحلف له بطلاق زبيدة باسمها واسم أبيها وعتق من السراري، وتسبيل كل ما يملك من مال، والمشي إلى بيت الله الحرام، والأيمان المحرجات، وأن يشهد الفقهاء على ذلك كله، قال: فأسرع هارون إلى أمانه، وأعطاه الشروط التي اشترطها كلها، والأيمان التي طلب، والأشهاد.
إلى قوله: وأخبرني موسى بن عبدالله عن بعض أهله، قال: رجلان من أفضل أهل زمانهما، وأفضل أهل عصرهما، أحدهما من ولد الحسن، والآخر من ولد الحسين لا يوقف على موتهما، ولا على قتلهما كيف كان: موسى بن جعفر، ويحيى بن عبدالله.(1/131)


قال المدائني عمن أخبره: دفع هارون يحيى إلى جلاد يقال له: أسلم أبو المهاصر، فحبسه عنده، قال: وكان الرشيد يركب حماراً ويدور في القصر فيسأل أسلم عن خبره فيخبره، فقال له يوماً أنه يطبخ قدراً في كل يوم بيده ووصف له صفتها، فقال الرشيد.
..إلى قوله: فاذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: أطعمنا من قدرك، قال: فأتاه فقال له، فأخذ قصعة له من خشب فغسل داخلها ثم غرف أكثر القدر وبعث به إليه، فلما جاءه به أمر أن يؤتى بخبز وأكل به حتى بقيت قطعة بصل في جنب القصعة، فأتبعها بلقمة حتى أخذها، ثم دعا مسروراً الكبير، فقال: احمل إلى يحيى ألف خلعة من كل فن سري من الثياب الفاخرة، مع ألف خادم فاره كل خلعة ثلاثة أثواب، وانشرها كلها عليه، وعرفه أثمانها، ومن أهداها لنا، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين، جعلناها مكافأة لك على ما أطعمتنا حتى تأتي على آخرها.
قال: فأتاه مسرور بالخلع والخدم، وأبلغه الرسالة، وهو مطرق ما ينطق ولا ينظر، قال: وأحس يحيى بالشر منه لما أتاه بذلك، وأيقن أنه معذب مقتول، قال: فرفع رأسه، فقال: قل لأمير المؤمنين، إنما ينتفع بهذا من له في الحياة طمع ونصيب، ومن كان آمناً على نفسه راجياً لبقائه، فأما المحبوس المقهور الخائف المأسور، المرتهن بسعايا البغاة بغير ما جنت يداه، فاتق الله يا أمير المؤمنين ولا تسفك دمي، واحفظ رحمي وقرابتي فإني في شغل عما وجهت به إلي.
قال مسرور: فرققت له، ثم رجعت إلى نفسي، فقلت: لا ولا كرامة لا أقول لأمير المؤمنين من هذا شيئاً، فقال يحيى: هذا من ذاك الذي أتخوفه وأشفق منه.(1/132)


وعاد مسرور إلى الرشيد فأخبره بكل ما قال، قال: فقال له: فما قلت له: فأخبره بما قال، قال: أصبت، وأمره أن يرجع إليه ويقول له: يقول لك أمير المؤمنين، إن أحببت أن أطلق عنك فأخبرني بأسماء السبعين الذين أخذت لهم الأمان لأعلم أنك بريء مما سعي إلي فيك، فإنك إن فعلت أخرجتك من حبسي، وأجزتك بألف ألف دينار، وأقطعتك من القطائع، وأعطيت أصحابك من الأموال كذا وكذا، وأنزلتهم من البلاد حيث شاءوا.
قال مسرور: فلما قلت له ذلك، قال: قل له: يا أمير المؤمنين، أله عن ذكر أولئك، فإنك لو قطعتني إرباً إرباً لم يرني الله أشاركك في دمائهم، ولو أعطيتني جميع ما في الأرض ما أنبأتك باسم واحد منهم، فاصنع ما بدا لك، فإن الله بالمرصاد.
إلى قوله: قال أسلم: فجئت إلى محبسي فأخرجت يحيى منه وجعلته في بيت دونه ثلاثة أبواب، وأغلقت الباب الأول والثاني والثالث.
إلى قوله: فلما كان بعد سبعة أيام أتيته والموكلون بالباب فدخلت عليه، وأغلقت الباب من داخل فإذا هو يصلي، فاشتد تعجبي، وقعدت بحذاه، وقلت: بهذه الخلقة أردت الخلافة، وبهذا الوجه أردت الخروج على أمير المؤمنين - وكان يحيى خفيف اللحية - وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إلي، فما زلت أعرض به وهو مقبل على صلاته ما يلتفت إلي حتى شتمته.
إلى قوله: فأسرع في صلاته وأوجز فيها، ثم وثب إلي وثوب أسد فقعد على صدري، وقبض على حلقي وعصره حتى ظننت أنه قد قتلني، ثم أرسلني حتى استرحت، ثم قبض على حلقي حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: لولا أنه ليس في قتلك درك لقتلتك، ثم قال: ويلك من شتمت أفاطمة بنت محمد أم فاطمة بنت أسد أم فاطمة بنت الحسين، أم زينب بنت أبي سلمة، ثم خلاني فخرجت هارباً، وفتحت الأبواب، وقلت للبوابين ادخلوا فليس هذه قوة من لم يأكل سبعة أيام شيئاً ففتشوا البيت.(1/133)


