ثم توجهت جماعة من أهل العلم والفضل إلى جستان في جيش، فتذاكروا ما حل بهم من ابن مروان، فخلعوه وبايعوا الحسن بن الحسن، ورأسوا عليهم ابن الأشعث إلى أن يأتيهم أمره، فكان رأسهم غير طائل ولا رشيد، نصب العداوة للحسن قبل موافاته، فتفرقت عند ذلك كلمتهم، وفل حدهم، فمزقوا كل ممزق، فلما هزم جيش الطواويس احتالوا بجدي الحسن بن الحسن، فمضى مسموماً يتحسى الحسرة، ويتجرع الغيظ، رضوان الله عليه، حتى إذا ظهر الفساد في البر والبحر، شرى زيد بن علي لله نفسه، فما لبث أن قتل، ثم صلب، ثم حرق، فأكرم بمصرعه مصرعاً.
ثم ما كان إلا طلوع ابنه يحيى عليه السلام ثائراً بخراسان، فقضى نحبه، وقد أعذرا رضوان الله عليهما، وقد كان أخي محمد بن عبدالله دعا بعد زيد وابنه عليهما السلام، فكان أول من أجابه وسارع إليه جدك محمد بن علي بن عبدالله بن عباس وإخوته وأولاده، فخرج بزعمه يقوم بدعوته حتى خدع بالدعاء إليه طوائف.(1/116)
ومعلوم عند الأمة أنكم كنتم لنا تدعون، وإلينا ترجعون، وقد أخذ الله منكم ميثاقاً لنا، وأخذنا عليكم ميثاقاً لمهدينا محمد بن عبدالله النفس الزكية، الخائفة التقية المرضية، فنكثتم ذلك، وادعيتم من إرث الخلافة ما لم تكونوا تدعونه قديماً ولا حديثاً، ولا ادعاه أحد لكم من الأمة إلا تقولاً كاذباً، فها أنتم الآن تبغون دين الله عوجاً، وذرية رسول الله قتلاً واجتياحاً، فمتى ترجعون، وأنى تؤفكون، أو لم يكن لكم خاصة وللأمة عامة في محمد بن عبدالله فضل إذ لا فضل يعدل فضله في الناس، ولا زهد يشبه زهده في الناس، حتى ما يتراجع فيه اثنان، ولا يتراد فيه مؤمنان، ولقد أجمع عليه أهل الأمصار من أهل الفقه والعلم في كل البلاد لا يتخالجهم فيه الشك، ولا تقفهم عنه الظنون، فما ذكر عند خاصة ولا عامة إلا اعتقدوا محبته، وأوجبوا طاعته، وأقروا بفضله، وسارعوا إلى دعوته، إلا من كان من عتاة أهل الإلحاد، الذين غلبت عليهم الشقوة، وغمطوا النعمة، وتوقعوا النقمة من شيع أعداء الدين، وأفئدة المضلين، وجنود الضالين، وقادة الفاسقين، وأعوان الظالمين، وحزب الخائنين.(1/117)
وقد كان الدعاء إليه منهم ظاهراً، ,الطلب له قاهراً بإعلان اسمه، وكتاب إمامته على أعلامكم (محمد يا منصور) يعرف ذلك ولا ينكر، ويسمع ولا يجهل، حتى صرفتموها إليكم وهي تخطب عليه، وكفحتموها عنه وهي مقبلة إليه، حين حضرتم وغاب، وشهدتم إبرامها وناء، رغبة ممن حضر، وعظيم جرأة ممن اعترض، حتى إذا حصلت لكم بدعوتنا، وهدأت عليكم بخطبتنا، وقرت لكم بسببنا، قالت لكم إجرامكم إلينا، وجنايتكم علينا: إنها لا توطأ لكم إلا بإبادة خضرائنا، ولا تطمئن لكم دون استئصالنا، فأغري بنا جدك المتفرعن فقتلنا لاحقاً بأثره فينا عند المسلمين، لؤم مقدرة، وضراعة مملكه، حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر قبل بلوغ شفاء قلبه من فنائنا، وهيهات أ، يدرك الناسُ ذلك، ولله فينا خبيَّة لا بد من إظهارها، وإرادة لا بد من بلوغها.
