أمان هارون للإمام يحيى عليه السلام
وهذه نسخة الأمان:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا أمان..إلى قوله: ليحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ولسبعين رجلاً من أصحابه، أني آمنتك يا يحيى والسبعين رجلاً من أصحابك بأمان الله الذي لا إله إلا هو الذي يعلم من أسرار العباد ما يعلم من علانيتهم، أماناً صحيحاً جائزاً صادقاً، ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، لا يشوبه غل، ولا يخالطه غش يتعلله بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب.
إلى قوله: أعطى يحيى بن عبدالله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب والسبعين رجلاً من أصحابه عهداً خالصاً مؤكداً، وميثاقاً واجباً غليظاً، وذمة الله وذمة رسوله، وذمة أنبيائه المرسلين، وملائكته المقربين، وأنه جعل له هذه المواثيق والذمم، ولأصحابه في عقدة مؤكدة صحيحة، لا براءة له في دنياه وآخرته إلا بالوفاء بها.
إلى قوله: فإن نقض ما جعل لك ولأصحابك من أمانهم هذا، أو خالفه إلى أمر تكرهه، أو أضمر لك في نفسه غير ما أظهر، أو أدخل عليك فيما ذكرت من أمانه لك ولأصحابك التماس الخديعة لك أو المكر بك، أو نوى غير ما جعل لك الوفاء به، فلا قبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، وزبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر طالق منه ثلاثاً بتة.
وأن كل مملوك له من عبد أو أمة وسرية وأمهات أولاد أحرار، وكل امرأة يتزوجها فيما يستقبل فهي طالق، وكل مملوك يملكه فيما يستقبل من ذكر أو أنثى فهم أحرار، وكل مال يملكه أو يستفيده فهو صدقة على الفقراء والمساكين، وإلا فعليه المشي إلى بيت الله الحرام حافياً راجلاً، وعليه المحرجات من الأيمان كلها، وأمير المؤمنين هارون بن محمد بن عبدالله خليع من إمرة المؤمنين والأمة من ولايته براء ولا طاعة له في أعناقهم، والله عليه بما أكد، وجعل على نفسه في هذا الأمان كفيل، وكفى بالله شهيداً.(1/126)
خذلان جستان للإمام يحيى عليه السلام
وأتى كتاب هارون وخطه بيده، فقال يحيى لجستان: هل بقي شك؟ قال: أرى أن تصالح ابن عمك، قال: قد فعلت، فلما انفصل يحيى عليه السلام من ملك الديلم جستان تلقاه الفضل بن يحيى وترجل له وقبل ركابه، وذلك بمرأى من جستان فندم جستان وحينئذ أخذ ينتف لحيته، ويحثو التراب على رأسه تلهفاً وتحسراً، وعلم أنه قد خدع وضيع.
إلى قوله: فوثب عليه بنو عمه، وقتلوه، وملَّكوا سواه من أهل بيت المملكة، وخسر الدنيا والآخرة.(1/127)
قدومه الى بغداد عليه السلام
إلى قوله: فقدم يحيى بن عبدالله عليه السلام مع الفضل بغداد، فلقيه الرشيد بكل ما أحب، وأمر له بمال كثير أربعمائة ألف دينار، وأجرى له رواتب سنية، وأنزله منزلاً سنياً بعد أن أقام في منزل يحيى بن خالد أياماً، وكان يتولى أمره بنفسه تعظيماً له.
إلى قوله: وكان من التابعين له محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وهو أحد دعاته وإخوانه، وسادات أعوانه، وابن عَوْرَك الليثي، وابن سهل، وبشر بن المعتمر، والفقيهان محمد بن عامر، ومخول بن إبراهيم، والحسن بن الحسن، وإبراهيم بن إسحاق، والحسن بن الحسين بن إسحاق، وسليمان بن جرير، وعبد العزيز بن يحيى الكناني، وقليب بن إسماعيل، وسعيد بن خثيم الهلالي، ويونس البجلي، وحبيب بن ارطأة، وعدة كثير لا يمكن حصرها في هذا الكتاب من: فقهاء المدائن، وعلماء الأمصار.
فلما كان من يحيى في بغداد ما كان استأذن هارون في النهوض إلى المدينة، فأذن له فوصل إلى المدينة على ساكنها السلام، فقضى ديون الإمام الحسين الفخي ووصل فقراء آل أبي طالب عليهم السلام وأشياعهم وعامة المسلمين، ووصل أرحاماً وأعطى عطايا أغنت أربابها، وكان الفضل بن يحيى وأبوه يحيى قد وصلوه بأموال جمة أيضاً، ولم يدخر من ذلك المال شيئاً.