قال: وأخبرني أبو هاشم إسماعيل بن علي بن إبراهيم بن علي بن حسن بن عبدالله بن العباس بن علي بن أبي طالب عن حمزة بن القاسم عن أبيه عن إبراهيم، قال: تذاكرنا يوماً عند عمر بن فرج الراجحي أمر يحيى بن عبدالله، فقال عمر بن فرج: حدثني مسرور الخادم، قال: أتي بيحيى وهارون بالرافقة وعنده عبدالله بن مصعب الزبيري، فقال الزبيري: يا أمير المؤمنين إن هذا وأخويه قد أفسدوا علينا مدينتنا، فقال له يحيى: ومن أنت عافاك الله، فجرى بينهما من الحديث ما كتبناه حتى أنشد يحيى هارون الشعرين اللذين قالهما الزبيري في محد رحمه الله، فاسود وجه الزبيري، وتغير وانتفى أن يكون قال من هذا شيئاً، فقال يحيى يا أمير المؤمنين إن كان صادقاً فليحلف بما أحلفه، فأمر هارون أن يحلف، فقال له: قل: برأني الله من حوله وقوته، ووكلني إلى حولي وقوتي إن كنت قلت هاتين القصيدتين.
قال: ليس هذه من الأيمان، أنا أحلف بالله الذي لا إله إلا هو وهو يحلفني بشيء ما أدري ما هو، فأمره الرشيد أن يحلف، فما أتى عليه إلا ثلاث حتى مات، فأمر الرشيد أن يدفن فدفن فانخسف القبر، ثم بنوا ثانية فانخسف القبر، ثم بنوا ثالثة فانخسف القبر، فأمرهم هارون أن تضرب عليه خيمة، فما زالت مضروبة على قبره.
وأما هارون الوشاء فقال: حدثني عبد العزيز بن يحيى الكناني، قال: جمع هارون الفقهاء، فكان فيمن حضر وأحضر من القرشيين جماعة من ولد أبي بكر وعمر وعثمان والزبير وأبو البختري، وأحضر أمان يحيى، فدفع هارون الأمان إلى محمد بن الحسن، ويحيى في الحديد، فقال: يا محمد انظر في هذا الأمان هل هو صحيح أم هل في نقضه حيلة، فقراه، ثم قام قائماً، فقال: يا أمير المؤمنين أمان صحيح ما رأيت أماناً قط أصح منه، ولا ظننت أنه ما بقي في الدنيا رجل يحين أن يكتب مثل هذا، ولو كلفت أن أكتب مثله ما أحسنت.(1/134)


قال: فغضب الرشيد حتى انتفخت أوداجه، وانقطعت ازراره، وأخذ داوة بين يديه فضرب بها رأس محمد فشجه، فذكر القصة.
ثم قال آخر: ذلك دفعه إلى الفضل بن يحيى، ولم يقل أن أبا البختري قال: فيه حيلة، ولكن لما رأى أبو البختري هارون قد غضب، قال: ردوا علي الأمان بعدما كان قد نظر فيه وصححه، فردوه عليه فوضع يده على حرف، فقال: هذا آخره ينقض أوله اقتله ودمه في عنقي، فقال له يحيى: يا مقلوط، والله لقد علمت قريش أنه مالك أب يعرف، فلو استحييت من شيء لاستحييت من ادعائك إلى من ليس بينك وبينه رحم مع أن من تدعى إليه عبد لبني زمعة، ثم قال: يا هارون اتق الله فإنه لا ينفعك هذا ولا ضرباؤه يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار، فقال هارون: انظروا لا يستحل أن يقول: يا أمير المؤمنين، هذا ينتقض ما أعطيته من الأمان، قال يحيى: ما جزعك من اسم سماكه أبواك، قد كان يقال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يا محمد، فما ينكره، وهو رسول رب العالمين.
قال: فدفعه إلى يحيى بن خالد بن برمك، وخرجنا من عنده، فبكى محمد بن الحسن، فقلنا له: ما يبكيك؟ فقال: أخاف العقوبة من الله، قلنا: أليس قد أعذرت حتى خفنا عليك أن يأمر بقتلك؟ قال: كان يجب علي أن أرد على أبي البحتري ما ادعى من ذلك الحرف ينقضه، وقد كذب في ذلك، قالوا: لو تكلمت لأمر بقتلك، فلم يزل محمد في قلبه شيء من ذلك حتى مات.
قال المكي: فأخبرني الثقة أن جعفر بن يحيى حبس يحيى بن عبدالله مدة عنده حتى سأله هارون عنه، فأخبره بسلامته، فقال هارون: ما أطول حياته، فعلم جعفر أنه يريد أن يقتله، فأخرجه ليقتله، فجعل جعفر يقول: وا أسفاه كيف ابتليت قتل يحيى من بين الخلق، فقال له يحيى بن عبدالله: اسمع مني أصلحك الله شيئاً يكون لك فيه السلامة في الدنيا والآخرة، أعطيك من العهود والمواثيق ما تسكن إليه نفسك أنك تركتني خرجت حتى أدخل بلاد العجم والروم.(1/135)

27 / 101
ع
En
A+
A-