فالويل لكم فكم من عين طالما غمضت عن محارم الله، وسهرت متهجدة لله، وبكت في ظلم الليل خوفاً من الله، قد أسحها بالعبرات باكية، وسمرها بالمسامير المحماة، فألصقها بالجدران المرصوفة قائمة، وكم من غرة وجه طالما ناجى الله مجتهدا ً، وعنى لله متخشعاً مشوهاً بالعمد، مظلوماً مقتولاً ممثولاً به معنوفاً، وبالله أن لو لم يلق الله إلا بقتل النفس الزكية أخي محمد بن عبدالله رحمه الله تعالى للقيه بإثم عظيم، وخطب كبير، فكيف وقد قتل قبله النفس التقية - أي عبدالله بن الحسن - وإخوته وبنو أخيه، ومنعهم روح الحياة في مطابقه، وحال بينهم وبين خروج النَّفَس في مطاميره، لا يعرفون الليل من النهار، ولا مواقيت الصلاة إلا بقراءة أجزاء القرآن تجزيه، لما غابوا في آناء الليل والنهار حتى الشتاء والصيف حال أوقات الصلاة، قرماً منه إلى قتلهم، وقطعاً منه لأرحامهم، وترةً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم.(1/118)
فولغ في دمائهم ولغان الكلاب، وضرى بقتلهم صغيرهم وكبيرهم ضرواة الذئاب، ونهم بهم نهم الخنزير، والله له ولمن عمل بعمله بالمرصاد، فلما أهلكه الله قابلتنا أنت وأخوك الجبار الفض الغليظ العنيد، بأضعاف فتنته، واحتذاء سيرته، قتلاً وعذاباً وتشريداً وتطريداً، فأكلتمانا أكل الرُّبَّا حتى لفظتنا الأرض خوفاً منكما، وتأبدنا بالفلوات هرباً عنكما، فأنست بنا الوحوش وأنسنا بها، وألفتنا البهائم وألفناها، فلو لم تجترم أنت وأخوك إلا قتل الحسين بن علي وأسرته بفخ لكفى بذلك عند الله وزراً عظيماً، وستعلم وقد علم ما اقترف والله مجازيه وهو المنتقم لأوليائه من أعدائه.
ثم امتحننا الله بك من بعده، فحرصت على قتلنا، وظلمت الأول والآخر منا، لا يؤمنهم بعد دار، ولانأي جار، تتبعهم حيلك وكيدك حيث تستروا، من بلاد الترك والديلم، لا تسكن نفسك ولا يطمئن قلبك دون أن تأتي على آخرنا، ولا تدع صغيرنا، ولا ترثى لكبيرنا، لئلا يبقى داع إلى حق، ولا قائل بصدق من أهله، حتى أخرجك الطغيان، وحملك الشنآن، على أن أظهرت بغضة أمير المؤمنين، وأعلنت بنقصه، وقربت مبغضيه، وآويت شانئيه، حتى أربيت على بني أمية في عداوته، وأشفيت غلتهم في تناوله، وأمرت بكرب قبر الحسين بن علي صلوات الله عليهما، وتعمية موضعه، وقتل زواره، واستئصال محبيه، وأوعدت زائريه، وأرعدت وأبرقت على ذكره.
فوالله لقد كان بنو أمية الذين وضعنا آثارهم مثلاً لكم، وعددنا مساوئهم احتجاجاً عليكم - على بعد أرحامهم - أرأف بنا، وأعطف علينا قلوباً من جميعكم، وأحسن استبقاءاً لنا ورعاية من قرابتكم، فوالله ما بأمركم خفاء، ولا بشنآنكم امتراء، ولم لا تجاهَدَ وأنت معتكف على معاصي الله صباحاً ومساء، مغتراً بالمهلة، آمناً من النقمة، واثقاً بالسلامة، تارة تغري بين البهائم بمناطحة كبش ومناقرة ديك ومحارشة كلب.(1/119)
وتارة تفترش الخصيان، وتأتي الذكران، وتترك الصلوات صاحياً وسكران، لا يشغلك ذلك عن قتل أولياء الله، وانتهاك محارم الله، فسبحان الله ما أعظم حلمه، وأكثر أناته عنك وعن أمثالك، ولكنه تبارك وتعالى لا يعجل بالعقوبة، وكيف يعجل وهو لا يخاف الفوت، وهو شديد العقاب.
فأما ما دعوتني إليه من الأمان، وبذلت لي من الأموال، فمثلي لا تثني الرغائب عزمته، ولا تنحل لخطير همته، ولا يبطل سعياً باقياً مع الأيام أثره، ولا يترك جزيلاً عند الله أجره بمال فانٍ وعارٍ باق، هذه صفقة خاسرة، وتجارة بائرة، استعصم الله منها، وأسأله أن يعيذني من مثلها بمنه وطوله.
أفأبيع المسلمين وقد سمت إليَّ أبصارهم، أفأبيع خطيري بمالكم، وشرف موقفي بدراهمكم، وألبس العار والشنار بمقامكم، لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين.
والله ما أكلي إلا الجشب، ولا لبسي إلا الخشن، ولا شعاري إلا الدرع، ولا صاحبي إلا السيف، ولا فراشي إلا الأرض، ولا شهوتي من الدنيا إلا لقاؤكم، والرغبة في مجاهدتكم ولو موقفاً واحداً، انتظار إحدى الحسنيين في ذلك كله في ظفر أو شهادة.
وبعد، فإن لنا على الله وعداً لا يخلفه، وحتماً سوف ينجزه حيث يقول: ?وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا? [النور:55].
وهو الذي يقول عز قائلاً: ?وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ? [القصص:5].(1/120)