وكان الزبيري عبدالله بن مصعب قد كسد سوقه عندهم فأراد النفاق بالكذب والسعاية، فسعى بيحيى بن عبدالله إلى هارون وكتب إليه: أنا كنا نظن أن ليس في الإسلام إلا خليفة واحدة، ثم الآن قد صار عندنا في المدينة خليفة يقصد من الآفاق، ومن هذا وما شاكله فانتهى الحال إلى أن أزعجه هارون من المدينة إلى بغداد، وحضر الزبيري وجرى بينهم مناظرات جمة.(1/128)
إلى قوله: وإنما نذكر منه مقاماً واحداً: ذكر محمد بن جرير في تاريخه: أن الزبيري دخل ذات يوم على الرشيد، فقال: يا أمير المؤمنين إني والله خفت عليك امرأتك وبنتك وجاريتك التي تنام معك وخادمك الذي يخدمك ويناولك ثيابك، وأخص خلق الله بك من قوادك وأبعدهم منك، قال: فتغير لونه، وقال: ممَّاذا؟
قال: قد جاءتني دعوة يحيى، فعلمت أنها لم تبلغني مع العداوة بيننا وبينه حتى لم يبق أحد خلف بابك إلا وقد أدخله في الخلاف عليك، قال: وتقول هذا في وجهه؟ قال: نعم.
قال الرشيد للفضل: أدخل يحيى، فدخل فأعاد القول الذي قاله، فقال يحيى لهارون: لقد جاء بقول لو قيل لمن هو أقل منك فيمن هو أكبر مني لما أُفلِتَ، ولكني أباهله.
قال: فافعل، فقام يحيى، فصلى ركعتين، وقال هارون للزبيري، قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين، ثم برك يحيى، ثم قال: ابرك، ثم شبك يمينه في يمينه، ثم قال: (اللهم إن كنت تعلم أني دعوت عبدالله بن مصعب على هذا - يعني الرشيد ووضع يده عليه وأشار إليه - فاسحتني بعذاب من عندك وكلني إلى حولي وقوَّتي، وإلا فكله إلى حوله وقوته، وأسحته بعذاب من عندك يا رب العالمين، فقال عبدالله: آمين يا رب العالمين).
قال يحيى بن عبدالله لعبدالله بن مصعب: قل كما قلت، فقال: اللهم إن كنت تعلم أن يحيى بن عبدالله لم يدعني إلى الخلاف على هذا فكلني إلى حولي وقوتي واسحتني بعذاب من عندك، وإلا فكله إلى حوله وقوته واسحته بعذاب من عندك آمين يا رب العالمين.
وعلى اختلاف الروايات أن الزبيري لم يلبث بعد تحليف يحيى عليه السلام له ومباهلته إياه أكثر من ثلاثة أيام منهم من قال: مات من يومه، ومنهم من قال: ثانيه، والأكثر: ثالثه.(1/129)
نقض هارون للأمان
ولما جمع هارون القضاة والفقهاء وأمرهم بالنظر في كتاب أمان يحيى، وهل إلى نقضه سبيل بحيلة من الحيل، ووجه من الوجوه كان فيهم محمد بن الحسن، فنظر فيه، فلما أتقنه قام قائماً، وقال: هذا أمان لا سبيل إلى نقضه، ولو ألجئت أن أكتب مثله لما أحسنت، فمن نقضه فعليه لعنة الله، فحذفه هارون بدواة فشجه شجة خفيفة.
قال الحسن بن زياد: هو أمان - بصوت ضعيف -، وصححه الفقهاء كافة ؛ فقال أبو البختري - لعنه الله -: هذا منتقض - تقرباً منه إلى هارون الغوي، وإيثار الدنيا على الآخرة -، فقال: أنت قاضي القضاة، وأنت أعلم بذلك، فإن كان منتقضاً فمزقه، فقال لمسرور: مزقه يا أبا هاشم، فقال: لا والله مزقه أنت، فمزقه ويده ترتعش، وكان الزبيري حاضراً، فقال: شققت العصى يا يحيى وخالفت وفرقت جماعتنا، وأردت العظيم بخليفتنا، فقال يحيى: من أنتم رحمكم الله إنما الناس نحن وهؤلاء، وأنت عدو الجميع، فلما لم تقدر علينا طلبت التشفي من بعضنا ببعض، قال: فما تمالك هارون أن ضحك ضحكاً شديداً، وقام يحيى إلى الحبس.(1/130)